المجتمع الأردني يخشى «داعش».. ويعتنق فكره!
ليست السلفية الجهادية في الأردن حالياً إلا ملفاً أمنياً، وهنا لا يخفي سياسيون ومراقبون خشيتهم من اخفاق المقاربة الأمنية وحدها، خصوصاً أن ثمة قاعدة شعبية للسلفية الجهادية في المجتمع الاردني.
صحيح أن معظم الاردنيين يرفضون القتل والارهاب باسم الدين، لكنهم يعتنقون فكراً لا يجافي الفكر السلفي المحافظ، ما يعني ان ثمة ضرورة لاعتماد مقاربة فكرية - ثقافية، الى جانب المقاربة الامنية، بما يساهم في افقاد السلفيين الجهاديين عمقهم الشعبي، وتجفيف منابع الفكر المتطرف.
لكن هل الدولة الأردنية معنية فعلاً بتجفيف منابع الفكر السلفية المحافظ؟ وهل وسائل دائرة الوعظ والارشاد في وزارة الاوقاف كافية؟ وما حجم حضور السلفيين في منابر المساجد؟ وهل يشهد الاردن عصر أفول نجم السلفية بعدما كانت «الطفل المدلل لدى الدولة» وذلك بحسب وصف دراسة أعدها كل من الباحثين محمد أبو رمان وحسن ابو هنية بعنوان «السلفية المحافظة: استراتيجية اسلمة المجتمع وسؤال العلاقة الملتبسة مع الدولة» في العام 2010 ؟
السلفية في الأردن.. ثنائية الحليف والعدو
عند البحث عن جدية الدولة الاردنية في تجفيف منابع السلفية الجهادية، لا بد من طرح سؤال: ما هو الدور الذي لعبته السلفية تاريخياً في الدولة الاردنية؟
يرتبط ذلك بالدور الذي لعبته السعودية في نشر السلفية الوهابية، إذ تشير دراسة أبو رمان وأبو هنية إلى أن الأردن كان من بين الدول التي انعكس عليها النشاط السعودي، مساهماً في صعود السلفية المحافظة والسلفية الوهابية، اللتين اخذتا على عاتقهما مواجهة ما تصفانه بـ «الانحرافات الدينية والسلوكية»، وفي الوقت ذاته التحالف مع الحكومات العربية المحافظة، ومنحها صكوك الشرعية.
وتتلخص أهمية السلفية بالنسبة للدولة الأردنية في التوازن الذي تُحدثه في منظومة التحالفات الداخلية، إذ ان السلفية المحافظة أعلنت منذ حضورها في الاردن خصومتها الصريحة مع «الاخوان المسلمين» وأفكارهم، فكان الألباني (الأب الروحي للسلفية المحافظة في الأردن) يقدم خطاباً فكرياً معارضاً للعمل السياسي حتى بصيغته الاسلامية. وفي المقابل، تلخصت المواقف السياسية المعلنة للسلفية برفض الانخراط في العمل السياسي، والتشكيك بالمعارضة، مع التأكيد على ضرورة طاعة الحاكم باعتباره «ولي الأمر الشرعي».
وبقيت السلفية تخوض معركة نفوذ مع الجماعات الإسلامية الأخرى في المساجد والمنابر الاجتماعية والثقافية ما ساعد الحكومات الاردنية المتعاقبة على مواجهة نفوذ تلك الحركات الإسلامية، وتحديداً «الاخوان المسلمين» سابقاً و»الجهاديين» لاحقاً. واستخدم الأردن الرسمي تصريحات بعض السلفيين الجهاديين لتحقيق أهداف سياسية.
ويمكن اعتبار فتوى منظر التيار السلفي الجهادي أبي قتادة الفلسطيني الاخيرة خير مثال على ذلك، إذ وصف، في نص نشره على صفحته على موقع «فايسبوك»، أتباع تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» - «داعش» بالقول: «أما شأن الغلاة من أتباع (ابي بكر البغدادي) البغدادي الضال فوالله إنها فتنة لا يسقط فيها إلا الجهلة والأرذال ، ولقد استقصى الإخوة خصال من صار إليها فلم يروا حميدا لدينه ولا لخلقه ولا لعلمه بل هم الشذاذ من أصحاب الخلق السيئ والغلو في الخطاب والترفع عن الخلق والإخوان». وقد جاء موقف أبي قتادة رداً على سؤال وجهه اليه منتمون إلى «جبهة النصرة» في الغوطة الشرقية في سوريا، حول حكم تعاطف بعضهم مع تنظيم «داعش».
ورأى مراقبون أن إطلاق سراح أبي قتادة قبل ما يزيد على الشهرين إنما هو صفقة موضوعية، فالأدلة لم تكن كافية لإدانة الرجل، لكن تقاطع المصالح بين الأردن الرسمي وبين أبي قتادة يفرض ذاته، انطلاقا من الانقسام الذي بدأ منذ قرابة العامين بين أنصار تنظيم «داعش» وأنصار «جبهة النصرة» في الاردن، كون أبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني لم يتوقفا عن اعلان انحيازهما لـ «النصرة».
لكن ما سبق لا ينفي أن أعين الأمن تلاحق كل من ينتمي إلى التيار الجهادي.
السلفية العلمية هي الحل؟
لا يواجه الأردن السلفية العلمية، وانما يواجه السلفية الجهادية، وذلك بحسب ما قال وزير الأوقاف الأردني هايل داود لـ «السفير»، مؤكداً أن الوزارة لا تعارض السلفية التي تعني العودة الى الجذور، ومشدداً على ان بعض الأفكار المتشددة اجتماعيا يمكنها الخضوع للحوار، كون هذه الأفكار تندرج في إطار الاجتهادات الفقهية المختلفة.
لكن داود يؤكد في المقابل ان السلفية الجهادية هي المرفوضة حتى من أفراد المجتمع وليس الحكومة فحسب، موضحاً أن السلفية الموجودة في المساجد هي السلفية العلمية التي تؤمن بالحوار والمشاركة والولاء للبلد وطاعة ولي الامر وعدم الخروج عليه.
والسلفية العلمية، بحسب ما ورد في دراسة أبو رمان وأبو هنية هي اسم آخر يُستخدم للدلالة على السلفية المحافظة التي بدأت بالنمو انعكاساً للثورة النفطية وازدياد الدور السعودي في نشر الدعوة الوهابية.
وعند سؤال داود عن سبب الحضور الكبير للسلفيين على منابر المساجد، رفض هذا التعميم، مبينا أنه غير صحيح، إذ ان «الصبغة الغالبة هي التدين المعتدل والمتوازن والمتسامح والمتصالح مع الثوابت الوطنية والثوابت الدينية التي نؤمن بها»، مضيفاً «لا يوجد عندنا شيء طاغ اسمه الفكر السلفي».
وعلى أرض الواقع، يشير داود إلى خطة وزارة الاوقاف في مواجهة الفكر المتطرف عبر المنابر والتي تقوم على متابعة المواضيع التي يتم تناولها، والتي لا بد من ان تعالج الفكر المتطرف، بالإضافة إلى تكثيف حملات الوعظ والارشاد داخل المساجد، وتوعية الوعاظ بأخطار الفكر المتطرف وآثاره المدمرة على المسلمين، والارتقاء بمستوى الائمة والدعاة والوعاظ.
ويشدد داود على أن الوزارة لا تحجر على الناس تفكيرهم وآراءهم، وهي في النهاية ليست ضد الفكر السلفي ولا تحاربه، لكن المشكلة تكون عندما يتم فرض هذا الفكر بالقوة والارهاب، معللا ذلك بأن الأردن لا يحجر على فكر الناس، ولا يعارض من يعتقد بأسلمة المجتمع.
ما سبق هو الرأي الرسمي الذي يخالفه المتخصص في الجماعات الاسلامية حسن أبو هنية، الذي يؤكد، أن «هناك دعماً للتيار السلفي في المساجد، فالجماعة السلفية التقليدية (العلمية)، أي أتباع الشيخ الألباني، تحظى بدعم الدولة لمواجهة الفكر الجهادي»، من دون أن يغفل سعي الدولة للاستعانة في مراحل سابقة بالمتصوفين لكنهم أثبتوا عجزهم عن ذلك، نظرا لضعف أثرهم في المجتمع.
وفي هذا الإطار، ثمة سؤال يطرح نفسه: بماذا يختلف التيار الألباني (السلفية العلمية أو المحافظة) عن التيار الجهادي؟
لا يرى أبو هنية ان ثمة اختلافاً بين السلفية المحافظة والجهادية إلا برفض القتل والانقلاب على الأنظمة، أي أن الخلاف يتلخص في الشق السياسي، ويستخدمه المسؤولون للتصدي لمحاولات المس بالنظام وشرعيته، لكن من ناحية اجتماعية ونواح سياسية أخرى، كالايمان بالتعددية السياسية والديموقراطية فإن رؤية التيار الالباني المتشددة لا تختلف عن رؤية التيار الجهادي.
ومن باب تحديد المصطلحات، لا بد من الاشارة إلى ان تعريف التطرف من وجهة النظر الرسمية الأردنية يختلف عن التطرف من وجهة نظر المفكرين والباحثين، فالتدين المعتدل، بحسب وجهة النظر الرسمية، هو التدين الذي لا يحمل نيات انقلابية على النظام، بينما يصف المفكرون والباحثون الاعتدال بانه فكر يتوخى احترام الحاضر الذي يعيشه الناس ولا يُبقيهم أسرى الماضي بكل تفاصيله. لكن، ألا يساهم الفكر المتطرف، وإن لم يحمل النيات الانقلابية، في مد الجسور بين «داعش» وأولئك المؤمنين بحرمة الديموقراطية والتعددية والتحرر الاجتماعي؟
من بين المفارقات التي يرصدها المختصون أثناء مراقبتهم خطب المساجد والوعاظ، يروي أبو هنية ان خطيب المسجد يهاجم «داعش» في خطبته، وعندما ينهي حديثه يدعو: «اللهم عليك باليهود والنصارى ومن والاهم».
ولعل هذا الطرح الاقصائي يأتي في سياق عدم الإيمان بالدولة المدنية القائمة على الحقوق والواجبتا بمعزل عن العرق أو الدين، فما الفرق بين طرح المنابر وطرح السلفية الجهادية التي لم تعترف بمسيحيي الموصل؟
«لا فرق» يقول أبو هنية الذي يتساءل «ألا يعرف خطيب المسجد أننا ومن يسميهم النصارى منخرطون في تحالف استراتيجي ضد تنظيم داعش الذي يحرّض الناس عليه؟ وان هذا الدعاء لم يعرفه المسلمون إلا مع الدولة الحديثة، اذ لم يردده المسلمون أيام الدولة الاموية ولا العباسية ولا في أيام الرسول محمد؟».
هذا الدعاء هو نموذج بسيط لتلك الازدواجية، بحسب أبو هنية، فهو يلتقي شبابا يجاهرون بتوجهات ليبرالية وأخرى يسارية لكنهم أقرب في طرحهم الاجتماعي إلى الرؤية السلفية المحافظة!
ما سبق يستدعي إعادة النظر في الخطاب الديني، وهذا لا يتم بتجديد قوانين تنظيم الوعظ والارشاد والافتاء، فالمشكلة ليست في منظومة القوانين بقدر ما هي في طبيعة الخطاب الديني.
وينفي أبو هنية وجود مقاربة ثقافية واجتماعية وفكرية ودينية بالتلازم مع المقاربة الأمنية، ولا يرى في الحديث الدائر أنه يخرج من الإطار الدعائي.
أما الطريق الوحيد الذي يراه ضرورياً لاصلاح الخطاب الديني فينبغي ان يمر عبر السلفية الإصلاحية التي كان الشيخ محمد عبده وغيره من العلماء المتنورين من روادها، وفي ما عدا ذلك فإن كثيرين من المتخصصين والباحثين لا يرون فارقا كبيرا بين ما يؤمن به عامة الناس وما تنادي به التيارات السلفية المتشددة.
تعريف السلفية
لا شك في ان كلمة «سلفية» أوسع بكثير من تلك المجموعات التي يحمل افرادها السلاح وينضوون تحت راية «جبهة النصرة» أو تنظيم «داعش».
فثمة سلفية تاريخية ظهرت على يد الامام أحمد بن حنبل، وهناك السلفية الوهابية التي أسسها محمد بن عبد الوهاب، والسلفية الحركية التي دشنها سيد قطب. وهناك أيضاً السلفية الجهادية المتمثلة بـ «القاعدة» و «داعش» و «جبهة النصرة»، بالاضافة إلى السلفية المحافظة التي تعتبر خليطا من السلفية التاريخية والوهابية.
وثمة سلفية وطنية وأخرى إصلاحية وهما تشكلان، بحسب بعض الاسلاميين، أنواعا من حركات التحرر سواء الوطني أو الاجتماعي في ضوء الدين الاسلامي، وتغيب ملامحهما نهائيا (الوطنية والاصلاحية) على الارض اليوم لمصلحة السلفيات الجهادية والوهابية والمحافظة.
رانية الجعبري
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد