المثقف الملتبس : بين العاري وعارض الازياء
ابتداء من منتصف القرن الماضي أصبحت الجامعات في لبنان تعج بطالبي العلم والثقافة وخرجت أفواج منهم ألّفت مجموعة ما يسمّى اليوم المتعلّمين/المتعلّمات والمثقفين/المثقفات. اترك جانباً المتعلمين الذين ارتضوا لأنفسهم هذه الوضعية وعاشوا حياتهم موظفين اختصاصاتهم لتوفير العيش الكريم أو المستور لأنفسهم وعائلاتهم. أما المثقفون، وبخاصة منهم من لا يرضى إلا بكونه مكرّساً كمثقف، فهم موضوع الظاهرة التي أحاول تحليلها. وأبدأ بالقول إن كل من يدّعي أنه مثقف فهو جاهل أن الثقافة ليست معطى يمتلكه الانسان وينتهي الموضوع، إنما هي مسار وسعي لا ينتهيان إلا بالموت.
لكن إذا ماشينا الواقع وقبلنا مصطلح «المثقف» الشائع في مجتمعنا فماذا نجد؟ إن مراقبتي لكتابات من يسمون أنفسهم مثقفين أو من يسميهم المجتمع مثقفين وأقوالهم ومواقفهم، حملتني على تقسيمهم الى ثلاثة نماذج أساسية مع بعض الهوامش غير المهمة. هذه النماذج هي التالية: نموذج عارض الأزياء ونموذج العاري ونموذج الملتبس، بين بين، وهو يكون أحياناً عارض أزياء وأحياناً أخرى عارياً.
أبدأ بالنموذج الأول وهو الأكثر شيوعاً في مجتمعنا، لكن قبل التوسع في عرض حالة الذين ينتمون الى هذا النموذج، لا بد من التوقف عند ملاحظة تمهيدية. كلنا يعلم بأن ميزة عارض الأزياء الأولى والأساسية أن يتمتع بجسد تتطابق مقاييسه مع المقاييس السائدة والمتعارف عليها أي بعبارة شعبية معبرة، أن يكون «جسمه لبيساً»، يعني ان يكون مهيّأً وجاهزاً لعرض كل «صرعات» الموضة وتقلباتها. وهنا أعتبر نفسي غير مسؤولة إن بدأ البعض يتحسس بوخز تحت إبطه. إذاً هذا الصنف من المثقفين هو الذي تنقّل من موقع الى آخر باحثاً عن انوجاده بشتى الطرق فلبس وخلع فكرياً وايديولوجياً أزياء متعددة ومتنوعة الى درجة التناقض، همّه الوحيد هو اللحاق بما يفرزه الفكر الغربي أو الفكر العالمي إجمالاً. ويلاحظ متتبع الحالة الثقافية في لبنان ان مثقف/مثقفة هذا النموذج هو أول من يتلقف، استعراضياً، كل جديد ويتبناه الى درجة التماهي، فتارة يكون كانطياً وطوراً هيغلياً فسارترياً ثم فوكوياً أو داريدياً أو هيدغيرياً أو دولوزياً أو فرويدياً أو لاكانياً أو نيتشاوياً أو... اللائحة تطول في كل المجالات والحقول الفكرية ولا يمكن تعدادها. هذا على الصعيد الفكري، أما على الصعيد الايديولوجي فالقضية أهم إذ ان المثقف/المثقفة يبحث فيه عن انوجاده الفعلي أي السياسي فنراه يبدل أزياءه بحسب الظروف ــ وهنا لا بد من الاشارة الى انه، أي المثقف/المثقفة، من الصنف الذي يصر على أناقته، والأناقة هي ان يكون هندام الأنيق/الأنيقة متماشياً تماماً مع الظروف. ولهذا السبب وجدناه يتنقل بين الايديولوجيات من الماركسية بكل تفرعاتها التروتسكية أو الماوية أو... الى الاشتراكية بكل تلاوينها الى الليبرالية... الى حزب اللهية وصولاً الى العولمية بأقنعتها الديموقراطية العراقية والفلسطينية وحالياً اللبنانية. هذا الـ«مثقف»/الـ«مثقفة» لا يتورع عن خلع الحجاب الذي ارتداه ودافع عن أحقية ارتدائه أو عن حلق لحيته التي دافع عن رمزيتها ليتحول الى سافرة وحليق، يشمّران عن سواعدهما ليتلقفا الديموقراطية الوافدة إلينا بصورة الآنسة كوندوليزا رايس، الديموقراطية القائلة بالانصهار بالدولة، والدولة هنا هي السلطة الحاكمة، بل هي الدولة القائمة الآن، فيتحول مثقف/مثقفة هذا النموذج الى بوق ينفخ عبره الكلام السياسي للحكم السائد فيخرج منه كلاماً «ثقافياً» ليس إلا ترجمة حرفية لكلام السلطة. هنا تنتشي السلطة الحاكمة وتصفق له لأنه أحسن الترجمة ولأن نصه أتى مطابقاً لنصها وهكذا تكون قد مددت سلطتها من السياسي الى الثقافي وأمسكت بالمجد من كل جوانبه. وبدوره ينتشي هذا المثقف ويعتلي المنابر التي توفّرها له السلطة الحاكمة أو أدواتها، فيقوم بعرض أفكاره وثقافته تماماً كما يؤدي الممثل البارع دوره في تمثيلية ما. لكن الفارق بين الممثل البارع والمثقف هذا هو أن الممثل يعي ذلك أو أنه بكل وعي وانتهازية يستبدل وعيه بانوجاده على الساحة وهي مهارة لا يمتلكها إلا صاحب الوقاحة الفذة التي لكثرة استعراضيته يعتبرها قوة أو شجاعة ليست هي بالفعل إلا تذاكياً غبياً.
فعند هذا النموذج، الثقافة تعني اللباس الذي يظهر فيه امام الآخرين غير آبه بكيفية ظهوره امام نفسه، ما يهمه هو نظرة الآخر إليه وليس نظرته الى ذاته.
أما النموذج الثاني، نموذج المثقف/المثقفة الذي يلبس عريه فهو على نقيض النموذج الاول، ديناميته الثقافية هي داخلية ولا يبدّل أزياءه بل يتخفف منها استيعاباً، سعياً وراء اكتماله أي سعياً وراء ان يكون جلده هو لباسه. وكما ان الجلد هو الحدود الخارجية لبنية البدن فإن العري هو الحدود الخارجية للبنية الثقافية. ولكن كما تكوّن الجلد، يتكوّن العري، أي انه مسار يبدأ مع الولادة وينتهي مع الموت ولهذا السبب كل من يدّعي انه مثقف أو يصنّف نفسه أو يقبل بتكريس نفسه مثقفاً يقترب من النموذج الاول الطاووسي. لكن ماذ يعني العري؟ انه بكل بساطة أن يظهر المرء على حقيقته مهما عظمت او تضاءلت حقيقته هذه، فهو هو مع ذاته ومع الآخرين وهذا دليل على قبول الذات، وحين يقبل الفرد ذاته ويجسر على التعري فهو، حكماً، يقبل الآخر، شرط أن يكون الآخر عارياً أيضاً. هكذا تبنى الديموقراطية لا كما ينادي بها مثقفو النموذج الاول لان من يرفض ذاته لا يقبل أحداً. انه بالفعل لا يتجرأ بل يتواقح ويتذاكى. وأعود لأسأل ماذا يعني هذا العري؟ انه فعل الاستيعاب والتحويل والفرز والهضم و... فكما تتحول وتنمو البنية الجسدية للفرد بما يدخل إليها من مأكل ومشرب و... كذلك بنيته الثقافية تتحول وتنمو بما يدخل إليها من معارف في كل الميادين من دون استثناء. وهنا يبرز الاختلاف الأساسي بين النموذجين من المثقفين وهو اختلاف نظري على مفهوم التاريخ، فان كان التاريخ يعني الزمن بالنسبة إلى النموذج الاول فان التاريخ يعني المكان لدى النموذج الثاني، والمكان هو هذا الامتداد الذي هو في تمدد مستمر والذي توجد فيه كل ما أفرزته الانسانية في كل الميادين، من هنا تهيّب الساعي الى الثقافة من حمل لقب مثقف. وهذا التهيّب إذ هو صدق مع الذات هو الذي يمنح الجرأة لمثقف/مثقفة هذا النموذج لكي يسير عارياً بين المتنكرين مثقفي النموذج الاول. فإن تنكروا لإخفاء عورات جسدهم الثقافي فهو يتعرى لان لا عورات في جسده الثقافي أو لانه وبكل جرأة لا يخاف من إظهارها.
أما علاقة مثقف/مثقفة هذا النموذج بالسلطة فهي على الشكل التالي: يقول هذا المثقف/المثقفة قوله الذي هو قناعته الفعلية فيكون فعل القول هو هو فعل الانوجاد. فإن تبنّته السلطة وأتى قولها ترجمة سياسية له تنوجد الدولة الفعلية التي تعرف كيف تمارس الديموقراطية والعدالة والسيادة والحرية و... وإن لا، كما هو حاصل الآن، فإن السلطة تكتفي بأبواقها مثقفي/مثقفات النموذج الاول لتمد سلطتها على كل الأراضي اللبنانية. لكن عليها أن تعلم ان المثقف العاري هو عصيّ على الخضوع، وأن بسط سلطتها على كل أراضيها يتوقف عند حدود جسده الثقافي العاري.
من الفروق العديدة الاخرى التي تميز بين النموذجين من المثقفين سأكتفي بذكر واحد منها هو الفارق بين الاجهاض والحمل. ان مثقف/مثقفة النموذج الاول وبسبب هرولته وراء كل جديد فهو عاجز عن اتمام عملية الحمل، فيجهض كي يمتلئ من جديد. لكن سرعة التطور الراهن وفي كل المجالات قد منعته حتى من عملية الحمل وذلك لأن التاريخ في مفهوم هذا الصنف من المثقفين/المثقفات هو الزمن كما رأينا. أما الصنف الآخر، المثقف/المثقفة العاري وبما أن التاريخ بالنسبة إليه هو المكان فهو يمتلك كل الوقت لكي تتم عملية الحمل فيأتي قوله، المولود الجديد، طفلاً معافى وليس طرحاً كما هي حال قول المثقف/المثقفة، عارض الازياء. من هنا أسمح لنفسي بالاستنتاج التالي: ان كل مثقفي النموذج الاول هم ذكور حتى لو كان بينهم الكثير من نساء، بينما كل مثقفي النموذج الثاني هم إناث حتى لو كانت غالبيتهم من الرجال. وهنا أتوقّف وأقف تحية لرمزين من رموز هذا النموذج اللذين تركانا من فترة قصيرة وهما العزيزان عصام محفوظ وحسن قبيسي، فلهما ألف تحية.
يبقى النموذج الثالث وهو المثقف/المثقفة الملتبس أو المتردد الذي أحياناً يعي وأحياناً لا يعي التباسه وهو في مطلق الاحوال ضعيف لانه إن وعى التباسه كان أعجز من أن يتخطاه فيقع في المعاناة ويحاول ان يجد نفسه فيها فيصبح قوله التعبير عن مازوشية، توصل المتلقي احياناً الى الغثيان. وإن لم يع التباسه، تحول الى مهرج وفصيح مناسبات يتغير لونه كما يتغير لون جلد الحرباء وفقاً للون المكان الموجودة فيه. ويتميز بعض أذكياء هذا النموذج من المثقفين/المثقفات بلعب دور اللامبالاة والتنظير للهامشية وما سواها من مقولات تبرر عجز جسدهم الثقافي عن الظهور عارياً، وهم بالإجمال، أقرب، سياسياً، الى النموذج الاول، نموذج عارضي الازياء لأن ضعفهم يجعلهم يخافون السياسي ويحاولون أن يستمدوا منه قوتهم فيتحولون الى سلع يحدد الشاري أسعارها. فهنيئاً لهذا المثقف/المثقفة بأسياده الجدد أصحاب الثروات والاموال النظيفة؟ وهنيئاً للشاري بهذه البضاعة الكاسدة.
إلهام منصور
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد