سوريا إذ تحرج أصدقاءها فيعجزون عن الدفاع عنها
تضعنا ممارسات النظام السوري في موقف حرج. نحن الذين ندرك أن سوريا تتعرض للتآمر والابتزاز، سواء من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، أو من جانب إسرائيل، ونفهم أنه بعد إسقاط النظام العراقي وتدمير دولته، فإنه لولا التحرك السريع للمقاومة العراقية، لكان الطريق ممهدا ومفتوحا للانقضاض على سوريا، لإحكام إخضاع الأمة العربية، وإلحاقها بالمركبة الأميركية والإسرائيلية. في مواجهة ذلك كله فإن كل مؤمن بعروبته ومخلص لها يجد نفسه في الصف الرافض لكل تلك السياسات، ومن ثم مساندا لسوريا ومدافعا عنها.
ولأنني واحد من هؤلاء ، فإنني أجد حرجا شديدا في استمرار دفاعي عن سوريا، حين أجد أن نظامها يقدم بممارساته نموذجا لما لا ينبغي الدفاع عنه، نموذجا يدفع المرء تلقائيا للسخط والنفور، ويوفر للمتربصين والكارهين مزيدا من الحجج والذرائع لتسويغ الضغط على دمشق وابتزازها. ما أعنيه على وجه التحديد هو تلك الاعتقالات التي يتعرض لها المثقفون الوطنيون هناك بين الحين والآخر، لا لشيء إلا لأن بعضهم يتبنى مواقف مختلفة أو ناقدة للخط السياسي الرسمي، وهو ما حدث مؤخرا مع الكاتب والمفكر المرموق ميشيل كيلو، وعدد آخر من أمثاله، الذين القي القبض عليهم لمجرد أنهم وقعوا مع آخرين من المثقفين اللبنانيين بيانا مشتركا يتعلق بعلاقات البلدين، استشعارا منهم بأن ما بينهما من وشائج من القوة والعمق بحيث ينبغي الحفاظ عليها في ظل كل الظروف والتقلبات. وهو الوضع القائم الآن، الذي توترت فيه العلاقات السياسية بين البلدين للأسباب المعروفة، الأمر الذي القى بظلاله الكئيبة على علاقات الشعبين، وهو وضع بائس حاول المثقفون في البلدين البحث له عن حل، يحقق «تطبيع» العلاقات بينهما، واعتذر عن استخدام مصطلح «التطبيع» الذي ابتذل وساءت سمعته، بعدما أصبح يستخدم في الإشارة إلى التصالح مع إسرائيل، قفزا فوق القضية الفلسطينية، وغالى البعض في ذلك الاتجاه حتى أصبحت بعض الأنظمة العربية تقدم التطبيع مع العدو الإسرائيلي، على تطبيع العلاقة مع قواها الوطنية، أو مع جيرانها العرب والمسلمين.
ومن أسف أنها مشكلة لا تعاني منها سوريا وحدها، وإنما لها نظائرها بدرجة أو أخرى في دول عربية أخرى، تسعى فيها السياسة إلى تأميم الثقافة وإلحاقها بعجلاتها. الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى إماتة الثقافة وإفساد السياسة، فالإلحاق يميت الثقافة لأن المثقف الحقيقي لا يستطيع أن يعيش إلا في جو من الحرية، وإذا ما الحق بالسياسة فإنه يصبح مثل السمكة التي أخرجت من الماء، وفي أحسن أحواله فإنه يتحول إلى بوق وصدى، الأمر الذي يفقده شرعيته وينهي دوره التنويري، وحين يصبح المثقف بوقا، وينضم على جوقة المصفقين والطبالين والمهرجين، فإنه يحرم السياسة من إمكانية إثراء التجربة وتصويب مسيرتها، وذلك طريق الندامة بامتياز لأن غياب الرأي الآخر هو من شأنه أن يفتح الأبواب واسعة لتنامي ظاهرتي الاستبداد والفساد، وحين تلتقي الظاهرتان وتستفحلان فإنهما تدفعان أي نظام إلى الهاوية في نهاية المطاف.
لقد تعرضت شخصيا لتجربة من ذلك القبيل، حين اتخذ الرئيس السادات موقفا معاديا للثورة الإيرانية، بعد نجاحها في عام 79م. وكنت أحد الذين لم يقتنعوا بذلك الموقف معتبرا أن إيران في كل أحوالها تظل عمقا استراتيجيا للدول العربية يجب الحفاظ عليه، خصوصا في ظل الثورة التي انقلبت على استبداد الشاه، واتبعت سياسة رافضة للهيمنة الأميركية ومعادية لإسرائيل، ودفعني ذلك الاقتناع إلى تبني موقف التواصل والمتابعة وليس المقاطعة أو المخاصمة للثورة الإسلامية وكان كتابي «إيران من الداخل» من ثمار خبرة تلك المرحلة، غير أن ذلك السلوك من جانبي لم يعجب الرئيس السادات وأجهزته حيث كان مطلوبا ـ فيما بدا ـ أن يلتحق الكتاب والمثقفون بالموقف السياسي ويعبروا عنه، وحين أراد الرئيس أن «يؤدبني» من جراء ما اقترفت، فإنه وضع اسمي على رأس الذين جرى إبعادهم من وظائفهم بالمؤسسات الصحفية في عام 80، وهي الخطوة التي تورط بعدها في خطأ آخر، حين أمر باعتقال كل رموز مصر ووضعهم في السجن، وكانت نهايته المأساوية بعد ذلك حيث تم اغتياله في عام 81.
كنت أتابع ميشيل كيلو، وهو يتحدث من دمشق عبر الفضائيات العربية، وقدرت فيه عمق نظرته وسعة معارفه وهدوءه المقنع، ثم أتيح لي أن التقيه لأول مرة قبل أسابيع في الشارقة، حين اشتركنا مع آخرين في ندوة «دار الخليج» حول الإصلاح السياسي في العالم العربي، فزاد تقديري له، كمثقف محب لوطنه، غيور على أمته، ومشغول بقضية النهضة ومعوقاتها التي تتراكم في العالم العربي، وحين دار بيننا حوار حول قضية التنوير والأفكار المتقدمة في الساحة الإسلامية خصوصا كان الاتفاق بيننا كبيرا، ما زاد من الألفة بيننا، الأمر الذي فتح الباب لمقترحات تعلقت بالتعاون المشترك في المجالات التي تطرق الحديث إليها.
استطيع أن أقول من واقع خبرتي بالرجل، على محدوديتها، بأنه نموذج للمثقف المستقل. ليس سياسيا، ولكنه مهموم بالسياسة التي تقود إلى النهضة، ليس شعبويا ولكنه مشغول بقضايا الفكر الذي يغير الواقع إلى ما هو أفضل وأجمل، ولأنه مثقف مستقل فكان لا بد أن يكون عصيا على الإلحاق والاستتباع، وبالتالي كان لا بد أن يكون متمردا ومعارضا، وهو الموقع الطبيعي لأي مثقف يحرص على ان يكون تعبيرا عن ضمير أمته، وليس بوقا لنزوات حكومته، من هذه الزاوية، وفي ظل الأنظمة القمعية التي ترفض الرأي الآخر وتسحقه، فإن مثل هذا الرجل لا بد أن يكون متهما، وبالتالي فإنه يصبح مدرجا ضمن القوائم السوداء، ومكانه في زنزانة وراء الشمس، وليس على منصة مخاطبة الرأي العام. ان الذين يتبعون ذلك النهج بزعم المحافظة على النظام والحيلولة دون بلبلة الجماهير أو تعكير الصفو العام، هم أكثر من يسيء إلى النظام بتشويه صورته وإضافة قسمات القبح إلى وجهه، وإجهاض كل الآمال المعلقة عليه، ليس ذلك فحسب، وإنما هم يجهلون طبيعة دور المثقف ويجهلون أن ممارساتهم مهما بلغت سريتها فإنها تفضح وتعمم على العالم كله خلال دقائق معدودة، ويجهلون أنهم يتطوعون بإهداء أعداء الأمة حججا وذرائع أضافية لتسويغ الانقضاض عليها بعد تعبئة الرأي العام ضدها، ويجهلون أنهم بممارساتهم تلك يزيدون من عزلة سوريا سياسيا ومن إحكام الحصار حولها. ولو أدرك المسؤولون في دمشق حجم الأضرار التي عادت على النظام والبلد من جراء القبض على ميشيل كيلو والدكتور عارف دليلة، وعلى أمثالهما من النشطاء والمثقفين الوطنيين، لسارعوا بإطلاق سراحهم والاعتذار لهم، وتعويضهم عن السنوات التي قضوها في الحبس والإضرار والعذابات التي لحقت بهم من جراء ذلك.
لست في مجال مناقشة مضمون الإعلان المشترك الذي وقعه المثقفون السوريون واللبنانيون، لكي أعرف شيئين، أولهما أن هؤلاء المثقفين انطلقوا في إصدار بيانهم من الحرص على تمتين وتصحيح العلاقات السورية اللبنانية، بما يضعها في الاتجاه الذي يعزز وشائج الشعبين، ويخدم مستقبلها المشترك، الأمر الثاني أن كلامهم ليس معصوما ولا مقدسا، وإنما يؤخذ منه ويرد، فتقبل منه أشياء وترفض منه أشياء أخرى، وفي كل الأحوال فإنه يحسب لموقعيه فضل المحاولة على قاعدة إن من اجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر.
غاية ما يمكن أن يقال في حق الإعلان المشترك أن موقعيه عبروا عن موقف لم ترض عنه حكومة دمشق، وبدا في بعض مواضعه مغايرا للخط السياسي الرسمي، ما الضرر في ذلك؟ ولماذا لا تتسع صدور أصحاب القرار للاستماع إلى رأي آخرين، ممن ليسوا أقل منهم وطنية ولا حرصا على المصلحة العامة، بل أزعم أنهم ربما يكونون أكثر وطنية وحرصا، لأن الأولين قالوا كلمة في الدفاع عن بلدهم وهم يعلمون أنهم قد يدفعون ثمنا لقاء ذلك، في حين أن الآخرين يمارسون «وطنية» لا تكلفهم شيئا، وإنما هم يتكسبون من ورائها، حيث تدر عليهم ما نعرف وما لا نعرف من ميزات ودخول ووجاهات.
إن الأقوياء الواثقين من أنفسهم لا يفزعهم بيان صدر في صفحتين أو ثلاث، ولا تخيفهم كلمات عبرت عن شيء لا يحبونه، وحين يفسحون صدورهم للآراء المعارضة فإنهم لا يعبرون عن ثقة في النفس وحسب، ولا يفتحون الباب لإمكانية إثراء الرؤى واتضاحها فحسب، ولكنهم أيضا يقدمون نموذجا للتسامح يعلم الناس الكثير لكنهم حين يفقدون أعصابهم ويسارعون إلى اعتقال المثقفين الوطنيين، كلما هموا بالتعبير عن آرائهم في قضايا وطنهم ومصيرهم، فإنهم يلقنون الناس دروسا مستمرة في القمع، تدمر الخلايا الحية في المجتمع، وتتحول إلى حراب تجرح وجه الوطن وتشوه صورة النظام. أخطر من ذلك أنها ممارسات لا يمكن قبولها تحول الناس إلى قنابل موقوتة مهيأة للانفجار في أي وقت، ناهيك من أنه لا يمكن لأي مواطن شريف أن يدافع عنها، وهذه مشكلتنا مع الوضع السوري، الذي لم نعد نعرف كيف ندافع عنه.
فهمي هويدي
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد