«جمهورية» جان بودان: جوهر الأمر الوصول الى الحق لا الى السلطة

29-11-2011

«جمهورية» جان بودان: جوهر الأمر الوصول الى الحق لا الى السلطة

ربما يكون جان بودان منسياً بعض الشيء اليوم. وفي الفكر السياسي وتاريخيته، من المؤكد ان من يعتبر عادة منافسه الرئيسيّ فكراً ومنطقاً - أي الإيطالي نيقولو ماكيافيللي (صاحب «الأمير») - يفوقه شهرة بكثير، ما يجعل من الممكن الافتراض، بأن «المعركة» الفكرية التي خاضها بودان ضد فكر ماكيافيللي انتهت لمصلحة هذا الأخير، وحتى على مستوى التلقي الشعبي للفكر السياسي، دخل «الأمير» في الوعي العام، سلباً أو ايجاباً، كجزء اساس من الفكر السلطوي، فيما يبدو بودان (ولا سيما نصّه الأشهر - في زمنه - «كتب الجمهورية الستة») غائباً تماماً، بالكاد يحفل به احد خارج نطاق الجامعات والحلقات الفكرية الضيقة.

> هذا كله يكمن في سطح الأمور فقط، فإذا كان «أمير» ماكيافيللي بقي في الذاكرة الشعبية، بذاته كمرجع يستدلّ به ويستند إليه، فإن فكر بودان بقي أيضاً من خلال مؤثراته ومن خلال كونه مرجعاً اساسياً، لبعض اهم نتاجات الفكر السياسي العالمي، خلال القرون الأربعة الأخيرة. ذلك ان كتاب بودان كان له أثر متراكم وورثة استخدموه وطوّروه، ومن بينهم خصوصاً الإنكليزي هوبس، فيما ظل فكر ماكيافيللي قادراً على الحضور من دون ورثة حقيقيين، ومن دون ان يشكل مرجعاً يستند إليه اي فكر سياسي تالٍ. بل لعلنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا ان «الأمير» يعيش في سلبيته، ومن خلال ما يؤاخذ عليه، فيما بودان يعيش كخطوة انعطافية في مسار الفكر السياسي العالمي الممتد من «جمهورية افلاطون» حتى العصور الحديثة. ولنقل بالأحرى ان الفارق الأساس بين الاثنين يكمن في ان «الأمير» اهتم برسم الواقع انطلاقاً من نظرة سوداوية الى السلطة وممارساتها في زمنه، فيما نصّ «كتب الجمهورية الستة» يكاد يكون تلخيصاً لتطلعات الفكر في المجال السياسي، وأحياناً من موقع «طوباوي» كان يبدو في زمنه غير قابل للتطبيق.

> وقد أصاب المفكرون الذين كانوا يرون ان ماكيافيللي وبودان، على تناقضهما، كانا متكاملين، بمعنى ان واحدهما يرسم الواقع وينطلق منه، فيما يرسم الثاني ما يجب ان يكون عليه الواقع.

> جان بودان كان همه، اصلاً، ان يستعيد للسلطة قوتها ومكانتها وسط مناخ من التسامح الديني، وذلك في زمن كان ابعد ما يكون عن ذلك التسامح. فهو عاش في منتصف القرن السادس عشر وسط عالم ممزق بالصراعات الدينية، تفقد فيه السلطة السياسية، مهما كانت قوية، قوّتها لمصلحة صراعات وتعصّب تمزق المجتمع. من هنا عرف بودان دائماً بكونه «فيلسوف سياسة ذا تطلع طليعي» يسعى الى وضع الأسس لحكم مثالي، يقوم على اساس ملكية ديموقراطية، «تنسف الملكية القائمة والبرلمان، عبر سلطة دستورية مطلقة تتأسس على حق إلهي لا يحدّه سوى القانون الطبيعي». إن هذا الكلام كله قد يبدو في اطارنا الفكري الراهن، حافلاً بالمتناقضات، غير انه في اطاره الزمني والفكري، سيبدو واضحاً انه يقوم على اسس الموازنة الدقيقة بين الاحتمالات الممكنة، انطلاقاً من سمات متعددة لواقع ينبغي تجاوزه.

> إذاً، يركز جان بودان، في كتابه هذا، على نموذج سياسي محوره قيام منظومة مدنية تتمحور حول الطاعة لعاهل، يعرف جيداً احتياجات المواطنين ويسير على هديها (هل نحن بعيدون جداً عن نظرية «المستبد العادل»؟). وفي مثل هذه المنظومة يكون من الضروري، وفق بودان، احترام قرارات السلطة، بغية تفادي الفوضى العارمة التي كانت مستشرية خلال القرن السادس عشر، والتي سيكون بودان نفسه واحداً من ضحاياها، إذ سرعان ما سنجده متّهماً بالهرطقة على رغم الكثير من التنازلات التي عبّر عنها مبدياً خضوعه الكلي لما هو قائم في زمنه!

> وبودان، الذي كان افلاطونياً في روح فكره، ارسطياً في اسلوبه، حرص على ان يختتم كتابه هذا بأنشودة افلاطونية مؤثّرة تحدث فيها الى العدالة الإلهية طالباً عونها، غير ان هذا لم يشفع له. لكن الجوهر ليس هنا، الجوهر في فكر بودان هو انه كان يرى - وعلى عكس ماكيافيللي تماماً - ان الأساس في «فن السياسة، ليس الوصول الى السلطة بكل الوسائل الممكنة، بل الوصول الى الحق، اي الى تطابق ممارسات الحكم مع كل قوانين الكون والإنسان الكبرى». وفي هذا الإطار من المؤكد ان «الحيلة والجرأة اللتين يمارسهما أمير ما، لا تكونان على اهمية اقامة بنية صحيحة للمؤسسات». ما يعني ان بودان يرى روح الدول في تلك القوى التي «اهملها ماكيافيللي تماماً: الدين، الأخلاق والعدالة، والغريزة العائلية». والحال ان «العائلة» ومفهومها يلعبان دوراً اساسياً لدى بودان، ذلك ان «العائلة المسيّرة تسييراً حسناً، هي الصورة الحقيقية للجمهورية». كما ان «القوة داخل البيت تشبه قوة الملك داخل الأمة». وهذه الفكرة التي ترى ان الخلية الاجتماعية الأولية والأساسية توجد في العائلة لا في الفرد، هي التي هيمنت على فكر بودان (وستجد تعبيراً مهمّاً عنها لدى ورثته، في هذا الإطار على الأقل، من بونالد الى أوغست كونت وغيرهما) وكان بودان هو اول من عبر عنها وقنّنها في الفكر الغربي الحديث. بل إنها تشكل المبدأ الأساس لتصوره للدولة، وفق دارسيه. ذلك ان العائلة هي التي تصور افضل تصوير بتماسكها ووظائفيتها، الصورة التي يريدها بودان لـ «الجمهورية» (ولا نعني هنا بالطبع الحكم الجمهوري بالمعنى الحديث للكلمة، بل حكم «الجمهور» من جانب ذلك المستبد العادل). فالعائلة تعبّر عن الوحدة والتماسك والاستقلال، وأكثر من هذا: عن الواقع الملموس للكائن السياسي. وانطلاقاً من الخلية العائلية يرسم بودان إذاً، صورة للسلطة ترتبط بمفهوم السيادة في الشكل الذي كانت تعبّر عنه، من ناحية عملية، تطلعات اصحاب النزعة القومية الصاعدة في القرن السادس عشر. والحال ان بودان من بعد ما حدد هذا الأساس الذي اعتبره جوهرياً، يبدأ باستعراض شتى الأشكال الكلاسيكية للحكم: من الديموقراطية التي، في رأيه، تستند الى «حلم يقف ضد الطبيعة يتحدث عن مساواة مستحيلة بين البشر»، الى الأرستقراطية التي «تتصدى في شكل جيد لتحدي صعوبة الوصول الى اتحاد دائم للبشر النزهاء والمعتدلين في تطلعاتهم الشخصية». وأخيراً الى الملكية، التي من الواضح ان بودان يفضلها على غيرها.

> ولد جان بودان في مدينة آنجيه الفرنسية في عام 1530، وعاش حياة شديدة التقلب انتهت في عام 1596. بيد ان بودان هو واحد من المفكرين الذين يعرفون بإنتاجهم الفكري، اكثر مما بحياتهم الشخصية. وإنتاج بودان كان كبيراً ومتنوعاً، بل ان البعض يعتبره واحداً من مؤسسي «الشمولية الفكرية» في العصور الحديثة، إذ نراه يسير في هذا على خطى الفلاسفة الإغريق القدماء. ومع هذا، مهما كان تنوع مؤلفات بودان، في مجال التاريخ أو تاريخ الأديان أو علم المناخ او العلوم السياسية، يبقى انه يبدو في نهاية الأمر وكأنه يحرص على ان يسخّر كل معارفه، وكل المعارف السابقة عليه، من اجل بناء نظريته السياسية وإغنائها. ومن هنا يرى الكثير من الباحثين ان كتابه «كتب الجمهورية الستة» (والذي يعرف، عادة، اختصاراً باسم «الجمهورية»، ما يوحي في الوقت نفسه بأفلاطونيته)، هو الكتاب الأساس لديه، أو خلاصة كتبه وأفكاره جميعاً. وهو نشره للمرة الأولى في العام 1576. ومما يذكر من كتب بودان الأخرى «نظرية المناخات» الذي تأثر به مونتسكيو كثيراً، وحاكاه في وضعه هو الآخر لنظريته في المناخات مطوّراً إياه على ضوء ما طرأ على العلوم في زمنه. وهناك ايضاً «منهج التاريخ» و «مسرح الطبيعة»... الخ.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...