هلال التشويش التركي من الموصل وتلعفر إلى الرقة وحلب
هدنة جديدة في حلب غدا الجمعة، أعلنتها موسكو ودمشق، كنداء أخير، يحتمل الكثير من الدوافع، انسانيا وسياسيا وربما عسكريا، بما قد يجنب المدينة المنكوبة منذ اربعة اعوام، المزيد من الخراب والدم.
هدنة يوم الجمعة، تدخل بعدها الاحداث، اسبوع الانتخابات الاميركية. ولم تظهر الادارة الاميركية سابقا حماسة لاحتضان المبادرات الروسية ـ السورية التي توالت في الاسابيع الاخيرة، وليس هناك ما يدل على انها ستقوم بذلك الآن، لتشجيع فصائل «الجهاديين» على حمل سلاحهم والخروج من المدينة المنكوبة، عبر طرق آمنة، نحو ادلب. المدنيون في شرق حلب، من جهتهم، لن تكتب لهم فرص النجاة من بنادق المسلحين وقذائفهم، للعبور نحو المخارج الستة التي حددها الجيش السوري لهم، والافلات من قبضة ميليشيات «جيش الفتح» التي كشفت علانية عن جريمة الابتزاز التي تمارسها بحق اهالي المدينة المحاصرين، من خلال الاعلان عبر ملصقات على الجدران عن «فدية» بقيمة 300 دولار، لكل فرد يرغب بالخروج!
وغداة المحادثات التي أجراها رئيس الاركان التركي الجنرال خلوصي اكار في موسكو وتناولت بحسب المعلن قضيتي حلب والموصل، ظهر الخلاف مجددا بين الاتراك والروس، وعبر عنه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي قال في مقابلة مع قناة «روسيا 24»، إن «أنقرة وموسكو تتفقان حول كون الحل السياسي هو الخيار الأفضل بالنسبة لسوريا»، لكنه أكد استمرار وجود خلافات مبدئية بين الجانبين حول مصير الرئيس السوري بشار الأسد، وعدد من المسائل الأخرى.
لكن الهمة التركية في التشويش والتحرش لا تتوقف هنا، فمن الموصل وتلعفر في العراق، حيث ضيقت القوات العراقية الخناق قليلا على تنظيم «داعش»، وعلا الصوت التركي منددا ومتوعدا العراقيين، وصولا الى معارك الشمال السوري والرقة، تحاول انقرة عرقلتها أو تأخيرها، اقله لضمان مكان لها في أي حراك عسكري أو سياسي.
لم يمنع استمرار التجاذب الإعلامي بين أنقرة وواشنطن على خلفية الإعلان عن قرب إطلاق معركة الرقة، من إكمال الاستعدادات والتحضيرات ووضع الخطط العسكرية بخصوص المعركة، بالاتفاق والتنسيق بين واشنطن و «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، التي أصبح من المحسوم أنها ستؤدي الدور الأبرز على صعيد العمليات البرية.
«السُّعار التركي» الذي لاقى ترجمته العملية تخبطاً ميدانياً واضحاً فوق الأراضي السورية من قبل عملية «درع الفرات» التي تقودها وحدات خاصة في الجيش التركي، ناتجاً في قسم كبير منه من إدراك أنقرة من خلال قنواتها الاستخبارية أن المعركة باتت أقرب مما يتوقع كثيرون، لذلك تحاول جاهدة اختلاق المشاكل والذرائع بهدف عرقلتها أو تأجيلها قدر الإمكان.
ويعكس الانكفاء التركي عن محيط مدينة الباب، حيث خسرت قوات «درع الفرات» في اليومين الماضيين 13 قرية من بينها بلدة اخترين التي شهدت معارك كر وفر، أمس، حجم التخبط الذي تعانيه تركيا وفقدانها البوصلة. فهي مترددة بين التقدم نحو الباب وفق خطتها المعلنة، واستثمار الوقت المتبقي قبل بدء معركة الرقة لممارسة مزيد من الضغوط على الإدارة الأميركية، وذلك من خلال التلويح بتوجهها نحو منبج بهدف ابتزاز واشنطن ودفعها إلى القبول بالشروط التركية لإطلاق المعركة أو على الأقل تأجيل المعركة حتى إشعار آخر.
لكن الناشط الإعلامي المعارض فراس مولا كان له رأي مختلف حول الانكفاء التركي من محيط الباب، إذ رأى أن «فتح معركة الرقة يعني في ما يعنيه أن الباب ستتحرر تلقائياً»، وهو إذ رفض القول إن تركيا تنوي الانسحاب من محيط الباب، خصوصاً من اخترين، إلا أنه لم يستبعد أن «تلجأ أنقرة إلى وقف عملياتها في هذه المنطقة إذا فكَّرت فعلاً بالتوجه نحو مدينة منبج».
ولم تخف أنقرة رغبتها في تأجيل موعد إطلاق معركة الرقة، إذ أوضح نائب رئيس الوزراء نعمان قورتولموش أن «موقف تركيا بشأن عملية الرقة واضح. سيكون من الأفضل عسكريا واستراتيجيا القيام بهذه العملية بعد اكتمال عملية الموصل وعملية درع الفرات التركية».
كما يبدو أن موسكو لديها تحفظات بخصوص معركة الرقة، التي أكدت واشنطن في وقت مبكر أن روسيا لن تشارك فيها. حيث شدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أمس، على أنه «يجري تحاور مع واشنطن لعملية مشتركة بالرقة»، وهو ما يشير بوضوح إلى عدم رضا موسكو باستفراد واشنطن بهذه المعركة.
مجمل هذه المواقف قد تلقي بظلال من الشك على إمكانية تنفيذ الولايات المتحدة قرارها بإطلاق معركة الرقة. وهو ما أشار إليه المتحدث باسم «قوات سوريا الديموقراطية» العميد طلال سلو عندما نفى تلقي «قسد» أي أسلحة أو معدات عسكرية من «التحالف الدولي» حتى الآن استعداداً لمعركة الرقة، وشدّد على أن «قوات سوريا الديموقراطية» ترفض رفضاً قاطعاً أي مشاركة لتركيا في حملة محتملة لتحرير الرقة كونها قوة محتلة وداعما أساسيا لـ «داعش».
غير أن الأجواء السائدة في أوساط «قسد»، على الرغم من بعض الحذر الذي يشوبها، والذي قد تقتضيه أحياناً ضرورات التكتم على الأسرار الحربية، تعكس حالة من التفاؤل بإمكان بدء المعركة خلال وقت قصير، خلافاً لكل المواقف السابقة.
ووفق الحسابات الكردية فإن معركة الرقة يمكن أن تنطلق في أي لحظة، ولا تحتاج إلى «أسابيع عدة»، في إشارة إلى ما ورد على ألسن المسؤولين الأميركيين في تصريحاتهم حول الموضوع. فالتحضيرات العسكرية قائمة على قدم وساق، وصِيَغ المجالس العسكرية والمدنية والإدارية التي ستمسك زمام المحافظة بعد تحريرها أصبحت جاهزة، بعدما خضعت لدراسات معمّقة اشتركت فيها فعاليات من مختلف الأطراف الكردية والعشائرية بإشراف أميركي.
والأهم أن الخطة العسكرية جاهزة أيضاً، وهي موضوعة على أساس أن يكون لـ «قسد» الدور الأبرز في العمليات البريّة.
وبحسب مصادر في «قسد»، فإن الخطة تلحظ أهمية الإسراع بإطلاق المعركة بالتزامن مع استمرار الضغط على «داعش» في الموصل، لذلك، بسبب العراقيل التركية التي تهدف إلى تأخير المعركة، جرى الاتفاق على تقسيم الخطة إلى مراحل، بحيث تكون المرحلة الأولى هي تحرير ريف الرقة الشمالي ضمن مساعي عزل التنظيم ومحاصرته.
وما يشيع حالة من الارتياح لدى قيادة «قسد» هو أن الضغوط التي كانت تمارسها عليهم الولايات المتحدة لإشراك «بشمركة سوريا» في عملية تحرير الرقة قد توقفت نهائياً، ولم تعد واشنطن تحاول فرض أي شروط مسبقة بخصوص العملية.
كما أن شحنات الأسلحة تصل بانتظام إلى مستودعات «قوات سوريا الديموقراطية» آتية من «التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن، وليست هناك مشكلة بخصوص التسلح أو بخصوص توافر أي مستلزمات لوجستية أخرى تتعلق بالمعركة. وقد يبدو هذا الأمر مناقضاً لنفي طلال سلو السابق حول استلام أسلحة من «التحالف».
وفي هذا الإطار، يفيد واقع الحال بأن «قسد» لم تصرح في أي وقت سابق عن استلامها أسلحة من «التحالف الدولي»، وذلك مراعاة للحساسية التركية تجاه هذا الأمر، فكانت تنفي كل التقارير الإعلامية التي تتناول هذه النقطة وتضعها في إطار الشائعات.
ولا تعير القيادة الكردية كبير اهتمام للخلافات الأميركية ـ التركية التي احتدمت على خلفية الحديث عن قرب إطلاق معركة الرقة. فهناك تسليم بأن حلّ هذه الخلافات هو مهمة أميركية بالدرجة الأولى والأخيرة، وليس للقيادات الكردية أي دور فيها، باستثناء سحب الذرائع التي تحتج بها أنقرة للعمل على إرباك التحضيرات ومحاولة تأخير موعد انطلاق المعركة.
وأهم هذه الذرائع هو عدم انسحاب «قسد» من مدينة منبج، حيث تتهم أنقرة واشنطن بعدم الإيفاء بتعهداتها لجهة انسحاب هذه القوات من منبج فور تحريرها من «داعش». كما دأب كبار المسؤولين الأتراك في الآونة الأخيرة على تكرار التهديدات باقتحام المدينة لهذه الذريعة.
وبالرغم من التأكيدات المستمرة لـ «قسد» أنها أخلت جميع عناصرها من مدينة منبج وسلمت المدينة إلى «مجلس منبج العسكري»، إلا أنها عمدت، منتصف الشهر الماضي، إلى إصدار قرار يقضي بإنهاء كل المظاهر المسلحة ضمن مدينة منبج، ووضعت قيوداً على حركة السيارات العسكرية داخلها، متوخية من ذلك وضع حدٍّ للتهديدات التركية وسحب الذرائع منها.
واتخذت القيادة الكردية هذه الخطوات على رغم اليقين الذي يخامرها بأن أنقرة «لن تجرؤ على مهاجمة منبج حتى لو أثبتت وجود قوات قسد فيها»، وذلك لسببين: الأول بسبب الخط الأحمر الأميركي الذي يمنع أنقرة من تنفيذ تهديداتها، وهو ما تبلغته قيادة «قسد» رسمياً من الأميركيين.
والثاني بسبب وجود وحدات من الضباط والجنود التابعين لقوات «التحالف الدولي»، وغالبيتهم من الجنسية الأميركية في ريف جرابلس الجنوبي. وقد جاء انتشار هذه الوحدات ضمن مواقع تجعل من السهل الاستنتاج أن أولى مهماتها هي منع الاشتباك بين «قسد» والجيش التركي أو حلفائه. لذلك تستبعد «قيادة سوريا الديموقراطية» أن تقوم أنقرة بأي هجوم ضدها في منبج، وتعتبر التهديدات التركية المتصاعدة وسيلة لابتزاز الأميركيين بغية الحصول منهم على حصة أو دور في المعركة.
بدورها، نفت الإعلامية في «وحدات حماية المرأة» نيروز كوباني صحة التقارير التي تحدثت عن إجراء مفاوضات «برعاية تركية» بين «قسد» من جهة و «أحرار الشام» من جهة ثانية، بخصوص الدخول إلى الرقة عبر مدينة تل أبيض.
وقالت كوباني إن «قسد» لا يمكن أن تفاوض «أحرار الشام» بسبب موقف مبدئي من كل الحركات الإرهابية، كما أن «أحرار الشام» ليس لديها أي طريق نحو الرقة، و «قسد» لن تعطيها هذا الطريق.
وكان مؤسس حملة «الرقة تُذبح بصمت» موسى الحمود قد أكد في حديث سابق، أن تركيا اقترحت موضوع مشاركة «احرار الشام» في معركة الرقة على بعض فعاليات الرقة ونشطائها، إلا أن هؤلاء هم من رفض مشاركتها بسبب «دور الحركة في تسليم المدينة لتنظيم داعش» وشدد على «أن أول من هرب من مدينة الرقة بعد بدء معركة داعش مع الجيش الحر هم أحرار الشام».
ومع ذلك، فإن ثمة الكثير من الشكوك التي ما تزال تحيط بمدى إمكانية «قسد» للتصدي لأعباء تحرير مدينة الرقة وحدها، كما تطالب. ويرى العديد من النشطاء أن تحرير الرقة يحتاج إلى عدد كبير من المقاتلين، وهو ما لا يتوافر لدى «قسد» برغم كل حملات التجنيد الإجباري التي تقوم بها.
وقياساً على معركة الموصل، فإن «معركة الرقة» تحتاج إلى ما يقارب ثلاثين ألفاً من المقاتلين، بينما في نظرة سريعة لتوزع القوى نجد أن الريف الشمالي للرقة يتمركز فيه سبعة آلاف مقاتل من «داعش» مقابل ثلاثة آلاف من «قسد»، وذلك بحسب ما قال الناشط قعقاع العنزي، مشدداً على أن طبيعة المنطقة التي تأخذ شكل مزارع سهلية متباعدة، ستجعل مهمة «قسد» أكثر صعوبة.
بدوره، قال وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر إن خطة تطويق الرقة ستنفذ قريباً بالقوات المتاحة.
وقال كارتر في مؤتمر صحافي «ننوي الذهاب إلى هناك قريباً بالقوة القادرة على عمل ذلك وتطويق مدينة الرقة، السيطرة النهائية على الرقة، ونواصل الحديث مع تركيا بشأن ذلك وبشأن دور محتمل لتركيا في ذلك في وقت لاحق».
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد