من المسؤول عن دمار الشرق الأوسط

09-08-2006

من المسؤول عن دمار الشرق الأوسط

لا ينبغي لعمليات القتل الجماعي التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في لبنان، والتي كانت مجزرة قانا الثانية نموذجا حيا لها، أن تخفي المأزق الذي وصلت إليه نظرية الأمن القومي الإسرائيلي القائمة على اعتبار التفوق العسكري الساحق أساس الردع الشامل والوقاية المؤكدة من احتمالات تعرض المصالح الإسرائيلية الإستراتيجية للخطر.

بل إن هذه العمليات التي تشير إلى العودة إلى منطق الانتقام والقتل والإرهاب البسيط، ليست سوى التعبير عن هذا المأزق والرد الهمجي واللاعقلاني عليه.

فما كانت تخشاه إسرائيل وتعمل جاهدة لإبعاده عن الحدوث، قد حدث بالفعل.

فقد كشفت ضربات المقاومة اللبنانية التي وجهت للأراضي الإسرائيلية في سياق المواجهة المستمرة منذ أسابيع ثلاثة، عن هشاشة هذه الإستراتيجية وانهيارها أمام صواريخ حركة مقاومة بسيطة لا تكاد تزن شيئا في موازين القوة الإستراتيجية العالمية.

وأصبحت المدن الإسرائيلية التي بقيت في منأى عن ضربات الجيوش العربية منذ عقود، على مرمى الصواريخ القريبة والبعيدة.

وحتى لو لم يشارك أي بلد عربي في هذه الحرب، فقد قدمت معركة الصواريخ صورة مصغرة للحروب المحتملة الممكنة، وبينت الهشاشة البنيوية لإسرائيل ودفاعاتها الإستراتيجية في مواجهة أي قوى منظمة ومحدودة، تمتلك حدا أدنى من التصميم والإرادة.

والدرس الرئيسي الذي ينبغي لإسرائيل أن تأخذه مما حصل هو أنها لن تستطيع الحصول على السلام والاستقرار بالقوة العسكرية، مهما بلغت هذه القوة من التقدم التقني، ومهما كانت درجة تفوقها على الدول العربية منفردة أو مجتمعة.

فلم تكن هناك حاجة حتى إلى تدخل هذه الدول ولا إلى جمع قواتها معا كي يمكن اختراق حاجز الردع والرعب الذي حاولت إسرائيل أن تشيده خلال العقود الماضية، بتكرار الحروب التدميرية والانتقامية وعمليات الاجتياح والعقوبات الجماعية.

وما ينطبق على إسرائيل ينطبق على الإدارة الأميركية نفسها، إذ لم تعد مشاركة واشنطن في الحرب الراهنة سرا على أحد، لا من حيث القرار ولا التخطيط ولا التصميم ولا الرعاية السياسية والدبلوماسية، لا بل إن هناك من المحللين من اعتبر أن إسرائيل تخوض حربها في لبنان بالوكالة عن الولايات المتحدة.

لكن بصرف النظر عن ذلك، لا يختلف سلوك الإدارة الأميركية في سعيها إلى الدفاع عن رؤيتها للاستقرار العالمي وعن مصالحها الحيوية عن سلوك إسرائيل عموما. فهي تبني إستراتيجيتها القومية أيضا على نظرية التفوق العسكري والإستراتيجي الحاسم، وتعتقد أن زيادة قدرتها على خوض الحرب في أكثر من مكان وعلى أكثر من جبهة، وانفرادها في ذلك، يشكل أو ينبغي أن يشكل رادعا يمنع أي قوة أخرى، رسمية أو أهلية، من التعرض للمصالح الأميركية خوفا من عواقب الانتقام.

لكن إذا كان هذا المبدأ يسري على الدول والجيوش الرسمية التي لا تستطيع إلا أن تحارب في مسارح مكشوفة، فهو لا يسري على القوى غير النظامية وغير الرسمية التي لا تعبأ كثيرا بنتائج عملها على المستوى الرسمي.

بل تجد في انتقام القوة المتفوقة من المدنيين وتدمير البنى التحتية للدول والمجتمعات فرصتها لتعبئة ما تبقى من الرأي العام، وجره معها إلى معركة الكرامة والدفاع عن النفس. وكما ولد حزب الله ومقاومته من أنقاض المنازل والبنى التحتية المدمرة بالقصف العشوائي وعمليات الاجتياح الإسرائيلية المتكررة جنوب لبنان، منذ ثلاثة عقود، نشأت قوى التمرد الإسلامية على أنقاض المشاريع السياسية الوطنية التي دمرتها سياسة القوة والتفوق العسكري الإسرائيلي والأطلسي في أكثر البلاد العربية، وفي مقدمها فلسطين والعراق.

فالقاسم المشترك بين إسرائيل والإدارة الأميركية الحالية هو الرهان على القوة، وعدم الاعتراف بالطرف الآخر، ولا احترام مصالحه الرئيسية.

وسبب هذا الرهان ومصدره واضح للعيان، إنه الطمع والأنانية والسعي إلى الاستئثار بالمصالح جميعا، وفرض الأمر الواقع والإذعان على الخصم.

أي أنه رفض الحلول السياسية، القائمة بالضرورة، وبقدر ما هي سياسية تحتكم إلى القانون والأخلاق لا إلى القوة المادية المدمرة، على القبول بتوازن المصالح وتقاسم المنافع بين الأطراف، بصرف النظر عن ضعفها أو قوتها.

وبعكس ما تردده تحليلات الدبلوماسيين والمراقبين الأميركيين والغربيين ليل نهار، لا ينبع الإخفاق في إيجاد حل لأزمة الشرق الأوسط التي لا تزال الدبلوماسيات الأميركية والأوروبية ترسل المبعوثين لمعالجتها منذ عقود، من صعوبة المشاكل التي تطرحها، ولا من تعقد النزاعات التي تكمن في أساسها، وإنما من رفض هؤلاء مبدأ التسوية السياسية الذي هو مفتاح أي حل في الشرق الأوسط وفي جميع مناطق العالم أيضا.

فإسرائيل تريد الأمن والاستقرار المطلق على حدودها، لكن من دون أن تتخلى عن أهدافها التوسعية، سواء ما تعلق منها باحتلال الأرض أو حجز الأسرى أو ممارسة الحق في قصف المدن والقرى وتدمير بنيات المجتمعات، جراء أي مساس، مهما كان تافها أو رمزيا، بأمنها أو سيادتها.

وتريد إسرائيل استيطان الأرض الفلسطينية، وتقطيع أوصالها، وتحويل الفلسطينيين إلى مهجرين داخل وطنهم، وأن تقيم نظاما عنصريا أسوأ بما لا يقاس من النظام العنصري الذي كان قائما في جنوب أفريقيا، وترفض الاعتراف بأي حق مقاومة لهذا الاستيطان وذاك النظام، وتعتبره مساسا بسيادتها وأمن مواطنيها.

وتبرر بذلك الاستخدام الدائم والشامل للعنف بكل أبعاده ضد الفلسطينيين.

وهي تريد السلام كذلك مع سوريا والعالم العربي، لكن مع ضم الجولان السوري كأمر واقع، وتحويله إلى أرض للاستيطان اليهودي المتوسع باستمرار.

والنتيجة أن أمن إسرائيل واستقرارها لا يمكن ضمانهما إلا بتقويض الأمن القومي لجيرانها، وزعزعة استقرار مجتمعاتهم، حتى في حده الأدنى.

بل إنها تطلب أن تجعل الدول العربية من هاجس الأمن القومي الإسرائيلي مركز اهتمامها، وتحوله إلى البند الأول في أجنداتها "الوطنية" نفسها إذا وجدت.

هذا التصور العصابي للأمن القومي والمصالح القومية عند إسرائيل وعند الإدارة الأميركية، الذي يخفي طمعا لا حد له في السيطرة على مصالح الآخرين وحقوقهم، هو منبع الحروب ومفجر النزاعات في الشرق الأوسط، بما في ذلك النزاعات داخل البلاد العربية نفسها.

وقد تمثل العديد من نخبها الحاكمة منطق السيطرة الإسرائيلية والأميركية القائم على الاستخدام المفرط للقوة، وطبقته على شعوبها.

وجوهر هذا المنطق الاحتكام الدائم والأعمى إلى السلاح، بدل الحوار والتفاوض والتسوية.

ولا يمكن أن يقود مثل هذا المنطق إلا إلى طريق مسدود، أي إلى تخليد الأزمة وجعل الحروب والمعارك العسكرية والانقلابات اللغة السائدة في علاقات الشرق الأوسط الدولية والوطنية على حد سواء.

برهان غليون

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...