حنا مينه: الصيد الأول والأخير في حياتي

09-04-2011

حنا مينه: الصيد الأول والأخير في حياتي

إنني أعرف جميع موبقات العالم في حياتي، من الروليت إلى البكرا، وهي الأخطر بين ألعاب القمار، إلى البوكر اللعبة الألذ والأكثر إغراء وجاذبية، لأنها تعطي اللاعب الفراسة، والمقدرة النفسية للاعب.

كل هذه الألعاب أعرفها، لكنني لم أدمن، و لم أرتهن إلى واحدة منها، أما صيد السمك بالقصبة والسنارة، فلا صبر لي عليه، ولا صبر على صيد عصفور التين، في زمن نضوج ثمرة التين صيفاً. ‏

إن حظي، في كل هذه الأشكال عن الصيد، صفر مع الرحمة، والمرة الوحيدة التي نجحت فيها باصطياد عصفور كانت في طفولتي، حين اشترت لي أمي، رحمها الله، آلة من أسلاك حديدية، أضع فيها الطعم، وأطمرها بالتراب، لاصطياد عصفور الدوري، الأخبث والأتفه بين العصافير كلها. ‏

فقد وضعت آلة الصيد هذه، تحت شجرة زيتون، وفيها الطعم، وانتظرت طويلاً، دون طائل، وبعد أن ذهبت لتناول الغداء مما تيسر رجعت فإذا بعصفور قد وقع في الفخ، فكدت أطير من الفرح، وكان هذا العصفور المسكين هو صيدي الأول والأخير في حياتي التي نيفت على الثامنة والثمانين الآن. ‏

تسألونني: وبعد؟ وأجيبكم: لا قبل ولا بعد، فقد فرض علي حظي أن أشتغل بالسياسة، وأين!؟ في منطقة كسب وما جاورها من بيوت متفرقة وكل سكانها من الأرمن الأقحاح، الذين طلب مني أحد الأصدقاء في اللاذقية أن أكتب عنهم رواية، فشمرت عن ساعدي، وأنجزت، خلال شهور، رواية الفم الكرزي لأن بطلة الرواية اسمها الحركي ييرانيك، واسمي جواد، أوفدوني إلى هناك لأقود هذه المنظمة، سراً في الليالي القارسة البرد، بذريعة تعليم الأطفال الأرمن اللغة العربية. ‏

اعترف. فشلت في الاصطياد، وفي صيد العصافير، ونجحت في صيد البشر إلى ما فيه خير وطني وشعبي، وكان إيفادي إلى منطقة كسب، وعمري أقل من العشرين، هو الامتحان الأول في حياتي الكفاحية، التي أتقنتها مع الأيام، فتحولت من صياد لعصافير الدوري، إلى صياد للمناضلين الأكفاء، الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه، فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر هذا الموت بفارغ الصبر مثل جنابي. ‏

رواية الفم الكرزي، ترجمت إلى اللغة الأرمنية، ولم يكن صيد الفتاة الأرمنية، ذات الفم الكرزي واسمها ييرانيك، هو الصيد الثاني في زمن اليفاعة فقط، بل كان المدخل إلى عالم السياسة. ‏

لقد تمرست في السياسة، كانت أسهل، أحياناً، وأصعب أحياناً أخرى، من اصطياد عصفور الدوري، لكنها، أي السياسة، لابد أن يكون لها هدف، ومن الأهداف النبيلة، وقد برعت فيها، غير هيابٍ ولا وجل، وفي الأربعين من عمري، وبعد السجون، وما فيها من رهبة، وعذاب، وتعذيب، مرقت من بابها الضيق، إلى باب أضيق، هو باب الكتابة الأدبية، وهذه لها حديث آخر أضيق، هو باب الكتابة الأدبية، وهذه لها حديث آخر، إذا كانت هناك فسحة في العمر بعد. ‏

إنني الآن، رهين المحبسين بيتي، ورجلي اليمنى التي أمشي عليها مشية الوحدة ونص، دون أن أرعوي، أو أترك القلم، إن وطني الذي كرمني مشكوراً، لايزال يتطلب مني متابعة الكفاح. ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...