واشنطن ــ الرقة ــ موسكو

02-12-2015

واشنطن ــ الرقة ــ موسكو

يفضي التراصف المنسّق والمرتب للعواصم: واشنطن، الرقة، موسكو، إلى قراءة مباشرة تشير بوضوح إلى أنّ الرقة عاصمة الخلافة في تنظيم «الدولة الاسلامية» محاصرة ومطبق عليها من كمّاشة رهيبة فكّها الأول: واشنطن، وفكّها الثاني: موسكو، فأين المفرّ؟

على أنّ شكلانية نظرية مثل هذه، ارتسمت خصوصاً، بعد الدخول الروسي العسكري المباشر في الحرب على «داعش» وأخواته، لا يمكن لها أن تفسر أو تقارب على نحو معقول تلك العلاقة المعقّدة ما بين واشنطن وموسكو في مجال مشترك تختزله عبارة «الحرب على داعش». ولعلها من المرات النادرة في التاريخ، إن لم تكن الوحيدة، إلى الآن، التي تشهد ازدحاماً استراتيجياً يكاد يصل إلى حدود الاختناق مموّه ومبرقع بمختلف الوسائل والأقنعة المضللة التي بمقدار ما تواري وتخفي تفصح وتفضح في الوقت نفسه عن صراعات معقدة ومتشابكة... ليس فقط بين طرفين يمكن وصفهما بالأعداء، بل وأيضاً بين حلفاء وحلفاء لهم وبين أعداء وأصدقاء لهم (يكفي فقط سرد أسماء السعودية وقطر وتركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة واسرائيل... ومحاولة ترتيبها في نسق كلاسيكي على قاعدة العداوة أو التحالف لاكتشاف قصور هذا النسق وعجزه عن ترسيم العلاقات على نحو واضح كما ينبغي). والحال أنّ الصراع يدور في تلافيف (عقدة جيو- سياسية) استثنائية، يبدو «داعش» فيها كمكون خاص، وربما يشكل اللغز الذي يقود انكشافه النهائي إلى بداية تراجع حالة الاختناق وإعادة تموضع القوى الاقليمية والعالمية في شبكة مواقعها أكثر انسجاماً مع أحجامها وعلاقاتها أكثر توازناً وتعبيراً عن دورها وقوتها.
إنّ «الحرب على الارهاب» فضلاً عن كونها افتتاحية لقراءة تضليلية لتفسير الوجود الأميركي مع حلفائه في فضاء المنصّة الممتدة من بغداد إلى دمشق، فإنها في الوقت نفسه أبجدية ساذجة وقاصرة عن مقاربة هذا الوجود ووظيفته مع غيره. وقد آن الأوان للتخلي عن هذه القراءة أقلّه في القاموس السياسي العائد إلى محور المقاومة. من دون مواربة يجب اعتماد مبدأ المصالح الاستراتيجية ومقتضياتها، وهو مبدأ عام ومحايد لا يخص دولة دون سواها.
بهذا المعنى، يمكن تأسيس القراءة البديلة استناداً إلى السؤال التالي: ما هو الاستثمار الأميركي في منصّة بغداد – دمشق، وما هي طبيعته؟ وأيضاً ما هو الاستثمار الروسي؟
تعرّضت هذه المنصّة للتدخل الأميركي أولاً في العراق وثانياً في سورية، وفي المرتين كانت روسيا هي الطرف الخاسر استراتيجياً، وهي بالتالي في الموقع المدافع.
من دون أدنى شك إن وصول روسيا إلى التدخل العسكري المباشر يشير إلى أنها - وإن كانت خارج أسوار موسكو - تقاتل بالقرب منها. ها هنا لا يبدو الوجود الروسي كنوع من الفيض الحيوي – الاستراتيجي بمقدار ما هو أقرب للدفاع الذاتي والمسبق على إحدى البوابات الاستراتيجية الشديدة الأهمية.
تحاول روسيا في معركتها الدفاعية هذه، ليس فقط، ضرب «جيش الفتح» الذي يتكاثر فيه الانكشاريون من أوراسيا، بل، بالدرجة الاولى، استعادة المنصّة السورية بالمعنى الاستراتيجي، بالتكافل مع الكيفية التي تثبّت محور طهران – بغداد – دمشق –بيروت (في نسختها المقاومة).
في المقابل، تحاول واشنطن (ولعل محاولتها بدأت مع دخول قواتها بغداد في التاسع من نيسان 2003) إيجاد بديل من «غائب» (صدام حسين الثمانينيات)... بديل يمكن له أن يقوم بدور القاطع لـ» محور المقاومة».
هل يمكن تفسير كل هذه الانقلابات الاميركية، وهذه البراغماتية المغرقة في درجة سرعتها طوال هذه السنوات، في ضوء ملاحظة العجز الاميركي عن الوصول إلى الدولة البديلة لـ»عراق – صدام حسين». الدولة التي تقوم بوظيفة القطع، والتي هي بمثابة «حاجز» يمنع من إتمام الصفات الاستراتيجية لمحور المقاومة؟!
يقودنا الاستطراد المنهجي إلى التفحص في «المكان» الذي تم فيه تأسيس دولة الخلافة، والامكنة التي استطالت إليها والتي تشمل بادية الشام مع محافظة الانبار وصولاً إلى الحدود الاردنية!
نظرياً وعملياً «داعش» يمثل دولة القطع/ الحاجز، ولكن المعضلة التي تواجه المستثمر الأميركي إنه لا تمكنه حماية استثماره هذا بالمكونات الذاتية التي تقوم عليها دولة الخلافة، وهو الآن في رحلة البحث عن «مكون آخر»، وليس عن «دولة» أخرى.
أميركياً، إلى الآن، لا بد أن تستمر الدولة التي اسسها «داعش»، وإن كان يجب تغيير نظام الحكم فيها.
روسياً، إلى الآن، لا بد أن تسقط هذه الدولة، ويعود الاستثمار الروسي في سورية إلى تمامه السابق.
إذاً أيستوي التراصف الشكلي: واشنطن، الرقة، موسكو؟ أو يفترض أن نعيد القراءة وفق واشنطن والرقة/ موسكو.

نزار سلوم

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...