الدولة و الإبداع (معادلة خطاب الخصوصية والحرية والسلطوية)

03-06-2010

الدولة و الإبداع (معادلة خطاب الخصوصية والحرية والسلطوية)

" و أخيرا إذا منح كل واحد نفسه للمجموعة كلها فإنه لم يمنح نفسه لأحد و لما لم يكن ثمة شالفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزاريك لا يمنحنا نفس الحقوق التي وهبناه إياها غنمنا ما يساوي عزمنا كله مزيدا من القوة للحفاظ على ما هو حاصل لدينا.

و هكذا فإنّ العقد الاجتماعي إذا خلّص مما ينافي ماهيته ألفيناه مختصرا في العبارات التالية:أن يضع كل واحد منا شخصه و كل ما له من قوة تحت تصرّف المجموعة و أن يخضع لمشيئة الإرادة العامة و أن يلتحم بكل عضو من أعضاء المجموعة باعتباره جزءا لا يتجزأ منها"" روســـو".

لقد أضحى من النوافل الحديث عن ضرورة الدولة لتشكل النمو الثقافي و الحضاري للأفراد إذ أنّ كل التصوّرات السياسية منذ " أرسطو " إلى المعاصرة لم تستطع أن تنفي أهمية هذا الجهاز و دوره في تنمية الوعي و تأثيره في توجيه اختيارات الأفراد مهما اختلفت مواقفهم السياسية و مهما تنوّعت تجاربهم الجمالية.

ذلك أنه لا يمكن الحديث عن تطور فني في دولة تدفع الثقافيّ و ترعى مؤسساته الجانب الإبداعي في الأفراد و لنا في الثورة الفرنسية نموذج يمكن أن نفهم به حرص هذه"الدولة البورجوازية" على رعاية الفن و المنتجات الثقافية من شعر و نثر
ورسوم و موسيقى.

لقد اعتبرت الدولة جملة من المؤسسات و القوانين و الهياكل التي أبدعها الإنسان لضرورة التواصل ضمن الائتلاف الجماعي سعيا إلى خير الجماعة فسعت هذه المؤسسة الكبرى إلى رعاية مصالح الأفراد و رعاية منطلقاتهم الاعتقادية و الروحية و هو ما كشفته لنا الدولة اليونانية تلك المدينة التي كانت تحتفي بالفنون " الكلاسيكية " و تجسّدها في " نحت " يسلب ألباب الناظرين إليه.

إنها المدينة الدولة كما عاشها اليونان و كما حاول " أرسطو " أن يجسدها في كتاباته مشروع إسعاد الإنسان في فضاء عملي يكون " الخير " نموذجه و غايته.
لقد استطاعت الميتولوجيا الإغريقية و من ورائها الفن الإغريقي أن تعبّر عن عمق هذا الحس الفني الذي تكشفه لنا مخلفات الإغريق من ملاحم و نحت و آثار فكرية و فلسفية متنوعة ما كان لها أن تحضر لولا تشجيع حكام المدن على سياسة الحوار.

فكانت"الأغورا"الساحة حيث يجتمع المتحاورون فتكون مقارعة الحجة بالحجة كذلك كان الأمر و كذلك كانت الدولة المدينة كما عاشها اليونان و كما رسمها عقل الفلاسفة باب سلطة الدولة الفكرة على الوجود السياسي و الأخلاقي فكان القول العلن فتطور الإبداع و تعالت أصواته في فضاءات تحتفل بإنسانه.

و لم يكن باب احتفاء السياسي بالإبداع مختفيا بعد ذاك العصر اليوناني الرائع بل جسدت الثورة البورجوازية مع مفكري فلاسفة الأنوار" روسـو – فولتار – مونتسكيو" خير إشعاع لصورة ثقافة انسانوية رائعة تحتفي بالاختلاف و تجسد حرية القول و التعبير نموذجا صادقا لحياة فاضلة يتمتع بها الفنانون ففرض منطق الحوار كباب ضروري لتطوير الوجود الثقافي الواعي مما يؤسس لحياة مدنية متطورة قوامها احترام الدولة للفرد و لحق الاختلاف.

فهل نحن أمام باب يتصالح فيه الإنسان مع الدولة ليهمّش كل حضور إنساني يفعل في "الآخر" لتكون جدلية الدولة و الإبداع تهميشا للفرد و قتلا لخصوصية الإبداع الذاتي كحرية تتجاوز كل قيود سلطوية فوقية؟

إن جدلية الدولة و الإبداع لا تعني البتة تغييب الفردية بقدر ما هي اعتراف بضرورة دعم الدولة لتقدم الفكر نظرا إلى صلاحيتها المهولة داخل الوجود الإنساني و لقد سبق لماركس في كتابه " مقدمة عامة لنقد الاقتصاد السياسي " أن عبّر عن إمكانيّة تجاوز الجميل لعصره مما يجعله خصوصية يصعب حصرها في موضوعية مقننة" ... إن الفن الإغريقي و الملحمة يحدثان فينا إلى حد الآن متعة جمالية".

قد يبدو هنا القول غريبا في ظاهره لاسيما و أنّ المتعارف عن " ماركس " قوله باجتماعية الوعي الإنساني و اقتصاديته و تاريخيته أي أنّ الوعي خاضع إلى زمان و مكان موضوعيين لكن باطن هذا القول لا يلغي أبدا جدلية الوعي و العصر بقدر ما يؤكد خصوصية هذا الجميل باعتباره قدرة فردية على التخيّل وعلى معاناة الحالة الفنية خارج كل ضوابط زمكانية صارمة.

فهل من غاية يرجوها " الفن " من الدولة؟ و هل من الحكمة أن نبحث للفن عن خصوصية زمن سيطرة الزمكان على كل خيال؟

إن وعينا الثقافي وجب اليوم أن يؤكد لنفسه أكثر من الأمس دور الدولة في توجيه الفكر و توجيه الخطاب الثقافي لذلك وجب أبدا علينا أن ننام مستيقظين إذ في خطاب "السلطة" ما يجعلنا في عصر العولمة نحسب لهذه "السلطة السياسية" مليون حساب لأنها راعية كل شيء إنها على حد عبارة " ماركوز""دولة أخطبوطية" تسعى إلى مزيد إحكام قبضتها على الإنسان فتكون الحرية قائمة على محاولتنا أبدا نقد مشروعها المتعاظم في سعيه لاستبدال الجميل بالنافع و الخير بالمصلحة.

أما"الخصوصية" فإنها سوف تكون محاولة نقدية تتوجه إلى ذاك الفني الذي يسعى هذا الواقع الاقتصادي و السياسي المعاصر لطمسه من خلال تهميشه لدور الذات و الخيال
واللغة و استبدالها بمقاييس عامة يغيب فيها الفعل و التغيّر و التأثير و هو ما تكشفه ثقافة الإعلامية و صرامة تطبيقات برمجياتها.

فهل نحن عندئذ أمام تغييب لكل حقيقة تجمع بين هذا الإبداع و بين تلك الدولة؟ أم هي ضرورة هذا العصر – و لا غيره – تقتضي منا مراجعة علاقة الدولة بالإبداع؟
إنها الجدلية و هي تحكم الوجود فتسعى لبسط حضورها على كل الموجودات فلم لا نفكر مجددا في ثنائية هذه العلاقة بين هذه الدولة و بين ذاك الإبداع؟

و لم لا نفكر مجددا في تلك الخصوصية التي كانت و لازالت روح كل عمل فني يتوق إلى تجاوز زمانه و مكانه في لغة و خيال و ذات ترتفع عاليا و تحلق أبعد من كل طير نراه؟

"إن غاية الدولة القصوى ليست السيطرة فلم توجد الدولة لتحكم الإنسان بالخوف و لا لتجعله ملكا لإنسان آخر بل وجدت لتحرّر الفرد من الخوف حتى يعيش في أمن أي حتى يحفظ حقّه الطبيعي في الوجود و في الفعل... إذن فغاية الدولة في الواقع هي الحرية""سبـيـنـوزا".

حاتم النقاطي

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...