تفكيك الرواية التوراتية

20-01-2008

تفكيك الرواية التوراتية

قليلة هي الدراسات والأبحاث التاريخية الجادة التي عملت وتعمل على تفكيك الرواية التاريخانية التوراتية، كما تذهب إليه مؤلفات د. جورجي كنعان منذ صدور كتابه الأول «وثيقة الصهيونية في العهد القديم» وحتى «خطيئة الفلسطينيين»*.

المؤلف الأخير الذي نعرض له هنا، والذي يسجل فيه مؤلفه وبمرارة، انسياق بعض الباحثين العرب – ومنهم فلسطينيون – لتبني المقولات التوراتية المبتدعة والزائفة والترويج لها، تلك التي أسست لتاريخ عنصري، سياسي ولاهوتي، كانت بلادنا، بل والعالم كله ضحيته النازفة، منذ ما قبل تأسيس الحركة الصهيونية في شكلها «المعاصر»، وصولاً إلى «نجاحها» في إقامة «وطن قومي» استند إلى «حق تاريخي» موهوم ومزعوم، أيدته وما زالت تؤيده وتوافق عليه «صهيونيات» عدة، سياسية ودينية. وليست المسيحية الصهيونية كما باتت تعلن عن نفسها في أميركا وأوروبا وأطراف العالم الأخرى، سوى أحد أبرز «حماة» و «داعمي» هذا «الحق» في الهيمنة على التاريخ، تبريراً للسيطرة على سيرورات الواقع العملي وصيروراته في نطاق الوجود الكوني الراهن، وليس الهيمنة على فلسطين باسم هذا «الحق» المزعوم فقط، ولكن انسياقاً وانسجاماً معه؛ يجرى إسكات التاريخ الفلسطيني، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لإنطاق هذا التاريخ، وتسليط الأضواء الساطعة عليه، لفضح تزييفات التاريخانية التوراتية.

ولهذا... فإن كيث وايتلام أستاذ الدراسات الدينية، ورئيس القسم في جامعة إستيرلنغ، في مؤلفه الرائع «اختلاق إسرائيل القديمة» **، وقد تحمل مشقة كهذه في فضح القائمين على الدراسات التوراتية والباحثين المصدقين لوجود «إسرائيل القديمة»، يلحظ أنه «وعلى رغم وجود مفاهيم تاريخية قومية مهمة في البلدان الحديثة المختلفة في الشرق الأوسط، وهذه المفاهيم توفر فهماً مقابلاً وأساسياً للمفاهيم الغربية وتمثلها لتاريخ المنطقة، فإن ما يلفت هو غياب تاريخ فلسطيني للماضي، أي تاريخ مكتوب من منظور فلسطيني. ومن الطبيعي ان يكون ذلك المنظور الفلسطيني ركز على الفترة الحديثة في صراعه (مع الصهيونية) لإثبات هويته القومية، وللحصول على دولة خاصة به، غير أن التاريخ القديم، على ما نعتقد، تم التنازل عنه لمصلحة الغرب ودولة إسرائيل الحديثة، إلا أنه «ومن منظور أوسع وأطول زمناً، فإن تاريخ إسرائيل القديم يبدو كلحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل، لذلك فإن من المناسب طبعاً للمؤرخين أن يركزوا على هذه الحقب القصيرة من التاريخ أو المجتمعات المعنية فيها».

لعل هذا تحديداً هو ما يدفع د. جورجي كنعان للإلحاح الدائم على ضرورة كشف الغطاء، والخروج من إسار تأثيرات الخضوع للأسطرة، وتبني الخرافات القديمة وغيرها، بل وفضحها في سياق تفكيك هيمنتها على التاريخ والدراسات التاريخية، فعلى رغم أن «خطاب الدراسات التوراتية قد تظاهر بالاختلاف حول جذور أو نشوء إسرائيل، فإنه في حقيقة الامر قد استخدم اللغة المعاصرة في الصراع حول فلسطين، بل وكثيراً ما تبناها» (وايتلام ص130).

ولهذا يؤكد وايتلام أن الصراع حول الماضي إنما هو دائماً صراع من أجل الهيمنة والسيطرة في الحاضر، ومعه يذهب د. جورجي كنعان للمطابقة بين مزاعم الزعماء الصهاينة والمؤرخين التوراتيين في تركيبهم لتاريخ دولة اختلقوها هي «إسرائيل القديمة». ومن البداهة أن يكون التاريخ الذي ركّبوه لهذه الدولة التي اختلقوها (في الماضي) هو القاعدة التاريخية للحركة الصهيونية (في الحاضر) و»باختصار هم اختلقوا أو ابتدعوا أو اخترعوا (مملكة قديمة) وركّبوا تاريخاً لتلك المملكة، على اعتبار أن المملكة المختلقة، والتاريخ المركب لها، هما وحدهما اللذان يبرران الحق في امتلاك أرض فلسطين، وإعادة بناء دولة يهودية تكون امتداداً أو استمراراً للدولة اليهودية القديمة» (كنعان ص 176).

إلا أن ما يحز في النفس، نفس المؤلف، ذلك السؤال الذي يستدعي الأسى والأسف، وهو لماذا اختلق المؤرخون العرب، ومن ضمنهم الفلسطينيون طبعاً، مملكة إسرائيلية في أرض فلسطين؟ ولماذا صنفوا لها تاريخاً زاهياً، زينوه بآيات من الأمجاد ومواقف من البطولات، ما يجعل التواريخ التوراتية الغربية تنحني إجلالاً وإكباراً أمام التواريخ العربية؟ هل غلبت على دوافع المؤرخين العرب كما على الغربيين، مضامين واتجاهات وأبعاد سياسية وثقافية معينة؟ وما هي؟ أم أن في الأمر جهلاً وقصوراً محزناً وتقصيراً معيباً؟

لهذا، لم يترك جورجي كنعان – ناسجاً على منوال سابقه كيث وايتلام – أسئلته معلقة، فهو إذ ينتقد أطروحات التاريخانيين – عرباً وغير عرب – المأخوذين بتاريخانية التوراة، يعود إلى المصادر التاريخية المعروفة والموثوقة، ومن واقع الآثار والنقوش والنصوص التاريخية، لا لينفي تاريخانية السرديات التوراتية فحسب، بل ليؤكد خلو التنقيبات الآثارية أو النصوص أو النقوش المكتشفة في مصر وسورية الطبيعية من أي سند لها.

وفي تأكيده موقفه، يقول الأب دي فو: «زد على ذلك ان ما اكتشف عام 1886 من وثائق تناهز الاربعمئة في تل العمارنة – العاصمة التي انشأها الفرعون أمينوفيس الرابع (أخناتون) 1375 – 1358 ق.م. تتضمن مراسلات الفرعون مع أمراء فلسطين وسورية، ومعلومات جديرة بالاهتمام عن المدن – الدول في أرض كنعان، ولكننا لا نجد فيها أي ذكر أو إشارة لإسرائيل».

أما في ما يتعلق بلوح مرنبتاح، فينقل وايتلام عن «طومسون»*** في تفسيره للنقش الوارد على اللوح، أن إسم إسرائيل يرجع إلى القرن 13 ق.م. حيث كان اسماً لشعب كنعان ( فلسطين الغربية) الذي يقول النقش ان جيش الفرعون المصري دمره. ويضيف طومسون أن ربط «إسرائيل» بكنعان في هذا النقش المصري المبكر، لا يمكن اعتباره مرادفاً لإسرائيل الواردة في التوراة. إن ما يقدمه هذا النقش هو مجرد أول ورود تاريخي لاستخدام اسم إسرائيل معروف لدينا. وهذا لا يشير إلى إسرائيل التي نعرفها من الكتابات الآشورية والنصوص الفلسطينية القديمة، فإسرائيل تلك كانت دويلة محلية سيطرت على المرتفعات شمال القدس، وقد ظهرت للوجود بعد بضعة قرون من الفرعون مرنبتاح. وهذا لا يمكن اعتباره مرادفاً لإسرائيل التوراتية. فإذا كان نقش مرنبتاح يعبّر عن أي حقيقة تاريخية، فإن التوراة لا تذكر عنه شيئاً.

وينقل كنعان عن المؤرخ اليهودي عمانوئيل أناتي نفيه وجود أي تماثل بين أسماء الشخصيات الواردة في تاريخ آباء العهد القديم والشخصيات التي وردت أسماؤها في النصوص التاريخية، وكل ما يبرهن عليه علم الآثار أن هناك مجموعات بشرية تشبه عشيرة إبراهيم، كانت تجوب صحراء سورية وسيناء في تلك الحقبة التاريخية.

وعلى ذلك، يشهد شاهد من أهلهم، ففي خطوة جريئة وثورية قل نظيرها – على الأقل حتى الآن – ذهب نص مقال عالم الآثار الاسرائيلي زئيف هيرتسوغ ليؤكد «أنه بعد 70 عاماً من الحفريات المكثفة توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة: لم يكن هناك أي شيء على الاطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط إلى مصر ولم نصعد من هناك، لم نحتل البلاد (فلسطين) ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان. الباحثون والمهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن، أما المجتمع (الاسرائيلي) فلا».

من هنا كان منطلق وايتلام في مطالبته المؤرخ وليس عالم اللاهوت، بأن يحدد برنامج البحث، «ففي الماضي كان علماء اللاهوت هم الذين يملون الطرق التي ينبغي استعمالها في دراسة إسرائيل، على أساس ان التوراة العبرية – التي هي ميدانهم الخاص – هي المصدر الوحيد. أما اليوم فيجب على المؤرخ أن يطالب بحقه في وضع برنامج البحث، وكذلك في رسم إستراتيجيات هذا البحث، ولكن علماء الدين والمفسرين لا يزالون يحاولون فهم، بل ومصادرة استنتاجات هذا التاريخ في ما يتعلق بتفسير النص التوراتي» (وايتلام ص123).

من هنا ضرورة أن يتجه التاريخ الفلسطيني للمطالبة بالزمان والمكان الخاصين به، واللذين أنكرا عليه لأكثر من مئة عام بسبب الدراسات التوراتية، وهذا ما يلح عليه كيث وايتلام ومن بعده كنعان ليس، في مؤلفه هذا، بل وعلى امتداد مؤلفاته كلها منذ «وثيقة الصهيونية في العهد القديم» وصولاً إلى «خطيئة الفلسطينيين».

وهكذا... وإذ جعل كنعان في معظم كتاباته من نقد المسلّمات اللاهوتية والسياسية جوهر عملية نقض التاريخ التوراتي الذي بنى مسلماته على قواعد وأساسات من التزييف التاريخي للنص التوراتي والدراسات التي تعاملت معه كنص تاريخي، فإن وايتلام نفسه كان استنتج في بحثه القيّم أن تلك «المسلّمات اللاهوتية والسياسية للبحث عن إسرائيل القديمة تحكمت في تحديد إستراتيجيات البحث» كما أنها «تحكمت أيضاً في تحديد طبيعة النتائج وكيفية استخدامها.

وهذا ينفي عن البحث صفة الموضوعية التي تجعله معلومات موضوعية للمؤرخ، بما يمكنه من سرد قصة تعكس رؤية موثوقاً بها للماضي»، خالصاً إلى «ان الافتتان بإسرائيل هو الذي هيمن على علم الآثار التوراتي». وهذا تحديداً ما دفع كنعان لأن يكون قاسياً جداً بحق أولئك الذين فتنوا لا بإسرائيل، ولكن بالأسس الزائفة والعنصرية التي قامت عليها، ويجرى تبرير قيامها على الأسس نفسها، ليس استناداً إلى نفي التاريخ، بل والتدخل في كتابته زوراً وبهتاناً، بما أضفى ويضفي مسحة، بل مسحات من خرافات التورية التاريخانية، وهي تمضي بعملية تصديق ما لا يصدّق، ولا يمكن القبول به عقلياً ومنطقياً من سيل تلك التلفيقات التي أضفت على «إسرائيل التوراتية» تبريرات الوجود في الماضي من أجل القبول بها «دولة واقعية» في الحاضر، دولة للعنصرية الصهيونية السياسية واللاهوتية، وهي التي لم تستطع على رغم مرور 59 عاماً ونيف على إقامتها، ومرور 40 عاماً على احتلال البقية الباقية من فلسطين أن تعثر على أي لقية من اللقى التاريخية التي تثبت مزاعم توراتها وتزييفاتها التاريخانية، لا في شأن الاشخاص ولا في شأن المواقع ولا الأحداث المسرودة عن تلك الحقب التي لم تكن ذات طابع «إسرائيلي» بالمطلق، قدر ما تثبت النصوص والنقوش والآثار التاريخية أن هذه الحقب إنما عبقت على الدوام برائحة عربية كنعانية، ولكن للأسف لم يستطع الكنعانيون ولا الفلسطينيون في ما بعد أن يحتلوا مسرح الرواية التاريخية، أو أن يحرروا التاريخ أو يستعيدوه من كل مجالات الهيمنة والسيطرة عليه. وكما يقول وايتلام، فإن الصراع حول التاريخ الفلسطيني لا يزال في بداياته الأولى، وحتى يكتب له النجاح سيكون من الضروري تعرية المصالح السياسية والدينية التي كانت الدافع وراء اختلاق إسرائيل القديمة في خطاب الدراسات التوراتية، وهذا الكتاب «خطيئة الفلسطينيين» واحد من تنكّب جهد ونتاج عمل مضن، أوقف د. جورجي كنعان عمره كله، إلى جانب كتبه وأبحاثه ومؤلفاته التي بلغت التسعة عشر حتى الآن من أجل الإضاءة عليه، علّ وعسى أن يكون ذلك مساهمة ضمن مساهمات إخراجنا من عتمة التاريخانية الزائفة إلى فضاء التاريخ، ومن ظلمة المكبوت والمسكوت عنه إلى أنوار العقل ومناراته.

* خطيئة الفلسطينيين – د. جورجي كنعان – دار الطليعة للطباعة والنشر - بيروت 2007.

** إختلاق إسرائيل القديمة – إسكات التاريخ الفلسطيني – تأليف كيث وايتلام ترجمة د. سحر الهنيدي، مراجعة د. فؤاد زكريا. العدد 249 من سلسلة عالم المعرفة – ايلول (سبتمبر) 1999 – إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت.

*** توماس ل. طومسون: أستاذ علم الآثار في جامعة ماركويت في ميلووكي، طرد من منصبه في العام 1992 لأنه أوضح في مؤلفات له ان مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والاسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم من صنع الخيال.

ماجد الشيخ

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...