الهجوم الإسرائيلي استهدف حجب خطط اقتحام الجولان

12-07-2006

الهجوم الإسرائيلي استهدف حجب خطط اقتحام الجولان

- في نهاية الرحلة الشيقة التي امتدت على صفحات هذا الكتاب مع المؤلف بيير رازو، نجد أنفسنا حيال البعد البحري في حرب يونيو 1967، وهو البعد الذي لم يلق ما يستحقه من اهتمام المؤرخين والباحثين. ولابد من التوقف طويلاً عند الأسئلة التي يثيرها الهجوم الإسرائيلي على سفينة التجسس الأميركي، الذي لا يزال الغموض يحيط به حتى الآن، وإن كانت كل المؤشرات تؤكد أن إسرائيل استهدفت من ورائه حجب خططها للهجوم على الجولان عن عيون واشنطن.
بقي البعد البحري غائبا غالبا عن التحليلات العسكرية في الحروب الإسرائيلية ـ العربية عامة. مع أن هذا البعد كان له دور مهم في سير العمليات. لذلك قد يبدو من المنطقي إعطاء الجانب البحري ما يستحقه من الاهتمام.
 وخاصة بالنسبة لحرب يونيو 1967 التي كان إغلاق مضيق تيران أحد أسبابها المباشرة وحيث كانت القوات التابعة للأمم المتحدة المكلّفة بمراقبة تنفيذ الهدنة قد أخلت مواقعها في شرم الشيخ، بالقرب من تلك المضائق، قبل عدة أيام فقط من اندلاع حرب يونيو. وتندرج العمليات البحرية التي شهدتها تلك الحرب في إطار القيام بغارات تشترك فيها القطع الحربية والبحرية ومقاتلي السلاح البحري لدى مختلف الأطراف.
ويشير مؤلف هذا الكتاب منذ البداية إلى أن تلك الأعمال لم تكن حاسمة أبدا لاسيما وأن القوتين العظميين آنذاك، أي الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي لم تكونا تريدان الانزلاق نحو الانخراط في لعبة خطيرة قد لا تمكن السيطرة عليها. هذا ما يدل عليه بوضوح الهجوم الذي قام به الإسرائيليون على سفينة تنصّت إلكتروني أميركية «ليبرتي» التي كانت تتواجد في البحر مقابل شواطئ سيناء.
ما يؤكده المؤلف أيضا هو أن ميزان القوى البحري كان يميل إلى حد كبير لصالح مصر منذ الحملة الثلاثية عليها عام 1956 إذ أن سلاح البحرية أعاد يومها بناء وحداته وتجهيزاته حسب «الموديل» السوفييتي وتزوّد بغواصات ومدمّرات وطرّادات سريعة تتطلبها المعارك الشاطئية. هكذا غدت مصر بمثابة قوة إقليمية بحرية مهمّة مجهّزة بأسطول حربي هام ويبلغ عدد بحارته 000 13 رجل مع امتلاك كفاءة كبيرة في أعالي البحار كما في الأماكن القريبة من الشواطئ.
كانت قيادة ذلك السلاح تعود للأميرال سليمان عزّت وكان يضم 113 سفينة متنوعة من بينها عشرة غواصات وست مدمّرات و4 سفن حراسة و15 طرّاد قاذف صواريخ و32 طرّاد قاذف طربيدات و12 سفينة دوريات و8 سفن كاسحة ألغام. أغلبية هذه السفن كانت من صنع سوفييتي. بالإضافة إلى السفن السابقة كانت هناك 12 سفينة مساعدة.
وكان سلاح الطيران البحري تابعا لقيادة سلاح الطيران وكان يمتلك عددا من الطائرات القاذفة وطائرات الهيلوكبتر.
كان الأسطول المصري موزعا بين تسع قواعد بحرية موجودة في البحر الأبيض المتوسط (أبو قير والإسكندرية ومرسى مطروح وبور سعيد) والبحر الأحمر (الغردقة ورأس بناس ورأس غريب). لكن كانت أغلبية القطع البحرية المصرية موجودة في البحر المتوسط.
 
ويؤكد المؤلف، نقلا عن العديد من الملحقين العسكريين الغربيين الذين كانوا يعملون في سفاراتهم بالقاهرة، أن البحّارة المصريين كانوا يتمتعون بتكوين جيد ويتحلّون بكفاءة تؤهلهم للقيام بمهامهم.
أمّا السلاح السوري البحري فقد كان متواضعا عشية حرب يونيو 1967 وكان عدد بحارته يتجاوز الــ2500 عنصر بقليل. كان قائده هو اللواء مصطفى شومان وامتلك آنذاك 27 سفينة حربية من بينها 3 سفن دوريات وكاسحتين للألغام و18 طرّاد قاذف طوربيدات و4 طرّادات قاذفة صواريخ.
وحيث كانت هذه الأخيرة قد وصلت قبل فترة قصيرة من الحرب إلى سوريا ولم تكن بالتالي عملياتية عند اندلاعها. وكان الدفاع عن الشواطئ يعتمد على وجود ست بطاريات مدفعية من عيار 100 و130 ملمترا في القاعدتين البحريتين اللاذقية وطرطوس. ولم يكن سلاح البحرية اللبناني يمتلك سوى 4 سفن حراسة خفيفة. ولم تكن البحرية الأردنية موجودة.
 
موازين القوى البحرية
كان سلاح البحرية الإسرائيلية متواضعا يشتمل على 27 سفينة بحرية من بينها 3 غواصات ومدمرتان وسفينة حراسة و12 طوربيد قاذف طوربيدات و6 سفن دوريات و4000 بحّار. ولم يكن يحظى إلا بقسط ضئيل من الميزانية العسكرية الإسرائيلية.
وكانت هذه القطع البحرية موجودة في ميناءي حيفا واشدود على البحر المتوسط وفي قاعدة ايلات على البحر الأحمر. ولم تكن إسرائيل تمتلك آنذاك مدفعية لحراسة الحدود وكان الطيران يقوم بمهمات الرقابة والهجوم على السفن البحرية العائمة.
لكن منذ بداية سنوات الستينات شرعت إسرائيل بعملية تحديث لبحريتها عبر الحصول على سفن جديدة. واعتبارا من شهر مارس 1963 أجرت الحكومة الإسرائيلية محادثات سرّية مع السلطات الألمانية الغربية للحصول على تصنيع طرّادات سريعة في ألمانيا بحيث تكون مجهّزة من أجل التسلح بصواريخ بحر ـ بحر من طراز «جابرييل».
وكان المستشار الألماني آنذاك كونراد اديناور قد سمح لمصنع «لورسن» في بريم بالاستجابة للطلب الإسرائيلي. وخلال عدة أشهر فقط جرى إنجاز خطط لتصنيع طرّاد يجمع بين المحركات الألمانية والأعتدة الإلكترونية الإيطالية وأجهزة الملاحة البحرية الإنجليزية.
وصلت أخبار الاتفاق السري الإسرائيلي ـ الألماني إلى الصحافة التي نشرت تلك الأخبار فاضطرت الحكومة الألمانية إلى التخلي عن ذلك البرنامج. فاتجهت إسرائيل صوب فرنسا ووقعت معها في مايو 1965 اتفاقا مبدئيا حول تصنيع الطرّادات البحرية المطلوبة في ورشات الصناعات البحرية في منطقة النورماندي.
وتمّ بواسطة سياسيين ألمان نافذين شراء الخطط الموجودة أصلا لتصنيع الطرّادات من قبل المصنع الفرنسي مما جعله يكسب الكثير من الوقت. لكن لم يتم مع ذلك، تسليم الطرّادات الفرنسية الصنع لإسرائيل قبل شهر يونيو 1967.
كانت موازين القوى البحرية تميل بشكل واضح لصالح مصر عشية حرب يونيو 1967. لكن إسرائيل قامت خلال الأشهر القليلة التي سبقت اندلاعها بتحضيرات بحرية كبيرة ووسعت ميناء اشدود وحصلت على تجهيزات إلكترونية لمراقبة الشواطئ.
وبالتوازي مع هذا عمد مسؤولو البحرية الإسرائيلية إلى محاولة جذب أقصى هدد ممكن من السفن الحربية المصرية إلى البحر الأحمر من أجل إبعادها عن البحر المتوسط في منظور تنفيذ خطط مبيّتة.
هكذا جرت منذ مطلع مايو عملية نقل «استعراضية» لقارب إنزال كبير بواسطة البر من شاطئ المتوسط باتجاه خليج العقبة وعند وصوله إلى ميناء ايلات جرى إنزاله إلى البحر، بشكل مكشوف أيضا، ليتم استبداله عند حلول الظلام بمجسّد خادع عائم يشابهه وإعادة نقل القارب الأصلي إلى الشاطئ المتوسطي.
ثم تكررت العملية بحيث بدا للمراقبين انطلاقا من ميناء العقبة الأردني القريب أن إسرائيل تقوم بالإعداد لعمل عسكري بحري كبير في البحر الأحمر يستهدف مضائق ثيران.
هكذا توجهت بسرعة عدة سفن حربية مصرية من بينها المدمرتان (الفاتح والظافر) وسفينة حراسة (الرشيد) وعدة كاسحات ألغام إلى البحر الأحمر. وحيث أن 30 بالمئة من إجمالي القوة البحرية المصرية قد تواجدت هناك عشية حرب يونيو حسب المعلومات المقدّمة في هذا الكتاب. في ليلة 5 ـ 6 يونيو 1967 أي بعد ساعات فقط من بداية اندلاع الحرب اتجهت عدة سفن حربية إسرائيلية إلى الشواطئ القريبة من مدينة بور سعيد. كانت مهمتها هي جذب الأنظار إليها بينما أرسلت مجموعة من رجال الضفادع للتغلغل داخل القاعدة البحرية وتخريب ما أمكنهم من السفن فيه.
«السيناريو» نفسه تكرر أيضا بالنسبة لميناء الإسكندرية حيث قام رجال الضفادع البشرية الإسرائيليون بتخريب كاسحة ألغام وطرّاد لكنهم لم يستطيعوا العودة إلى حيث انطلقوا وألقت القوات المصرية القبض عليهم.
وفي الثامن من يونيو، عند نهاية الفترة الصباحية، كانت سفينة التنصّت الإلكتروني الأميركية «ليبرتي» تبحر بالقرب من العريش بسرعة خمس عقد في الساعة.
كان الجو صحوا والرؤية ممتازة وكانت السفينة ترفع العلم الأميركي. وكانت سفينة الشحن السابقة هذه التي جرى تحويلها إلى سفينة تجسس قد أقلعت من قاعدتها «نورفولك» في فرجينيا باتجاه ميناء «روتا» الإسباني في الرابع والعشرين من مايو إثر تفاقم الأزمة في منطقة الشرق الأوسط.
وصلت إلى مقصدها في الأول من يونيو ثم أبحرت في اليوم التالي إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وتأخذ موقعا جنوب جزيرة كريت حيث كانت بمنأى عن مسرح الاشتباكات المحتملة، إذ كانت وكالة الأمن القومي الأميركي، التي كانت تتولى مسؤوليتها بالمشاركة مع قيادة البحرية الأميركية، إنه ليس من المفيد اقترابها كثيرا من ساحة المعركة.
لاسيما وأن تجهيزاتها المتقدمة جدا تسمح لها بالتقاط المعلومات حيث تتواجد. لكن على العكس، كانت إدارة استخبارات القوى البحرية الأميركية الباحثة عن تعزيز مصداقيتها، تريد أن تقترب بأكبر قدر ممكن من الشواطئ لجمع الحد الأقصى من المعلومات التكتيكية الخاصة بالوسائل التي يستخدمها المحاربون.
أدّى هذا التناقض في الإرادات إلى تغيير السفينة «ليبرتي» لمواقعها عدة مرّات. وصبيحة السابع من يونيو أعطيت لها الأوامر للتحرك دون حراسة إلى نقطة محددة شرق العريش، ليس بعيدا عن غزّة، ثم التوجه نحو الإسكندرية على طول الشاطئ.
وقد وصلت إلى النقطة المحددة صبيحة اليوم التالي (8 يونيو). وخلال الطريق نحو غزّة حاولت دورية جوية إسرائيلية من عدة طائرات ميراج التعرّف عليها.
وينقل المؤلف عن الماجور «عزرا هارون» رئيس تلك الدورية الإسرائيلية قوله بخصوص مهمته: «أشارت تقارير عن وجود هدف غير محدد الهوية في عرض البحر على بعد 20 كيلومتر عن غزّة. فأقلع أحد طياري الدورية بطائرته المزوّدة بقاذفات قنابل. كان الوقت ليلا. لقد رأى السفينة المعنية على شاشة راداره لكنه كان في كل مرّة يستعد فيها للإطلاق تتشوش شاشته. لم نفهم سر ذلك. ولم نكن نعرف أي شيء عن الحرب الإلكترونية.
اتجهت بدوري نحو الهدف وطائرتي مزودة بقنبلتين ضخمتين. اعتقدت أن السفينة هي مدمّرة مصرية. لكن نفس ظاهرة التشويش تكررت (...). ثم عدت إلى قاعدتي دون أن أستطيع تنفيذ مهمتي». 
 - في الثامن من يونيو، ما بين الساعة 49,8 وبداية بعد الظهر حلقت فوق السفينة ليبرتي سفن الاستطلاع الإسرائيلية سبع مرّات. وفي نهاية الفترة الصباحية حيث كانت السفينة الأميركية على بعد 24 كيلومترا عن العريش لاحظ طاقمها أن طائرات إسرائيلية تحوم باستمرار فوقها في الجو وأن اتصالاتها الإلكترونية قد تشوشت.
وعند تمام الساعة 14 لحظوا عدة طائرات مقاتلة تتجه نحوهم وحيث قامت أربع طائرات ميراج-3 بإطلاق النيران عليها دون أي إنذار... ثم تابعت طائرتان من طراز «سوبر ميستير» القصف بعد الميراج. هكذا لمدة تزيد عن عشرين دقيقة صبّت الطائرات الإسرائيلية حممها على السفينة الأميركية «ليبرتي» إذ أفرغت عليها حمولتها من القذائف والقنابل.
ولم تعد التجهيزات الإلكترونية وتجهيزاتها سوى كومة من الحديد المحترق، كما شبّت الحرائق في عدة نقاط من السفينة. لكن المحرّك والهيكل لم يصابا وتابعت السفينة إبحارها.
لقد حاول قائدها القبطان «وليام مكجوناكل» الاتصال بقيادة الأسطول السادس في البحر المتوسط، لكنه لم يفلح في ذلك فعملية التشويش الموجهة ضد اتصالات السفينة منعت ذلك تماما.
وعند الساعة الثانية والنصف بعد ظهر ذلك اليوم اقتربت ثلاثة طرّادات إسرائيلية انطلاقا من مرفأ اشدود وتوجهت بأكبر سرعتها نحو السفينة. وتشير شهادات متعددة لبحارة أميركيين كانوا على متنها أن الطرّادات فتحت النيران مباشرة ولم تقم بأية مناورة مسبقة.
وقذفت بخمسة من أصل الطوربيدات الستة المجهزة بها، أخطأت أربعة منها هدفها بينما فتح الخامس ثغرة قطرها عشرة أمتار في هيكل ليبرتي على مستوى إحدى صالات المراقبة وقتل 27 من التقنيين التابعة لوكالة الأمن الأميركي.
جمدت السفينة في مكانها، ومنعت مقصوراتها غرقها. ولمدة تزيد عن نصف ساعة تابعت الطرّادات الإسرائيلية دورانها حول «فريستها» وأفرغت مخزوناتها من الذخائر.
أثناء ذلك كان قائد السفينة الأميركية قد أمر باستخدام الرشاشات الأربعة الثقيلة المزودة بها التي أظهرت فعاليتها في الإبقاء على الطرّادات الإسرائيلية بعيدة وحذرة.
بعد الساعة الثالثة بعد الظهر بقليل توقف فجأة هجوم الطرّادات الإسرائيلية واتصل الإسرائيليون بالسفينة الأميركية وسألوها إذا كانت بحاجة للمساعدة. وفي غمار ذلك حاولت طائرة هيلوكوبتر إسرائيلية إنزال بعد الجنود على السفينة، لكنها لم تنجح في ذلك.
ونجحت ليبرتي، رغم الخسائر الكبيرة التي أصيبت بها، في الابتعاد باتجاه الشمال. وشاءت المفارقة أن تقوم مدمرتان سوفييتيتان بحمايتها في المنطقة الشرقية من البحر المتوسط حتى وصولها إلى حيث كان يتواجد الأسطول الأميركي السادس في منطقة بحرية واقعة بين قبرص وجزيرة كريت. 
 وجرى إحصاء آثار 821 مقذوفا متنوعا على السفينة بالإضافة إلى الثغرة التي سببها الطوربيد الإسرائيلي. وكانت الخسائر البشرية كبيرة حيث قُتل 34 بحارا أميركيا وجُرح 171 منهم، أي أن نسبة 70 بالمئة من طاقم السفينة قد أصيبوا.
وبعد سد الثغرات التي يمكن للماء أن يتسرب منها إلى داخل السفينة وصلت سفينة ليبرتي بصعوبة إلى ميناء «ليتل جريك» في فرجينيا بعد فترة توقف «تقني» في مالطة يوم 14 يونيو. اعتبرت السلطات الأميركية المختصّة أن هذه السفينة لم تعد صالحة للاستعمال فبيعت ك«خردة» بكل بساطة.
ويشير المؤلف إلى أن الحكومة الإسرائيلية، ورغم أنها قد دفعت حوالي 7 ملايين دولار كتعويضات لأهل الضحايا، لم تعترف أبدا بمسؤوليتها عن تلك القضية الغريبة والتي تذكر بقضية السفينة البريطانية «كران» التي كانت تبحر عام 1956، أثناء الحملة الثلاثية على السويس، مقابل شرم الشيخ، فأغرقتها أربع طائرات إسرائيلية بحجة الاعتقاد أنها كانت السفينة الحربية المصرية «دمياط» التي كانت البحرية البريطانية قد أغرقتها في الواقع خلال الليلة السابقة.
وقد رأى العديد من المحللين آنذاك أن ذلك «الاحتقار» كان بمثابة «طعنة سكين مقصودة» من أجل إقناع الحكومة البريطانية بعدم التدخل كثيرا في الشؤون الإسرائيلية.
-  يتم التأكيد في هذا السياق على أنه رغم بذل الحكومتين الأميركية الإسرائيلية الجهود لتقديم الهجوم على سفينة ليبرتي الأميركية باعتباره حدثا هامشيا، فإن مؤشرات عديدة تدعو للاعتقاد أنها كانت ذات أهمية مركزية في حرب يونيو 1967. شكّلت الحكومتان لجنتي تحقيق لتوضيح ما جرى في تلك القضية «رغم أنها قليلة الغموض».
ويشير المؤلف في هذا الإطار إلى بعض «الغرابة» في عمل اللجنة الأميركية. يقول: «من المثير للدهشة أنه، وعلى الرغم من العدد الكبير للقتلى الأميركيين في تلك القضية، فإن جميع الطلبات التي تقدّم بها الكونغرس للمشاركة في التحقيق جرى رفضها من قبل السلطة التنفيذية التي استخدمت لتلك الغاية جميع الإجراءات المتاحة».
ثم يضيف: «كانت تلك هي المرّة الأولى منذ تدمير السفينة الأميركية ـ مين ـ في مرفأ هافانا عشية الحرب الإسبانية ـ الأميركية عام 1898، التي لم يؤد فيها حادث كاد يُغرق سفينة تابعة للبحرية الأميركية إلى فتح ملف تقوم فيه لجنة تابعة للكونغرس بالتحقيق».
أعدّت اللجنة الأميركية المكلفة بالتحقيق تقريرا من 174 صفحة وأرسلت نتائجه إلى وزير الدفاع يوم 16 يونيو، أي قبل انقضاء عشرة أيام على الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف ليبرتي.
وجاء فيه أن السفينة كانت تقوم بتأمين الاتصال بين مختلف البعثات الدبلوماسية في الشرق الأوسط من أجل جمع المعلومات الخاصة بالمواطنين الأميركيين المقيمين في المنطقة وتنسيق عملية ترحيلهم إذا دعت الضرورة.
لقد طمسوا الطبيعة الحقيقية لمهمة «ليبرتي». وأشار التقرير إلى أن السفينة كانت ترفع بشكل واضح العلم الأميركي أثناء تعرضها للهجوم.
وأعلنت لجنة التحقيق الإسرائيلية أن ما جرى كان نتيجة «خطأ غير مفسّر للتعرف على هوية السفينة». وحمّلت الخطأ لأجهزة الاستخبارات التي صنّفت «السفينة غير المعروفة» أنها «معادية»، وأن تلك الأجهزة نفسها قد حددتها بأنها مدمّرة مصرية.
هنا يفتح مؤلف الكتاب قوسين ليتساءل: «كيف يمكن مع ذلك الخلط بين سفينة طولها 137 متر مثل ليبرتي بهيكلها العالي فوق سطح البحر وصواريها الهائلة للكشف مع أجهزتها اللاقطة المرئية، ولا يبدو عليها أي تسليح ظاهر مع مدمّرة نحيلة طولها 106 أمتار ومسلّحة بخمسة أبراج للمدافع ظاهرة جدا؟».
وبعد أقل من خمسة أسابيع من عمل اللجنتين المكلفتين بالتحقيق الأميركية والإسرائيلية، جرى تقديم النتائج التي تمّ التوصل إليها بفاصل زمني لا يتعدّى عدّة أيام. «وكان التقريران المقدّمان مكتوبين بكلمات متشابهة إلى حد مدهش»،
كما يشير المؤلّف، وحيث أكّدا رسميا، كلاهما، أن المسألة تتعلق بإهمال غير مقصود، أو بـ «خطأ مأسوف عليه» كما قال القاضي العسكري الإسرائيلي في تقريره الذي أنهاه بالجملة التالية: «لم أكتشف أقل تقصير أو أقل خطأ، يمكن تبرير توجيه الاتهام لأي إنسان في هذه القضية». - مثل هذه الأطروحة «تبدو مع ذلك صعبة التصديق». ثم إن تقارير أميركية أشارت إلى التناقضات التي احتوى عليها التقريران. كما أن المدعي العام العسكري الإسرائيلي «كيومي»، الذي كان قد اشترك في إعداد تقرير لجنة التحقيق، رفع مذكرة للحكومة وضّح فيها مسؤولية القيادات العسكرية الجلية، وطالب بتوجيه الاتهام رسميا لعدة جنرالات تورطوا مباشرة في القضية. لكن لم تجد تلك المذكرة أي أذن صاغية.
وهنا يسأل المؤلف من جديد: «كيف يمكن تفسير عدم تحقيق الكونغرس أبدا في القضية؟» و«لماذا أكد موقع الانترنيت التابع لوكالة الأمن الأميركي أن تلك القضية لم تتوضح أبدا؟» و«كيف يمكن تفسير عدم تعرّف الإسرائيليين على هوية السفينة بعد مراقبتها لمدة تزيد عن ست ساعات مع أنها كانت ترفع بجلاء العلم الأميركي؟» ولماذا؟ لماذا؟
ومن خلال سلسلة من التساؤلات يصل إلى نتيجة مفادها: «إن جميع أشكال عدم الانسجام في التبريرات المقدمة تجعل الأطروحة الرسمية المقدّمة قليلة الاحتمال بينما تدعو على العكس، للاعتقاد بمصداقية أطروحة الهجوم الإسرائيلي المتعمّد».
وهنا ينقل المؤلف عن «دوايت بورز»، السفير الأميركي في بيروت أثناء حرب يونيو 1967، قوله بعد عدة أسابيع من تلك الحرب لصديقه «وليام شاندلر» ما نصه: «كانت سفارتنا في لبنان مجهّزة بكل الأعتدة المتقدمة التي سمحت لها بالتنصت وبتسجيل كل ما كان يجري في الشرق الأوسط.
ويوم الهجوم على سفينة ليبرتي سمعنا طيارا إسرائيليا يبدي دهشته لدى برج المراقبة الجوية أمام طلب الهجوم على سفينة ترفع بوضوح العلم الأميركي! وأنه تلقى الإجابة التالية: لا يهم، لديك أوامر صريحة بالهجوم، فافعل ذلك».
لكن لم يتم استئناف الحديث عن الهجوم الإسرائيلي المتعمد على ليبرتي في أميركا إلا في مطلع سنوات الثمانينات عندما كتب «جيمس اينيس» عن «الهجوم على ليبرتي وطالب السلطات الأميركية من موقعه كأحد الأحياء الذين كانوا على متن السفينة عند الهجوم عليها بتسليمه نسخة عن تقرير اللجنة الإسرائيلية. لكن الإجابة كانت هي الرفض القاطع بحجة أن ذلك «سيسيء للعلاقات مع بلد حليف». 
 - التفسير المقدّم يقول أن الإسرائيليين كانوا على استعداد لفعل أي شيء من أجل المحافظة على سرية الهجوم الذي كانوا يخططون له لليوم التالي على الجولان في الوقت الذي كانت فيه وزارة الخارجية الأميركية تمارس ضغوطها لإرغام إسرائيل على وقف إطلاق النار تحت إشراف الأمم المتحدة بينما كانت قيادة الأركان الإسرائيلية تريد بشتى الوسائل كسب الوقت لاستكمال مشروعها في احتلال الجولان. 
وهناك أطروحة أخرى ينقلها المؤلف عن «بيتر هونام» الذي عرض في كتاب له «سيناريو» يقول أن الرئيس جونسون ووزير الدفاع مكنمارا ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانوا على علم مسبق بما ستتعرض له «ليبرتي» وأنهم كانوا يريدون تحميل مسؤولية الهجوم لمصر من أجل إسقاط نظام عبد الناصر ولو كان ذلك ضمنه التضحية ب«سفينة أميركية». وكانت هناك سابقة خليج تونكين عام 1964 التي جرى استخدامها حجة للتدخل الأميركي في فييتنام.
 ويضيف «هونام» أن مخطط التدخل الأميركي في مصر لم يتوقف إلا بعد «الإنذار» الذي وجهه رئيس الوزراء السوفييتي كوسيجين للرئيس جونسون وطالب فيه بوضع حد لـ «كل مبادرة يمكن أن تؤدي إلى إثارة نزاع لا يمكن السيطرة عليه ولا يمكن حساب نتائجه». 
ثم إن هذا التفسير يتماشى مع ما كتبه وزير الدفاع الأميركي أثناء حرب يونيو روبرت مكنمار بعد عشرين سنة عندما قال: «جرى في شهر يونيو 1967 تجنب قيام حرب عالمية ثالثة في اللحظة الأخيرة. لكن الاستيلاء السياسي على الشرق الأوسط لم يكن يبرر تدمير موسكو ولا تدمير نيويورك».
شنّت إسرائيل «حرب الأيام الستة» صبيحة الخامس من يونيو 1967 وانتهت تلك الحرب في العاشر من الشهر نفسه. كانت هزيمة ساحقة للجيوش العربية واحتلت إسرائيل سيناء والضفة والجولان لتزيد مساحتها أربعة أضعاف ما كانت عليه عندما أقاموها عام 1948.
هكذا تغيّرت المعطيات الإستراتيجية في الشرق الأوسط. وتجذرت في إسرائيل عقدة «التفوق الأعمى» لترتسم مع نهاية حرب يونيو 1967 آفاق حرب أكتوبر 1973. إنه الانتصار الذي حمل في طياته أسباب حروب مستقبلية كما كتب الأميرال بيير كوست في تقديمه للكتاب.

 

بيير رازو  
المصدر: المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...