ملف عن غياب الشاعر محمود درويش (4)

12-08-2008

ملف عن غياب الشاعر محمود درويش (4)

أكّدت المعلومات الواردة من عائلة محمود درويش في قرية الجديدة الجليلية، ما تناقلته وكالات الأنباء من أنّ تشييع جثمان الشاعر الراحل في رام الله قد تأجّل إلى يوم الأربعاء. وقد ارتفعت خلال الاجتماع المصغّر لمناقشة إجراءات الجنازة، أحد أقرباء الشاعر الراحل محمود درويش يوم أمس في بيت أهله في الجديدة، الجليلأصوات تطالب بأن يدفن شاعر فلسطين الأكبر في الجليل، أي في فلسطين التاريخيّة التي ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي. لكن من دون جدوى. ويجري الهمس في الكواليس عن تفاهم ضمني بين السلطة الفلسطينيّة وسلطات الاحتلال على عدم فتح هذا الملفّ الحارق، والمزعج لإسرائيل. طبعاً هذا الكلام غير مؤكّد، لكن لم يبدر حتّى الساعة أي مؤشرات تدل على أن السلطة الوطنيّة معنيّة بدفن محمود درويش في أرضه الأم.
أمّا عن الجنازة في رام الله، فقد تقرّر أن تكون نقطة التقاء المشيعين في قصر الثقافة في رام الله عند الواحدة، وستبدأ مراسم التشييع بعد صلاة الظهر. وقد اختارت السلطة الفلسطينية تلةً تقع جنوب رام الله وتطلّ على مدينة القدس، لدفن الشاعر إلى جانب قصر الثقافة الذي أقام فيه آخر أمسياته الشعرية.
وعلى مفترق قرية البروة مسقط رأس درويش، الواقعة على الطريق الواصلة بين مدينتي عكا وصفد، سيلتقي عصر اليوم محبّو الشاعر. من هناك، سيسير موكب جنائزي رمزي نحو قريته «رغم السياسة والواقع والجغرافيا، لأنّنا سنعود»، كما كتب المبادرون الشباب من حيفا وعكا والناصرة.
وفي حيفا، على المستديرة في حيّ الألمانية التي شهدت في السنوات الماضية نشاطات سياسيّة مناهضة لحرب لبنان وقصف غزة وإحياءً لشهداء أكتوبر، وقف العشرات لإضاءة الشموع في المدينة التي وصفها درويش بأنّها «أمّي بالتبني». فيما تجمّع العشرات في مسرح «اللاز» العربي في عكا، حيث بُثّت أجزاء من أمسيات درويش الشعرية على شاشة عملاقة. أما الشبيبة الذين لا يفارقون الحواسيب، فقد استبدلوا صورهم بصورته في برامج الدردشة، ومن تحتها «وداعاً»...

(الأخبار)

محمــود درويــش ..لمــاذا تركــت الحصــان وحيــداً (٢)
¯ محمـود حميـدة:
خســرتــه الأمــة
صحبني محمود درويش في كل مراحل عمري حتى اللحظة، وكنت حريصا أن أحضر أمسياته في القاهرة أو في الخارج في حال اتفق وجودي مع أمسية له، ولا تزال الكثير من دواوينه في طبعاتها الأولى القديمة في حوزتي، ولا زلت أستمتع بها، الوطنية الخالصة المخلصة، الانتماء المتماسك والقوي، والشعر الذي يقطر جمالا لغة وأسلوبا، من لم يقرأ درويش لم يقرأ الشعر، هذه الروح الإنسانية التي تسري فيه تجعلك تتعاطف مع كل إنسان يتألم في هذه الدنيا . إنني حزين إذ خسرناه لأننا خسرنا صوتا أقوى من أي صوت آخر، صوتاً يضطرك إلى أن تحتضنه وتهمس به وتردده . Image removed.
للأسف الشعر والشعراء والمثقفون وحدهم لم يخسروا درويش ولكن خسرته الأمة كلها بكل ما فيها، خسرت ابنا مخلصا، عاش ومات متطلعا للحرية لنفسه ولكل أبناء وطنه .

¯حسـن جونـي:
متحف لقصائدك
(سجل أنا عربي)... حين أسمعنا محمود درويش حقيقة هويته، كان شعره يتدحرج في زمننا مثل كرة من حنين مكسوّ بالغضب. وحين أخذ يزرع وجداننا بقصائده، اعتدنا على استقبال دواوينه الشعرية كحدائق من برتقال فلسطين ووردها المكتوم. كنت أشم في شعره رائحة تراب فلسطين الممتزج بالقهر والظلم والشهادة. كان محمود درويش مقاتلا من طراز مختلف، دخل في الشتات مع من نزح وأدخلنا في أهوال الشتات، حتى لظننت أنّا في شتات واحد.
محمود درويش... سيرافقك في رحلة الموت شريط النكبات والهزائم والآمال المكسورة، ومرايا الوجدان العربي المعتم التي لا قسمات لنا فيها ولا ملامح.
حسبي أن أجد في قصائدك متحفا من لوحات رسمتها أنت بحروف عربية، لكن بنقاط من دمّ. عزاؤك أنك ستعود الى تراب فلسطين، وهذا كل العزاء.

¯ صلاح فضل:
التملص من المباشرة
في شعر محمود درويش أمران واضحان، أولهما انه كان يميل إلى تغليب جانب التعبير على التجريد في كتابته، فبوسعنا ان نتمثل جيدا التجربة التي يعبر عنها ونعجب بها، والثاني انه كان يعمد إلى تشعير اللحظة الوجودية بالوصول بمفارقاتها إلى أبعد مدى وأكثف نقطه تتجلى عندها ومضة الجدل وهي تبلغ قرارها التصويري والإيقاعي الأخير، وان ما يسعفه لتفادي نثريه السرد هو هذا الوهج الإنشائي الذي يتخطف عبارته فيكسبها حرارة وحلاوة لا تخلو من بعض المرارة. لقد استطاع محمود درويش التملص الماهر من مباشرة السياسة في قصائده، على الرغم من أن القارئ تعود دائما على فهمه وتفسيره في ضوئها، فهو منقوع في مائها ومخبوز في أتونها. وبقدر ما كان يرفض ان يتكئ على نبل قضيته، فإنه كان يجتهد في تجديد مساراته وابتكار دروبه وأساليبه، غير ان ما أنقذ شعره من عملية الرمز الخفي والتجريد البعيد هو حفاوته بالإشارات الدالة، الكافية لكي ينفتح القارئ على فنون التأويل الخصب والتذوق الجمالي الممتع لأبعادها.

¯ رفيق علي أحمد:
منارة عتمتنا
محمود درويش منا ولنا، لقد كان منا وما زال، كتبنا وحكانا وحفظ ذاكرتنا، من خبز وقهوة أمّنا، وربطنا بجدائل أرضنا بخيط أمل يلوّح بذيل تاريخنا. حفّزنا على الثورة على أنفسنا اولا، وأثار فينا الحنين الى ثقب الأرض. دلنا بالبرهان أن اللغة والشعر قوتان متوازيتان وأقوى من الرصاص، تفعل فينا فعلها وفي كل نفس بشربة.
حين نسمع اسم محمود درويش نرى في العين والوجدان فلسطين بناسها وأرضها وعتبات بيوتها، وتطالعنا كل الصور وذكريات الحب والحنين، الى الأصالة التي تحفزنا للثورة على الذات وعلى أعداء الإنسانية من أجل الحق والعدل والإنسان أينما كان.
محمود درويش بشعره الحديث رمز واقعنا، حتى صار هو الرمز. هو كبير من أكبر كبارنا على قلتهم في هذا الزمن، حاضر رغم غياب جسده. سيبقى رمزا ومنارة تنير دروبنا المعتمة. صادفته في مقهى في قرطاج وقلت له أنا يا أستاذ محمود من خيمتكم، وعندي قلق وخوف أن أبدأ بالبحث عن خيمة لي.
رحل ولنا أمنية أن لا يكون قد ترك الحصان وحيداً.

¯ حيدر حيدر:
لا خليفـــة لـــه
تكاد الكلمات تضيق وتستعصي في التعبير عن هذه الصدمة الفاجعة التي زلزلتنا حتى تخوم البكاء والانتحاب. فقدان الشاعر العظيم محمود درويش فاجعة على المستوى العالمي لا على المستوى الفلسطيني والعربي. لكن ما يعزّي الثقافة العربية والشعر العربي هذا التراث الشعري العظيم والخلاق الذي تركه لنا وللأجيال اللاحقة.
سيكون من الصعب أن يكون لمحمود درويش خليفة في هذا المستوى الفني المدهش الذي أوصله إلى فضاء العالمية ومستوى الشعراء العظام في العالم.
لترفّ الحمائم فوق روحك يا محمود وفوق فلسطين التي غادرتْها ولمّا تتحرر من عدوها الغاصب.

¯ وليد معماري:
في الوقت الصعب
صوتنا يغادرنا الآن، ويترك لنا شوك الطريق ورماد البراري، يمضي بجلال يشبه جلال الآلهة.. هل غادرنا في الوقت الصعب؟ أم انفجرت الشرايين فيه من زخم الألم، وقد رأت ما رأت، وسمعت ما سمعت، وصُلبت ما صلبت؟
انتهت الدروب إلى مفازة العقم، والبغال المعصوبة العيون تدور.. تدور! ولا ماء للشفتين، ولا ندىً على مساحات الوردة، ولا غدير عذوبة للصفصافة، والبلاد نائمة. محمود درويش، لك المجد، ولنا الدمعة الهاطلة.

¯ أحمد قعبور:
لا حدود لخسارته
للصدف أنهيت تلحين قصيدة لمحمود درويش بعنوان »ولهذا أستقيل«، والآن تذكرت عبارة »تعبت الآن، علقت أساطيري على حبل غسيل، ولهذا أستقيل«.
الاستقالة من الحياة قصيدة لا تكتب، تبقى رهن الكتابة الدائمة. أعتقد أن لا حدود لخسارة محمود درويش، كأنها تأكيد حسي ومادي لكل خساراتنا في قضايا الأوطان، وعلى رأسها فلسطين وقضايا الإنسان التي نعيشها يوميا. أستدرك فورا لأقول إن هناك في التاريخ قضايا سقطت ولكن تعبيراتها باقية أبد الدهر. بت أخشى على فلسطين الآن أكثر من أي وقت آخر، كما أخشى بعد ما يجري في غزة ورام الله على ألا يبقى من قضيتنا الكبرى إلا قصائد محمود درويش.
أتكلم معك وأتذكر ملامح وجهه وهو يصافحني في المدينة الرياضية استعدادا للتظاهرة الفنية معه ومع ماجدة الرومي في ذكرى الانتفاضة، وأعتقد في النهاية أن الكثير من الأمهات الفلسطينيات لو باستطاعتهن أن يشددن وثاقه بخيط يلوح في ذيل ثوبهن.

¯ عمر فاضل:
شاعر العروبة المعاصرة
ليست فلسطين وحدها غارقة في الحزن على ابنها البار، رمز صمودها، وعذاباتها، وكبريائها محمود درويش، الدنيا العربية بأسرها في حداد على ما تعتبره شاعر العروبة المعاصرة الأبرز.
هو الذي حلّق في التعبير عن قضية العرب فلسطين، وقضية الحق العربي الى ذروة انسانية عالمية، وحقق للشعر العربي مكانة عالمية على صعيد الابداع الفني، فترجم شعره الى معظم لغات العالم.
ستزداد دنيانا الحزينة التي أدمنت الحزن، حزنا على حزن لغيابه، وربما ازدادت فقرا على صعيد الروح. اذ كانت اطلالاته على الدنيا الفلسطينية والعربية مصدر قوة والهام لكل الصامدين في وجه الظلم ولكل العاملين من اجل غد أفضل على مستوى الحرية والعدالة والانتصار للحقوق الوطنية والانسانية الشرعية على أرض فلسطين وعلى الأرض العربية.

¯فاطمة ناعوت:
آن للقلب المتعَبِ أن يستريح
»لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى«. لكن هناك طفلا عاد بعد رحلةٍ إلى بيته القديم فلم يجد لُعبتَه وسريرَه وكراريسَ الرسم والزيتونة. لا يجدُ البيتَ ذاتَه. لا يجدُ الحارةَ التي بها البيتُ. ولا الشوارعَ ولا الحيَّ. لا يجدُ القريةَ بحالها. يبحث الصغيرُ في الخريطة ويشير بإصبعه: كانت هنا بلدتي، وهنا بيتي. فأين راحت؟ ويجيبُ الكبيرُ: محاها صهيونُ يا ولدي ليحطَّ محلَّها أرضا يبابا! هيا بنا، يا صغيري إلى بيروتَ إلى القاهرةِ إلى تونسَ إلى باريسَ. وإلى كلِّ مكانٍ عدا فلسطينَ. فلسطينُ ما عادت لنا. فيطرقُ الصغيرُ برهةً ويتعوّد حزمَ حقائبه. لكن امّحاءَ بقعةٍ من الأرض كانت مسقطَ رأس الصبي، لا من كراسة الجغرافيا ولا من الخريطة بل من الكوكب بأسره، سيورثُ قلبَ الصبي الوجعَ. فيشبُّ الفتى بقلبٍ لا يكفُّ عن السؤال ولا يبرحه الانفطار. رغم هذا، وربما بسبب كل هذا، سيقدرُ أن يحملَ هذا القلبُ الصغيرُ المعلولُ وطنا بأسره. »وطنُ ينزفُ شعبًا ينزفُ وطنا يصلحُ للنسيان«. سيحمل هذا القلب المنذور للغربة مسألةً لا تزالُ تعيي العالمَ بحثا ومناورةً واتفاقياتٍ ومراوغةً وضجيجا وضحايا وقصائدَ ودماءً. فيتعلم هذا القلبُ الشعرَ ويعلّمه. ويعرفُ كيف يغدو بقلمٍ أعزلَ مقاتلا خطِرا أبيضَ الكفّين. يواجه الموتَ مرتين. ويهزمُ الموتَ مرتين. فالموتُ جبانٌ إذا ما واجهته. يقول للموتِ مرّةً ومرّة كنْ مهيبا كما يليق بكَ ولا تأخذني من الخلف، خذني بقوة. لكن الموتَ جبانٌ، أخذه نائما مخدَّرا. تعب القلبُ المرهقُ من خذلان العدو ومن غياب الوطن ومن قسوة الأصدقاء. تعب من سجن القضية ومن سجن القصيدة ومن سجن الهوية، فاختارَ أن يطيرَ، بعدما عاش سنواتٍ بعمرِ حزيرانَ المرِّ. إلى أين سيطيرُ القلبُ؟ إلى حيث ريتا. أينما كانت سيطيرُ إليها كي يستريح فوق قلبها. آن للقلب المتعب أنْ ينامَ. فنمْ ملء جفونك، يا فتى الشعر النبيل، عن شواردها. عليكَ الشعرُ والسلامُ والحبُّ. عليكَ، يا درويش، الحياة.

¯ علي الحجار:
لن ينقضي حبنا
لقد غنيت قصائده أمامه في حفل أقيم له بمكتبة الإسكندرية وصفق بمحبة حملها وجهه البشوش، لقد تحدثنا طويلا في الشعر والعرب وكان في كل كلمة تخرج منه عاشقا كبيرا للوطن وللحياة، ولا تزال قصيدته »أموت اشتياقا« التي يقول فيها »أموتُ اشتياقا، أموت احتراقا، شنقًا أموت، ذبحًا أموت، لكن لا أقول، مضى حبُّنا وانقضى«، وليلتها أيضا غنيت من ألحان محمد عزت الذي غني بدوره، غنيت قول درويش: »أنا آتِ إلى ظل عينيك ـ من غبار الأكاذيب آتٍ ـ من قشور الأساطير آتٍ ـ أنتِ لي وأنتِ الفرح ـ أنتِ حزني وقوس قزح« .
إن درويش ليس مجرد شاعر فذ استطاع أن يحوز كل هذه الجماهيرية العريضة من الخليج للمحيط بل لكونه إنسانا تستشعر معه ـ حقيقة ـ بعمق جمال الحب والحياة، إنني أحد متابعيه ومتذوقيه، وحرصت ولا زلت على قراءة جديده، رحمه الله سنفقد برحيله لغة صافية عذبة وقلبا يرفرف بالإنسانية. وتعازي لكل الشعراء، لكل فلسطين والفلسطينيين، تعازي للقضية الفلسطينية التي ناضل من أجلها كثيرا.

¯ خيري الذهبي
الشاعر فلسطين

الغريب أن التاريخ، وحتى الأدبي منه، لا يتعلق إلا بالفاجعيّ والصارخ، ويتجاوز الهادئ والناعم والمنعزل. فكم واحداً من غير المختصين يتذكر الشاعر الصنوبري؟ ذلك الذي قصر كتابته على التغني بالزهور والطيور والجميل في الحياة. كم نسبة من يذكرونه مقروناً بمعاصره المتنبي، ذلك الذي وضع لنفسه هدفاً سياسياً هو الوصول إلى الملك، أي ملك. فناضل وسجن وتشرد وجاع وعمل لدى الملوك، حتى لدى من احتقره منهم ككافور. وكل ذلك في سبيل الوصول إلى المُلك. ومات ولم يصل إلى المُلك الزمني، ولكنه على غير تطلع حقيقي منه وصل إلى مُلك آخر؛ ملك الشعر، فصار الشعر العربي من بعده، حين يؤرخ، يؤرخ بالمتنبي.
السؤال الآن: أكان هذا هو قدر محمود درويش حين صرخ: »سجل أنا عربي«؟ في زمن كان فيه العربي في فلسطين المحتلة يحسب مئة حساب قبل أن يصرخ صرخته تلك. فالتقط رجاء النقاش ذلك النداء وصرخ: »في فلسطين عرب«. وكنا قد نسيناهم كما نسينا مسلمي الأندلس. لقد صاروا مضغة في بطن الحوت. وكان متطرفونا يلومونهم؛ لقد ظلوا هناك، لقد اختاروا البقاء مع اليهود. وكان الأشد تطرفاً يخوّنهم.
كنا أضعف من أن نقدّر أن أولئك الناس كانوا هم القابضين على الجمر، والقابضين على العروبة في بطن الوحش. وحمل رجاء النقاش رسالتهم إلينا: »سجل أنا عربي«.. وخرج محمود درويش، مع قيام
الثورة الفلسطينية، واختلطا حتى صار من الصعب التمييز بينهما.
الثورة الفلسطينية حفلت بالشعراء ومعظمهم كبير: أحمد دحبور، المناصرة، سميح القاسم، الكرمي، وكثيرون. لكن درويش كان طعماً آخر، كان شاعراً كبيراً، وكان محظوظاً كبيراً جاء في المكان المناسب، وجاء في الزمان المناسب، فصار الشاعرُ فلسطين.

¯ عادل محمود:
لا نصدق عالماً من دونه
الحزن على غيابه هو من النوع المؤذي، النوع الذي يجعل الحياة بذيئة بدرجة انحراف سيئ عن محتواها النبيل. شيء يشبه غياب فلسطين قبل ستين أذىً، الستون التي كان محمود أثناءها ينشد الحرية والألم البشري، بذلك التوتر الذي لا يحتمله القلب البشري.
كما لم نصدق أن فلسطين ضاعت إلى الأبد، لا يمكن تصديق عالم بلا هذا المكابر العظيم، وشعر بلا هذا الشاعر العظيم، وسخرية بلا بلاغته في ازدراء اليأس، وإيمان بلا نبرة يقينية بجدوى تربية الأمل كماعز في الجليل.
قبل شهرين قلت له: تعال إلى سوريا بلا شاعر كبير، ونجم كبير.. تعال نتسلّ. اقض بيننا أياماً نشوي خلالها خروفاً بدلاً من سحابة، ونحك جلودنا كالذئاب في غابة صنوبر على البحر. وقد وافق وترك لنا، أنا وطاهر رياض، أن نحدد كيف ومتى.
جاء طاهر وأخبرني أن محمود وضعه خطر، فثمة شريان قد ينفجر في أي لحظة، وانه كتب قصيدته الأخيرة.. ما يبدو أنه قصيدة الشاعر الذي يلقي من نافذته ولغته نظرة أخيرة على الدنيا.
خطرت في بالي هذه الأمنية المستحيلة (ويبدو أن كل أمنياتنا مستحيلة): لو نتبرع لمحمود بعدد من السنوات. بالطبع كثيرون هم المتبرعون لدرجة أنه سيخلّد.
أنا شاعر في الستين. بصدق قلت لطاهر: أنا أتبرع بخمس سنوات. ولكن بسخرية قلت: قد لا أملكها أنا أيضاً.

¯ هالا محمد:
بوصلة الشعر
قد تنظر إلى السماء، قد تبكي وتكتب شعراً، ليس أزرق!! لكن السماء تبقى بوصلة نظرك إلى البعيد ومعياراً للأزرق.
رحل بوصلة الشعر الحديث، وبقي شعره البوصلة.
اتصلت به منذ أشهر عند عرض فيلمي (رحلة إلى الذاكرة) عن »أدب السجون« في قناة الجزيرة، ليرى الفيلم، وقلت له مازحة، لكن جادة: »إذا حبسوني بعد العرض دافع عني.. أنت قوي«.
قال مستغرباً وضاحكاً مفكراً: »أنا قوي؟!« قلت: »بنظري لا يوجد من هو أقوى«. وقلت في صمتي أنت معيار للحرية، للاشتقاقات في اللغة، للغربة في الأوطان، وللمنفى في الوطن، أنت معيارٌ للتسامح، وقوة الموقف وعدم الادعاء بأي قوة من فرط شاعريتك. صمت هو أيضاً، ثم قال بصوت منخفض، بإيقاع صوت حزين: »لا يوجد قوي يا هالا، لا أحد قوي .. تغيرت الدنيا! «.
بعد فترة اتصلت به: »قصائدك في جريدة الحياة أبكتنا، هيثم وأنا، قرأنا شعرك في بيتنا وشربنا نخبك ليلتها. قال بحرص، وبذلك الإيقاع الموسيقي الذي كان يتكلم به وكأنك تقطعه عن الشعر فيستمر في إيقاع الوجدان الذي يرشح في صوته، فيشف في شرايينك فتصبح إنساناً أجمل وأرقى وأنت تتحدث إليه: »لماذا أبكيتكم؟« قلت: »شعرنا أنك وحيد، وقصائدك ترشح بالحزن، وأنت، أنت، حبيبنا« قال: »بتعرفي أنا أسمع هذه الأيام فايزة أحمد وأبكي« صمتَ، وصمته إيقاع كثيف وصور ومطر في القلب، ثم أكمل: »صوتها عميق وحنون يحمل إلي الكثير من الشجن. أشعر أننا ظلمنا صوتها كما ظلمنا أناساً كثراً«.
نبرة الشجن، العدالة، الذكاء، الإنسانية، كانت تصلني، لم أشك في حياتي بكلمة واحدة قالها شعراً أو نثراً. هو بوصلة الشعر بالنسبة إلي، الشعر العربي والعالمي، بوصلة الاستقلالية والإنسانية والذكاء الذي وصل حدّا من الحدّة في الجمال فرشح شعراُ فريداً. هو الكبير وآخر الشعراء الكبار، نحيل كخيط شعر كريم، كطيفٍ، كصاعقة. الأهم من كل هذه المقاييس أنه محمود درويش يا أمي الذي طالما أحببته. حين كتب أحمد الزعتر قالت: »والله العظيم هذا الشاب صادق ومجروح وشريف، الله يلعن أبو الظلم، لا أحد مثله، الله يخليه لأمه ..«. قلت: »ليس لأمه يا أمي، هو لنا هذا محمود درويش حبيبنا..«. قالت: »بعرف«. صمتت، ودعت له معنا.

¯خيري شلبي:
السنبــلــــة
في حركة الشعر العربي الحديث كان محمود درويش مذاقا جديدا تماما ، فمن بواكير الصبا كانت بداياته تنبئ عن شاعر كبير شديد الفحولة أكبر من أن يكون مجرد شاعر بين الشعراء، لا أزال أذكر بداياته الأولى تلك التي طالعتها في أوائل عقد الستينيات من خلال ذلك الأديب الفلسطيني الكبير الشهيد غسان كنفاني، أحد أهم روافد الحداثة في أدبنا العربي المعاصر، كان كتابه أدب المقاومة في فلسطين المحتلة نافذة على جيل جديد هو نفس جيلنا في طبعته الفلسطينية في جحيم الاحتلال الاسرائيلي: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، وأذكر أنني فرحت بهم جميعا كأن فلسطين عادت إلينا، ولكن محمود درويش كان نسيجا وحده، كان فيه وظل كذلك حتى رحيله الكثير الكثير من خصائص السنبلة، تأكدت تلك الخصائص في قصائده ودواوينه، ومن خصائص السنبلة محمود درويش أن القصيدة عنده مضفورة كضفيرة السنبلة بالضبط، الحب فيها منضود في تناسق إلهي مذهل.
رحمه الله بعد قراءته تشعر بالعزة والسموّ وبمعنى الكرامة وبروح الإباء، تشعر بالسؤدد، بالارتفاع فوق الصغائر، وتشعر بأنك تستطيل وأن قامتك تتصاعد مع الشعر إلى ما يشبه الإسراء والمعراج حيث ترى ما لم تكن تحلم بالسفر إليه، رحم الله محمود درويش شاعر فلسطين.

¯ صلاح بيصار:
اللوحة الشعرية
أجمل شعراء المقاومة في الوطن العربي والذي جسد أروع اللوحات المقروءة شعرا في لغة النضال والحب، وما قدمه في رحلته الشعرية مع الواقع العربي والفلسطيني يضعه في مصاف الشعراء الكبار في الشعراء الكبار عالميا إيلوار وأراغون ونيرودا .. وقد جسد الشخصية الفلسطينية وجغرافية المكان بروح الثورة والمقاومة بلغته البديعة التي تنساب بالتيارات والكروم والزيتون والبرتقال والشموس والأقمار وذكريات الجدات والحنين والسنبلة والرغيف والبندقية والكرامة والعزة و..
يا مواويلي يا مواويلينا
الضرب بالخناجر ولا حكم الندل فينا
لقد جعل من كل هذا عالما شعريا يغني للإنسان في كل مكان، يغني للثوار والأحرار، للفقراء والجياع ويغني للوطن والحب، ومثلما كان يحيا شديد الحب لوطنه، كان عربيا من المحيط للخليج، وما أجمل ما قاله عن مصر والمصريين، ولا أنسى قصيدته الرائعة التي يقول فيها عن المصريين: يموتون بداء الحب أو البلهارسيا. كانت أشعار درويش ملحمة إنسانية تدق الطبول لكل ما هو جميل من أجل الإنسان والحرية، وكان الرمز الحقيقي لمعنى الوردة والبندقية، ومعنى الإنسان ومعنى الصدق والصمود والازدهار في عصر الانكسار.

¯ شربل داغر:
حدث في صيف ١٩٧٣
موت الأصدقاء، موت الكبار، مفاجئ دوماً، حتى وإن كان متوقعاً. فكيف إن كان بحجم غياب محمود درويش.
موته قد يناسب صورته شاعراً، إذ مات مثلما عاش في ذروة النشيد: »العاشق« صرعه قلبه، ولم يمت أبداً في مقعد الشيخوخة الهزاز. إلا أن موته لا يناسبه إنساناً، طالما أنه بقي ـ على الرغم من احتراساته الطبية الأخيرة ـ ذواقة بكل معاني الكلمة، ولأنواع المباهج كلها.
أيام قليلة تفصل موته عن موت ألكسندر سولجنتسين، من دون أن تفصل بين معاني الحياة والكتابة بينهما، على الرغم من كل التباينات الظاهرة. هو مثل الروسي غادر وطنه لكي يعود إليه. وهو مثله عاد إليه، وإن اختلف طعم العودتين.
عاد سولجنتسين لكي يوقف السرعة الجنونية التي دارت بها »العجلة الحمراء« في بلاده، كما لو أنه يريد تصحيح التاريخ بالرواية. فيما عاد درويش في نوع من الوفاء لتاريخه، لكي يكون على مقربة أكثر من العائدين، بل لكي يكون أكثر إنصاتاً لوجيب قلبه الداخلي.
من يرثي درويش، اليوم، هو الذي كان يتكفل بمراثي طيور الياسمين وليمون الآهات وعزلة الذهب؟
حدث هذا في صيف العام ،١٩٧٣ في كبرى ساحات برلين الشرقية، »ألكسندرا بلاس«، بعد الظهر.
كنت قد التقيت بمحمود درويش قبل هذا اليوم بثلاثة أسابيع، في سهرة في بيروت. أخبرته، ليلتها، عن تحفزي للسفر، في أول رحلة في حياتي. ما كنت أعلم، حينها، مقدار الصعوبة في بلوغ السفر. ذلك أنه كان علي، مثل أصدقاء كثيرين فوق السفينة، مثل أمين معلوف وطارق متري وأنور الفطايري وغيرهم، أن نعبر المتوسط فوق باخرة روسية إلى ميناء في رومانيا، ومنه عبر القطار وصولاً إلى مقصد الرحلة، للمشاركة في »مهرجان الشباب العالمي«.
كنت متحرقاً للوصول، أشبه بمن يقف أمام بوابة الوصول على مدى أيام وأيام، من دون أن يصل. وهي الصورة التي تبدو ـ على ما أتحقق الآن ـ في خلفية كتابي الشعري الجديد: »ترانزيت«.
ما إن وضعت حقيبتي الخفيفة في غرفة الفندق، حتى سارعت إلى الوصول إلى الساحة الموعودة، التي أشار لي صديقي، ورفيق الرحلة، فؤاد حماد، بالذهاب إليها، هو الذي احتاط من مفاجآت السفر بأن تدبر القراءة عنها، قبل القيام بها.
كانت الساحة هائلة بحجم حيرتي وتوتري. آلاف من الوجوه بألف لون ولون تعبرها في مسارات يصعب تبينها أو تحديدها. صرت أمشي فيها من دون وجهة، من دون أن أطلب شيئاً منها سوى المشي، سوى أن أكون فيها، مع هذا الجمع المبهم والحيوي. فإذا بي أقع على محمود درويش أمامي، قبالتي، تماماً وجهاً لوجه، ما لا أقوى على تجنبه: »أيعقل هذا، يا محمود؟! ألا يحق لي السفر؟! ألا يحق لي أن أقع على مجهولين ومغمورين؟!«، بادرته مصعوقاً بما يجري لي، ويفقدني دهشة الرحلة، التي كانت مكتنزة ومحفوظة مثل عطر في زهره. كان عليه أن يشارك، في عداد الوفد الفلسطيني، في احتفال اعتراف دولة ألمانيا الشرقية بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني...
كان قبالتي منذ ذلك اليوم، على تقلب الأيام والمدن والمواقف والخيارات.
ذلك أن الجوار معه يوافق بل يتنزل مثل الحوار.
استوقفني شعره منذ قصيدته: »سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا«، وكنت أُقبل على مجموعاته المتتالية في السنوات المتأخرة، على الرغم من مجانبتي لأسلوبها، فيما كانت تتباعد صلتي بقصائد كان لكتابتي أن تتفاعل معها. وهو ما تمثل في عدد من دراساتي عنه، ولا سيما دراسة اشتقاق المتكلم لخطابه في قصيدته.
وإذا كانت بداياته اقتربت من نزار قباني وعبد الوهاب البياتي، فإن هذا الشاعر، الذي تبع »جيل الرواد« زمنياً، ما لبث أن استدركهم شعرياً، حتى إنه بدا أكثر من »خلاصة« لهم، قبل أن يتفرد عنهم بقصيدة باتت عنواناً لنفسها، وعلامة دالة على ما تقيمه بعد قيامه.
وإذا كان درويش من أشد الشعراء العرب ذكاء (بكل معاني الكلمة)، واحترافاً، فإنه كان خصوصاً ـ بخلاف عديدين من أقرانه الراكنين إلى موروثهم ونتاجهم ـ شديد التنبه للمشهد الشعري، لمجرياته، ولا سيما للمجددين منهم، وفي نطاق القصيدة بالنثر تحديداً. وهو ما تمثل في أكثر من وجه في القول الشعري: منها وأولها، من دون شك، مقادير الاستبطان الذي باتت تقوم عليه قصيدته، وهو استبطان بات يسائل الذات فلا يغنيها أو يكتفي بحاصلها. وهو ما اتضح في صورة أظهر في إيقاعاته، التي باتت في »الجدارية«، على سبيل المثال، كما لو أنها من معين النثر، فيما لا تفارق »تفعيليتها« أبداً، ما يُظهر تمكنه الشديد من أدواته، ومن قدرته على التطويع والتفنن والتجويد بها. وهذا من دون أن يبتعد عن عبارته المضيئة، ولا عن جمهوره المتعاظم، هنا وهناك وأينما كان. وفي ذلك لم »يصالح« درويش بين جمهورين وأسلوبين، بل سعى إلى إفادة قصيدته من توصلات غيرها، حتى بات شعره الأخير أشبه بذروة اللقاء، وبتجدده. وهو في ذلك كلاسيكي قبل ميعاد امتحان الزمن لشعره.

¯ محمد فؤاد:
السماء واطئة اليوم
مات محمود درويش مبكراً كما يليق بشاعر لا يطيق أن يهرم، ولأن الشعراء يموتون مبكرين.
مات محمود درويش بطعنة في القلب، لأن وتر أخيل الشعراء قلوبهم، وبه مقتلهم.
اصطاده الموت ـ كما توقع ـ قبل أن يستعيد صفاء ذهنه، لم يكن صياداً شريفاً ـ كما تأمل ـ صاده خلسة في عتمة غيبوبته، كان محتاجاً الى مرضه ليقتله. لم ينظر الى عينيه، حدق قليلاً في نقطة ضعفه، ثم غرز نصله المسموم.
محمود درويش مات
السماء واطئة اليوم، والروح تضيق من وجع القلب ونعض على الأصابع كي نحتمل غصة في الحلق. الفتى الوسيم، نغار منه على نسائنا في النهار، ونسلبه قصائده لنصحبهن في الليل الى النساء ونوشوشهن كلماته في العتمة. الفتى الأنيق، كم استعرنا قمصانه كي نبدو أجمل، كما قلدنا لكنته ليقال عنا شعراء.
صاحب مرثية نفسه، دون كيشوت، الذي لوح بإصبعه في وجه الموت، فعضها الموت وعض روحه في غفلة ذئبية، صديقي الذي لا يعرفني ولم يسمعني، الذي حشا لي جيوبي ودفاتري بما تستحق الحياة.
محمود درويش / لا يكبر الشعراء/ ولا تسقط أسنانهم
ولا يسحلون روحهم خلفهم كقميص تالف.
الشعراء ـ أيها الكبير الكبير ـ في اللحظة المناسبة يجرون اللحاف الى أعلى رأسهم، ويديرون ظهرهم للعالم، وينامون. 
  

أحبــك أكثــر
ومن أنا كي أكتبك؟
ومن أنا كي أكون من دونك وأنت كل ما أردت أن أكون، وأنت الذي رآني، فكتبني، فصرت أحلى، أبهى. كتبتني فصرت أنا.
لاعب النرد لا يسخر منا في رحيله الأخير. هو فقط يختار الزمان والمكان. بلاد الشمال الأقصى، الأقسى. وأوان الورد قد ولى. هو لم يطق القيظ يوما. لم ينتظر نسائم خريف آخر، يبشر بالشتاء الأول بعد الستين. كم سنة؟ كم شهيدا، كم زيتونة، كم منفىً، كم وردة على طريق الجليل، كم امرأة لا تشبه عيناها بحر عكا؟
لاعب النرد يحب أن يلعب، يسخّر اللغة عصا سحرية تقص فلسطين وترويها، فلسطين من لحم ودم، حلوة ودميمة، بطلة وواهنة، كهلة وصبية، قديمة ومعاصرة، حية وشهيدة، ودوما وحيدة ومحاصرة.
كيف تمضي، وأنت وحدك من ترانا؟ ما لون عيوننا من بعدك؟
لاعب النرد يضعني على حجره طفلة ويلقيني في حضن نجمة.
تحترف الأحرف لتكتبني، تكتبنا، كما نحن، وكما نحب أن نكون. تنصفنا. تنصفنا. نتعب كثيرا ونموت كثيرا ونحب كثيرا ونحيا قليلا، وتبقى يومياتنا يوميات حزن عادي إلى أن تخطها أنت حقيقة واقعة، شعرا بمفردات سماوية.
تغب من قلوبنا أحرفا تشبه العسل والحليب، حليب أم أبعدتها الشاحنات قبل أن تفطمك.
تكتبنا، فنصبح نحن، تدب فينا الروح، ونتحول من صورة في الجدار إلى بشر يستحقون الحياة. واليوم من يروينا؟ من يقول أننا هنا وسنبقى؟
لاعب النرد يداعب اللغة، يحيها، يرفعها فيعلينا. يبعثر الحروف فتتحول ملامحنا شعرا. نصبح أحلى، أو كما نحن. مرآة الروح.
هو يقول أننا هنا، ثم يفتح باب الحديقة ليخرج الياسمين إلى الطرقات نهارا جميلا.
لا لسنا كومة من المآسي الآسنة، يقول لاعب النرد. نحن نحب الحياة، إذا ما استطعنا اليها سبيلا.
لاعب النرد يروض اللغة. ينفض عنها الغبار، يلتقطها ويدخلها في الآن، وفي الهنا. يقذف الحروف في وجوهنا فنرى.
لاعب النرد يحب أخواناً لا يحبونه، يا أبي. لاعب النرد محاط بدول من زبد، ويقاوم. يكتب بيروت بلحم حي، ويكتب دمشقَ مشتهاة، وقائمة. لاعب النرد يخسر الحلم تلو الحلم، ولا يضل السبيلا.
كم كنت وحدك. كم كنت وحدك في الحياة وفي الرحيل. في الصمت وفي المعاني. كم كنت نحن، وبقيت أنت. الشاب، الوسيم، بعينين كغصن أخضر، وقامة ممشوقة أنيقة. أنت، الطفل دوما، والحكيم. الرقيق الحساس اللئيم، الذكي اللماح، القاسي والمحب، المبتعد والقريب.
هنا كنت دوما ولم تكن. عشت المدن كلها، والهزائم كلها، وبقيت ترنو إلى سنديانة البيت العتيق. تعود إليه كي تكون، أو لا تكون.
تقذف كلماتك في وجهنا كي نرى من نحن، وتستمر أنت تبحث عنك، عن طفل اقتلعته الشاحنة لما كان بعد ممسكا بعباءة جده ذات رائحة التبغ الأبدية.
قروي بغير سوء، ولما استوطن غريبٌ بئر منزله، عاش المدن كلها ولم تروِه.
قروي بغير سوء، دنا، ذات يوم، من مارين بين الكلمات العابرة، ونظر يبحث عن مكان لهم، ربما، في فيء صفصافة أبيه، فما رأى إلا أنه »آن أن تنصرفوا، وتقيموا أينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا، فلنا في أرضنا ما نعمل، ولنا الماضي هنا ولنا صوت الحياة الأول، ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل ، ولنا الدنيا هنا... والآخرة.... فاخرجوا من أرضنا .. واخرجوا من مفردات الذاكرة..«.
هل تعبت، يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أبي؟ هل ضقت بالأمكنة والأزمنة، وليل الانتظار الطويل؟
لاعب النرد يختار الرحيل. لاعب النرد يتركني وحيدة هنا، على قارعة طريق ليس لي. يرمي ورودا كثيرة ويرحل لأنه آن له أن يعود إليها.
»وما زال في الدرب دربٌ لنمشي ونمشي. إلى أين تأخذني الأسئلة؟
سأرمي كثيراً من الورد قبل الوصولِ إلى وردةٍ في الجليلْ«.
كنت أظن أني سأعود معك إليها، ذات صيف، أو خريف أو شتاء أو ربيع. ذات ثالث عشر من آذار... كان اسمها فلسطين، صار اسمها فلسطين. كان اسمك حبيبي. صار اسمك حبيبي، يا ابن أكثر من أبي.
م ح م و د . لست لاعب نرد. أنت ترى ما تريد. تمشي إلى ما تريد.
»إلهي أعدني إلى وطني عندليب
على جنح غيمة
على ضوء نجمة
أعدني فلّة
ترف على صدري نبع وتلّة
إلهي أعدني إلى وطني عندليب
عندما كنت صغيراً وجميلاً
كانت الوردة داري والينابيع بحاري
صارت الوردة جرحاً والينابيع ضمأ
هل تغيرت كثيراً؟
ما تغيرت كثيراً
عندما نرجع كالريح الى منزلنا
حدّقي في جبهتي
تجدي الورد نخيلاً والينابيع عرق
تجديني مثلما كنت صغيراً وجميلا.

م ح م و د. »نسيمك عنبر وأرضك سكر وقلبك أخضر..« وأنا أحبك، كل يوم أكثر.

هنادي سلمان

مَا مِن حوارٍ مَعك بعدَ الآن.. إنَّهُ مُجرَّدُ انفجارٍ آخر! 
 (إلى محمود درويش)
تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟
[
عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ
وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ
تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ.
مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ.. سوى المذبَحَهْ
وتَنسى مناقيرَها في تُرابِ القُبورِ الجماعيَّةِ.. الحَبُّ والحُبُّ
أَرضٌ مُحَرَّمَةٌ يا صَديقي
وتَنفَرِطُ المسْبَحَهْ
هو الخوفُ والموتُ في الخوفِ. والأمنُ في الموتِ
لا أمْنَ في مجلِسِ الأَمنِ يا صاحبي. مجلسُ الأمنِ
أرضٌ مُحايدَةٌ يا رفيقي
ونحنُ عذابُ الدروبِ
وسخطُ الجِهاتِ
ونحنُ غُبارُ الشُّعوبِ
وعَجْزُ اللُّغاتِ
وبَعضُ الصَّلاةِ
على مَا يُتاحُ مِنَ الأَضرِحَهْ
وفي الموتِ تكبُرُ أرتالُ إخوتنا الطارئينْ
وأعدائِنا الطارئينْ
ويزدَحمُ الطقسُ بالمترَفين الذينْ
يُحبّونَنا مَيِّتينْ
ولكنْ يُحبُّونَنَا يا صديقي
بِكُلِّ الشُّكُوكِ وكُلِّ اليَقينْ
وهاجَرْتَ حُزناً. إلى باطلِ الحقِّ هاجَرْتَ
مِن باطلِ الباطِلِ
ومِن بابلٍ بابلٍ
إلى بابلٍ بابلِ
ومِن تافِهٍ قاتلٍ
إلى تافِهٍ جاهِلِ
ومِن مُجرمٍ غاصِبٍ
إلى مُتخَمٍ قاتلِ
ومِن مفترٍ سافلٍ
إلى مُدَّعٍ فاشِلِ
ومِن زائِلٍ زائِلٍ
إلى زائِلٍ زائِلِ
وماذا وَجَدْتَ هُناكْ
سِوى مَا سِوايَ
وماذا وَجّدْتَ
سِوى مَا سِواكْ؟
أَخي دَعْكَ مِن هذه المسألَهْ
تُحِبُّ أخي.. وأُحِبُّ أَخاكْ
وأَنتَ رَحَلْتَ. رَحَلْتَ.
ولم أبْقَ كالسَّيفِ فرداً. وما أنا سَيفٌ ولا سُنبُلَهْ
وَلا وَردةٌ في يَميني.. وَلا قُنبُلَهْ
لأنّي قَدِمْتُ إلى الأرضِ قبلكَ،
صِرْتُ بما قَدَّرَ اللهُ. صِرْتُ
أنا أوَّلَ الأسئلَهْ
إذنْ.. فَلْتَكُنْ خَاتَمَ الأسئِلَهْ
لَعّلَّ الإجاباتِ تَستَصْغِرُ المشكلَهْ
وَتَستَدْرِجُ البدءَ بالبَسمَلَهْ
إلى أوَّلِ النّورِ في نَفَقِ المعضِلَهْ..
[
تَخَفَّيْتَ بِالموتِ،
تَكتيكُنا لم يُطِعْ إستراتيجيا انتظارِ العَجَائِبْ
ومَا مِن جيوشٍ. ومَا مِن زُحوفٍ. ومَا مِن حُشودٍ.
ومَا مِن صُفوفٍ. ومَا مِن سَرايا. ومَا مِن كَتائِبْ
ومَا مِن جِوارٍ. ومَا مِن حِوارٍ. ومَا مِن دِيارٍ.
ومَا مِن أقارِبْ
تَخَفَّيْتَ بِالموْتِ. لكنْ تَجَلَّى لِكُلِّ الخلائِقِ
زَحْفُ العَقَارِبْ
يُحاصِرُ أكْفانَنا يا رفيقي ويَغْزو المضَارِبَ تِلْوَ المضارِبْ
ونحنُ مِنَ البَدْوِ. كُنّا بثوبٍ مِنَ الخيشِ. صِرنا
بربطَةِ عُنْقٍ. مِنَ البَدْوِ كُنّا وصِرنا.
وذُبيانُ تَغزو. وعَبْسٌ تُحارِبْ.
[
وهَا هُنَّ يا صاحبي دُونَ بابِكْ
عجائِزُ زوربا تَزَاحَمْنَ فَوقَ عَذابِكْ
تَدَافَعْنَ فَحماً وشَمعاً
تَشَمَّمْنَ مَوتَكَ قَبل مُعايشَةِ الموتِ فيكَ
وفَتَّشْنَ بينَ ثيابي وبينَ ثيابِكْ
عنِ الثَّروةِ الممكنهْ
عنِ السرِّ. سِرِّ القصيدَهْ
وسِرِّ العَقيدَهْ
وأوجاعِها المزمِنَهْ
وسِرِّ حُضورِكَ مِلءَ غِيابِكْ
وفَتَّشْنَ عمَّا تقولُ الوصيَّهْ
فَهَلْ مِن وَصيَّهْ؟
جُموعُ دُخانٍ وقَشٍّ تُجَلجِلُ في ساحَةِ الموتِ:
أينَ الوصيَّهْ؟
نُريدُ الوصيَّهْ!
ومَا أنتَ كسرى. ولا أنتَ قيصَرْ
لأنَّكَ أعلى وأغلى وأكبَرْ
وأنتَ الوصيَّهْ
وسِرُّ القضيَّهْ
ولكنَّها الجاهليَّهْ
أجلْ يا أخي في عَذابي
وفي مِحْنَتي واغترابي
أتسمَعُني؟ إنَّها الجاهليَّهْ
وَلا شيءَ فيها أَقَلُّ كَثيراً سِوى الوَرْدِ،
والشَّوكُ أَقسى كَثيراً. وأَعتى كَثيراً. وَأكثَرْ
ألا إنَّها يا أخي الجاهليَّهْ
وَلا جلفَ مِنَّا يُطيقُ سَماعَ الوَصيَّهْ
وَأنتَ الوَصيَّةُ. أنتَ الوَصيَّةُ
واللهُ أكبَرْ..
[
سَتذكُرُ. لَو قَدَّرَ الله أنْ تَذكُرا
وتَذكُرُ لَو شِئْتَ أنْ تَذكُرا
قرأْنا امرأَ القَيسِ في هاجِسِ الموتِ،
نحنُ قرأْنا مَعاً حُزنَ لوركا
وَلاميّةَ الشّنفرى
وسُخطَ نيرودا وسِحرَ أراغون
ومُعجزَةَ المتنبّي،
أَلَمْ يصهَر الدَّهرَ قافيةً.. والرَّدَى منبرا
قرأْنا مَعاً خَوفَ ناظم حِكمَت
وشوقَ »أتاتورك«. هذا الحقيقيّ
شَوقَ أخينا الشّقيّ المشَرَّدْ
لأُمِّ محمَّدْ
وطفلِ العَذابِ »محمَّد«
وسِجنِ البلادِ المؤبَّدْ
قرأْنا مَعاً مَا كَتَبنا مَعاً وكَتَبنا
لبِروَتنا السَّالِفَهْ
وَرامَتِنا الخائِفَهْ
وَعكّا وحيفا وعمّان والنّاصرَهْ
لبيروتَ والشّام والقاهِرَهْ
وللأمَّةِ الصَّابرَهْ
وللثورَةِ الزَّاحفَهْ
وَلا شَيءَ. لا شَيءَ إلاّ تَعاويذ أحلامِنا النَّازِفَهْ
وساعاتِنا الواقِفَهْ
وأشلاءَ أوجاعِنا الثَّائِرَهْ
[
وَمِن كُلِّ قلبِكَ أنتَ كَتبتُ
وَأنتَ كَتبتَ.. ومِن كُلِّ قلبي
كَتَبْنا لشعْبٍ بأرضٍ.. وأرضٍ بشعبِ
كَتَبْنا بحُبٍّ.. لِحُبِّ
وتعلَمُ أنَّا كَرِهْنا الكراهيّةَ الشَّاحبَهْ
كَرِهْنا الغُزاةَ الطُّغاةَ،
وَلا.. ما كَرِهْنا اليهودَ ولا الإنجليزَ،
وَلا أيَّ شَعبٍ عَدُوٍ.. ولا أيَّ شَعبٍ صديقٍ،
كَرِهْنا زبانيةَ الدولِ الكاذِبَهْ
وَقُطعانَ أوْباشِها السَّائِبَهْ
كَرِهْنا جنازيرَ دبَّابَةٍ غاصِبَهْ
وأجنحَةَ الطائِراتِ المغيرَةِ والقُوَّةَ الضَّارِبَهْ
كَرِهْنا سَوَاطيرَ جُدرانِهِم في عِظامِ الرّقابِ
وأوتادَهُم في الترابِ وَرَاءَ الترابِ وَرَاءَ الترابِ
يقولونَ للجوِّ والبَرِّ إنّا نُحاولُ للبحْرِ إلقاءَهُم،
يكذبُونْ
وهُم يضحكُونَ بُكاءً مَريراً وَيستعطفونْ
ويلقونَنَا للسَّرابِ
ويلقونَنَا للأفاعِي
ويلقونَنَا للذّئابِ
ويلقونَنَا في الخرابِ
ويلقونَنا في ضَياعِ الضَّياعِ
وتَعلَمُ يا صاحبي. أنتَ تَعلَمْ
بأنَّ جَهَنَّم مَلَّتْ جَهّنَّمْ
وعَافَتْ جَهَنَّمْ
لماذا تموتُ إذاً. ولماذا أعيشُ إذاً. ولماذا
نموتُ. نعيشُ. نموتُ. نموتُ
على هيئَةِ الأُممِ السَّاخِرهْ
وَعُهْرِ ملفَّاتِها الفاجِرَهْ
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟..
ومَا كُلُّ هذا الدَّمار وهذا السقوط وهذا العذاب
ومَا كلُّ هذا؟ وهذا؟ وهذا؟
[
تذكَّرْ
وقدْ يُسعِفُ اللهُ مَيْتاً بأنْ يتذكَّرَ. لله نحنُ.
فحاول إذن.. وتذكَّرْ
تذكَّرْ رضا الوالِدَهْ
لأُمَّينِ في واحِدَهْ
ونعمةَ كُبَّتِها.. زينة المائِدَهْ
وطُهرَ الرَّغيفِ المقمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يُجيدُ الصّياحْ
ولا يتذمَّرْ
تذكَّرْ
أباً لا يضيقُ ولا يتأفَّفُ مِن سَهَرٍ صاخِبٍ للصَّباحْ
تذكَّرْ كَثيراً. ولا تتذكَّرْ
كَثيراً. فبعضُ الحِكاياتِ سُكَّرْ
وكُلُّ الخرافاتِ سُمٌّ مُقَطَّرْ
ونحنُ ضَحايا الخرافاتِ. نحنُ ضَحايا نبوخذ نصّرْ
وأيتام هتلَرْ
ومِن دَمِنا للطُّغاةِ نبيذٌ
ومِن لَحمِنا للغُزاةِ أكاليلُ غارٍ ووردٍ
ومِسْكٌ. وَعَنبَرْ
فَلا تتذكِّرْ
قيوداً وسجناً وعسكَرْ
وبيتاً مُدَمَّرْ
وَليلاً طَويلاً. وَقَهراً ثقيلاً وسَطواً تكرَّرْ
وَلا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ
لا تتذكَّرْ..
[
لأنّا صديقانِ في الأرضِ والشّعبِ والعُمرِ والشِّعرِ،
نحنُ صريحانِ في الحبِّ والموتِ.. يوماً غَضِبْتُ عليكَ..
ويوماً غَضِبْتَ عَلَيّ
وَمَا كانَ شَيءٌ لدَيكَ. وَمَا كانَ شَيءٌ لَدَيّ
سِوَى أنّنا مِن تُرابٍ عَصِيّ
وَدَمْعٍ سَخيّ
نَهاراً كَتبْتُ إليكَ. وَليلاً كَتَبْتَ إليّ
وأعيادُ ميلادِنا طالما أنذَرَتْنا بسِرٍّ خَفِيّ
وَمَوتٍ قريبٍ.. وَحُلمٍ قَصِيّ
ويومَ احتَفَلْتَ بخمسينَ عاماً مِنَ العُمرِ،
عُمرِ الشَّريدِ الشَّقيّ البَقيّ
ضَحِكنا مَعاً وَبَكَيْنا مَعاً حينَ غنَّى وصلّى
يُعايدُكَ الصَّاحبُ الرَّبَذيّ:
على وَرَقِ السنديانْ
وُلِدْنا صباحاً
لأُمِّ الندى وأبِ الزّعفرانْ
ومتنا مساءً بِلا أبوَينِ.. على بَحرِ غُربتِنا
في زَوارِقَ مِن وَرَقِ السيلوفانْ
على وَرَقِ البَحرِ. لَيلاً.
كَتَبْنا نشيدَ الغَرَقْ
وَعُدْنا احتَرَقْنا بِنارِ مَطالِعِنا
والنّشيدُ احتَرَقْ
بنارِ مَدَامِعِنا
والوَرَقْ
يطيرُ بأجْنِحَةٍ مِن دُخانْ
وهَا نحنُ يا صاحبي. صَفحَتانْ
وَوَجهٌ قديمٌ يُقَلِّبُنا مِن جديدٍ
على صَفَحاتِ كتابِ القَلَقْ
وهَا نحنُ. لا نحنُ. مَيْتٌ وَحَيٌّ. وَحَيٌّ وَمَيْتْ
»بَكَى صاحبي«،
على سَطحِ غُربَتِهِ مُستَغيثاً
»بَكَى صاحبي«..
وَبَكَى.. وَبَكَيْتْ
على سَطحِ بَيْتْ
ألا ليتَ لَيتْ
ويا ليتَ لَيتْ
وُلِدنا ومتنا على وَرَقِ السنديانْ..
[
ويوماً كَتَبْتُ إليكَ. ويوماً كَتَبْتَ إليّ
»أُسميكَ نرجسةً حَولَ قلبي«..
وقلبُكَ أرضي وأهلي وشعبي
وقلبُكَ.. قلبي..
[
يقولونَ موتُكَ كانَ غريباً.. ووجهُ الغَرابَةِ أنّكَ عِشْتَ
وأنّي أعيشُ. وأنّا نَعيشُ. وتعلَمُ. تَعلَمُ أنّا
حُكِمْنا بموتٍ سريعٍ يمُرُّ ببُطءٍ
وتَعلَمُ تَعْلَمُ أنّا اجترَحْنا الحياةَ
على خطأٍ مَطْبَعِيّ
وتَعلَمُ أنّا تأجَّلَ إعدامُنا ألف مَرَّهْ
لِسَكْرَةِ جَلاّدِنا تِلْوَ سَكْرهْ
وللهِ مَجْدُ الأعالي. ونصلُ السَّلام الكلام على الأرضِ..
والناسُ فيهم ـ سِوانا ـ المسَرَّهْ
أنحنُ مِن الناسِ؟ هل نحنُ حقاً مِن الناسِ؟
مَن نحنُ حقاً؟ ومَن نحنُ حَقاً؟ سألْنا لأوّلِ مَرَّهْ
وَآخرِ مَرَّهْ
وَلا يَستَقيمُ السّؤالُ لكي يستَقيمَ الجوابُ. وها نحنُ
نَمكُثُ في حَسْرَةٍ بعدَ حَسْرَهْ
وكُلُّ غَريبٍ يعيشُ على ألفِ حَيْرَهْ
ويحملُ كُلُّ قَتيلٍ على الظَّهرِ قَبرَهْ
ويَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّةِ.. يَسبُرُ غَوْرَ المجَرَّهْ..
[
تُعانقُني أُمُّنا. أُمُّ أحمدَ. في جَزَعٍ مُرهَقٍ بعذابِ
السِّنينْ
وعِبءِ الحنينْ
وَتَفْتَحُ كَفَّينِ واهِنَتَينِ موبِّخَتَينِ. وَتَسأَلُ صارخةً
دُونَ صَوتٍ. وتسألُ أينَ أَخوكَ؟ أَجِبْ. لا تُخبِّئ عَلَيَّ.
أجِبْ أينَ محمود؟ أينَ أخوكَ؟
تُزلزِلُني أُمُّنا بالسّؤالِ؟ فماذا أقولُ لَهَا؟
هَلْ أقولُ مَضَى في الصَّباحِ ليأْخُذَ قَهوَتَهُ بالحليبِ
على سِحرِ أرصِفَةِ الشانزيليزيه. أمْ أدَّعي
أنَّكَ الآن في جَلسَةٍ طارِئَهْ
وَهَلْ أدَّعي أنَّكَ الآن في سَهرَةٍ هادِئهْ
وَهَلْ أُتْقِنُ الزَّعْمَ أنّكَ في موعِدٍ للغَرَامِ،
تُقابِلُ كاتبةً لاجئَهْ
وَهَلْ ستُصَدِّقُ أنّكَ تُلقي قصائِدَكَ الآنَ
في صالَةٍ دافِئَهْ
بأنْفاسِ ألفَينِ مِن مُعجَبيكَ.. وكيفَ أقولُ
أخي راحَ يا أُمَّنا ليَرَى بارِئَهْ..
أخي راحَ يا أُمَّنا والتقى بارِئَهْ..
[
إذنْ. أنتَ مُرتَحِلٌ عن دِيارِ الأحبَّةِ. لا بأسَ.
هَا أنتَ مُرتَحِلٌ لدِيارِ الأحبَّةِ. سَلِّمْ عَلَيهِم:
راشد حسين
فدوى طوقان
توفيق زيّاد
إميل توما
مُعين بسيسو
عصام العباسي
ياسر عرفات
إميل حبيبي
الشيخ إمام
أحمد ياسين
سعدالله ونُّوس
كاتب ياسين
جورج حبش
نجيب محفوظ
أبو علي مصطفى
يوسف حنا
ممدوح عدوان
خليل الوزير
نزيه خير
رفائيل ألبرتي
ناجي العلي
إسماعيل شمُّوط
بلند الحيدري
محمد مهدي الجواهري
يانيس ريتسوس
ألكسندر بن
يوسف شاهين
يوسف إدريس
سهيل إدريس
رجاء النقاش
عبد الوهاب البياتي
غسَّان كنفاني
نزار قباني
كَفاني. كَفاني. وكُثرٌ سِواهم. وكُثرٌ فسلِّم عليهم. وسَوفَ
تُقابِلُ في جَنَّةِ الخُلدِ »سامي«. أخانا الجميلَ الأصيلَ.
وَهلْ يعزِفونَ على العُودِ في جَنَّةِ الخُلْدِ؟ أَحبَبْتَ
سامي مَع العودِ في قَعدَةِ »العَينِ«.. سامي مَضَى
وَهْوَ في مِثلِ عُمرِكَ.. (٦٧).. لا. لا أُطيقُ العَدَدْ
وأنتُمْ أبَدْ
يضُمُّ الأبَدْ
ويَمْحُو الأبَدْ
وَأَعلَمُ. سوفَ تَعودونَ. ذاتَ صباحٍ جديدٍ تعودُونَ
للدَّار والجار والقدس والشمس. سَوفَ تَعودونَ.
حَياً تَعودُ. وَمَيْتاً تَعودُ. وسَوفَ تَعودون. مَا مِن كَفَنْ
يَليقُ بِنا غيرَ دَمعَةِ أُمٍّ تبلُّ تُرابَ الوَطَنْ
ومَا مِن بِلادٍ تَليقُ بِنا ونَليقُ بِها غير هذي البلادْ
ويوم المعادِ قريبٌ كيومِ المعادْ
وحُلم المغنّي كِفاحٌ
وموتُ المغنّي جهادُ الجِهادْ..
[
إذاً أنتَ مُرتحلٌ عَن دِيارِ الأحِبَّةِ
في زّوْرَقٍ للنجاةِ. على سَطْحِ بحرٍ
أُسمّيهِ يا صاحبي أَدْمُعَكْ
وَلولا اعتصامي بحبلٍ مِن الله يدنو سريعاً. ولكنْ ببطءٍ..
لكُنتُ زَجَرْتُكَ: خُذني مَعَكْ
وخُذني مَعَكْ
خُذني مَعَكْ..

الرامة
١٠ آب ٢٠٠٨

 سميح سميح

فـارس الثـورة
مسجى في صندوق خشبي، ينتقل من مطار الى آخر، تحلق به الطائرة ثم تهبط وهو بارد كالرخام، كلماته سبق وقيلت وما لم يقل لا متسع للوقت والقول بعدما خانه القلب. هو صامت في الامكنة التي وضع فيها حيث أقبية الشحن في القسم السفلي من الطائرة. الركاب المسافرون يجلسون في مقاعدهم المريحة، يتناولون المرطبات والعصير وحتى المشروبات الكحولية والاطعمة ويشاهدون الافلام، بينما هو يصوم عن كل ملذات الحياة وعذاباتها التي خبرها حينا في بيروت واحيانا في القاهرة أو باريس أو موسكو أو البروة أو رام الله..أو..
الشعر أقوى من الموت وأبقى من الجسد، والشاعر الذي كتب احتضاره دواوين، تفوق على جده فارس العصور الذهبية مالك بن الريب في قصيدته اليتيمة، راثياً نفسه بعيدا عن المتفجعين في دياره الحبيبة، بعيدا في بلاد خراسان، بينما الرمال نفسها التي تهب على مضارب طفولته ستكمل ما بدأته منذ أجيال وأجيال، انما هذه المرة على قبره، فيغيب الشاهد الحجري الذي وضع في المكان. أما الحصان حصانه فيموت عطشا ولا من يسقيه. كل شيء يذوي في لحظة الرحيل كأنه لم ينوجد أصلا ولا من يبكي سوى السيف والرمح. لا فارس يخوض الحروب ولا شعر يلقى على المسامع فتنسحر القلوب في أماكنها وتروح في ذهول العوالم الخفية. الكلمات أقوى من الجسم، والقوافي تحتفظ بالنبض والقصائد أزلية بأشد من جبروت الرمل.
لم يركب محمود درويش كما فعل جده حصانه ليغزو بلادا ليست بلاده قرب مرو، طمعا بالغنيمة، لم يكن لديه حصان بالاصل. ايضا لم يحمل رمحا على كتفه، حساما في يده ودروعا تغطي الصدر وتمنع عنه الطعنات. عندما غادر البروة مكرهاً لم يحمل معه سوى ذاكرة وأطياف صور طفل لم يتجاوز السادسة عن قريته وناسها الذين غادروا وسط جحيم التهجير القسري. وعندما تنقل بين المنافي حاملا معه فراشات ألوان الطفولة المغتصبة، لم يجد في جعبته سوى الحلم يعيد إطلاقه كلما شعر أن ما قيل من كلمات يذوي كما عشب الصيف، كما شقائق النعمان والدحنون وبخور مريم، وان كلمات جديدة لا بد وان تخترع لتعيد إشعال الحنين. ومحمود درويش لا يختصر بالثورة الفلسطينية وان كان شاعرها في لحظات اللظى والجمر، بل قد يختصر بالشعر الذي يستعيد وطنا مضرجا بالذاكرة التي لا تتعب من أحمالها. يبدأ منها ويعود اليها كلما انهمر شلال الدم وفاضت السواقي بالانكسارات التي تترى تباعا كلما أوغل الجزارون في دفع السكين عميقا في الصدور، صدور الأطفال والنساء والرجال وأشجار البرتقال والزيتون ومداخل البيوت القديمة. أياً يكن هؤلاء الذين يسنّون سكاكينهم صباح مساء، عربا عاربة أو مستعربة أو أبناء عمومة على حد ما تقول أسطورة الخلق البابلية أو العبرانية أو المنحولة بالعربية. أي قلب من القلوب يمكن أن يحتمل هذا الكم من المجازر، ومحمود درويش هو الشاهد والشهيد على قدرة الدم على صياغة وطن يليق بهذا الشلال المندفع من الشعر والتضحيات. يخرج الكنعاني المحدث من ثياب التاريخ متقلدا لغة العصر، ويعلن أن دمه ودم الهنود الحمر وقبائل الانكا والمايا و.. هو هو نفسه، وان التاريخ لا ينقش على حجارته حق القوة المقدس، وقدرات بارود البنادق والمدافع، بل قوة الحق والحلم الذي يهدأ حينا ليستعر أحيانا لكنه يبقى عصيا على الموت. ومنذ الصرخة الاولى للثورة وحتى النبض الاخير، لا يتعب الرجل من ان يؤرخ على شغاف القلب تفاصيل المسيرة. مسيرته هو ومسيرة شعبه المحفوفة بالاجساد والاحلام المضرجة بالدم والاشلاء والتهجير بعد التهجير، تارة على يد العدو وطورا من ذوي القربى الجاهزين لبيع دمه بأقل من ثلاثين من الفضة متى فتحت البورصة أبواب السوق وأسعار القطع.
وداعا محمود درويش جسدا، أهلا بمحمود درويش فارس الثورة أبدا.

زهير هواري

لاعب النرد يلاعب الموت ويمضي 
طوى محمود درويش آخر قصائده، وأدار ظهره لنا، ومضى الى »ما لا يريد«. وها نحن نفرد أوراقنا، ونبادر الى أقلامنا ونضم أجسادنا الى أجساد الأحبة ونشهق.
لم يبقَ لنا إلا أوراق وبضعة أقلام وحسرات وشهقات الفجيعة واكتئاب الأيام الكالحة وقصائد أحمد الزعتر.
أتمضي هكذا؟ أعلى هذا النحو أردت أن تكون قصيدتك الأخيرة؟ إذاً، لا تنظر خلفك. فلن تبصر غير منفى وراءك، وغرفة نومك، وصفصافة الساحة، ومقاهي المواعيد التي تبددت، ومناديل تلوّح لك بلوعة.
ذاهلون يا محمود لموتك.
ذاهلون لأيامك التي عشت فيها بيننا.
لماذا لم تُطِلْ وقت زينتك؟
فاعتذرْ إذاً عما فعلت.
لم تُنهِ قصتك بعد. وجعلتنا نسعى وراء حراس الأماكن المنعزلة، نسألهم عن مرقدك، عن قبر يوسف، لنزرع فيه وردة أو زهرة صبار.
الآن، هل تقرأ جداريتك ثانية؟ هل ترى »السماء هناك في متناول الأيدي؟«. هل يحملك »جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى؟«.
[[[
في طفولته، تعب من السير في جنوب التبغ نحو قفار الجليل. لكنه عاد الى حصان جده. وها هو، بعد ستين عاما وأبعد، يتعب من الجَوَلان في البيداء العربية، فيريح ركابه من وعثاء السفر ويمضي.
إنهم يتناثرون كأوراق الخريف.
أجمل الأقمار ترحل: إدوارد سعيد، هشام شرابي، جورج حبش، ياسر عرفات. بيداء هذه الديار، وسديم هذا التاريخ... هباء كغبار الطلع.
[ [ [
كأنه كان يوحى إليه.
ما سره الشعري الذي جعله مثالا للشعر لا يمكن اجتنابه، ولا يمكن الاقتراب منه، ولا يمكن تجاوزه، ولا يمكن تحطيمه؟
شاعر مستبد، وشعره كاشف.
مستبد؟ لأن قامته الشعرية تكشف قامات بعض مَن حوله من الشعراء. وكاشف؟ لأن الشعر الصافي يُقاس بقصائده. ومع أن الشعر ليس سباقا، إلا أن محمود درويش كان دوما شاعرا مهيمنا؛ فقد بات تحديا إبداعيا لجميع من عاصره أو جاء بعده.
شعره ترتيل الجوامع الأموية في دمشق العتيقة، وصوت القداديس في أديرة بيت لحم، وأنين النهر المتمرد في أنطاكيا، وأصوات الجياد في بصرى، وعسيس النار في نخيل العراق.
متروكون كنا مثل خيمة في الريح، مثل كنيسة مهجورة، مثل منارة محطمة على شاطئ. وكانت قصائده شراعنا ومنارتنا وخيمتنا ومئذنتنا وكنيستنا وتاريخنا المكلوم ونزيفنا الراعف وحاضرنا الراعب.
أيقظ فينا شعره طعم المريمية وزهور السواقي ولون السنابل والسماق الحارق وأعشاش العصافير ورائحة الوسائد وحبال الغسيل وغبار »الحصائر« والشبابيك المشرعة ونقرات الدوري فوق صفيح المنازل والقناديل المضاءة ورائحة التبغ في كوفية رجل هرم.
كان هو الصفصاف والصنوبر والتين والزيتون وأغاني الحب وأنين المنافي الحزينة وحارس الصباح وزهر اللوز ودحنون البراري وأقحوان المراعي وعشب التلال. كان حزننا وقمرنا وغيم الجليل ينثال فوق أغطيتنا الممزقة. وكان حرير النهدين وأعسال الشفتين وألق الفاتنات في الدروب الضيقة.
أعاد شعره ترميم جروحنا وهزائمنا ونكباتنا: وقال لنا إننا لسنا عابرين في كلام عابر، بل منذورون للمنافي ولأغاني العودة، وفي إمكاننا أن ننتصر على التيه،»وأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة«.
[ [ [
هذا ليس رثاءً، لكنه أكثر من وداع.
لم يُنه محمود قصته بعد. فقد وُلد قرب النار، واجتاز براري كثيرة، وعبر قفارا وأنهارا، ومات بعيدا »يحلم بالزنابق البيضاء« وبخمارة في ميناء، وبكأس نبيذ.
كانت كلماته احتفالا وثنيا في العراء. وهو مثل قصبة ثقبتها الريح فصارت ناياً، ثم سار خلفه المنتظرون. إنه قمر الليل فوق بحيرة طبرية، زنبقة الوادي وأريج الحقول وضباب الروابي. ملك تاجه من غبار. جناحاه الريح، وقصائده رحيق الكلام. ظبي »ينهض من نومه« وينفر الى »سرير الغريبة«.
هذا هو سره، وهذا هو اسمه.
لهذا تبعه »المريدون« وبايعوه ملكاً على فلسطين ووضعوا في كفيه »أحد عشر كوكباً«.
[ [ [
»كل موت هو موت أول. مفاجئ، صاعق، غير معروف وغير مألوف«. وموتك يا محمود أقسى من أي موت أول: صاعق ومفاجئ وغير مألوف ولا يمكن احتماله.
لِيَفُكَّ وجهُك هذا الانقباض عن صدري، كما فككت أنت أجهزة التنفس عن صدرك. ولاسمك سنضيء شموعا، وسنلوِّحُ لك بمناديل اللوعة، وستقتلنا الذكريات وصور الماضي.

  صقر ابو فخر

المصدر: السفير


محمود درويش في عيون الشباب
أحببناه شاعراً... وكرهنا نجوميته

منهم مَن لا يزال متأثّراً به، ومنهم مَن تخلّص من سحره بعد «سقوط الإيديولوجيات»... لكن شبّان قصيدة النثر في مصر يجمعون على أنّ الشاعر الفلسطيني الراحل أيقونة لزمن ثقافي له جمهور ومعجبون وذاكرة

قصيدة محمود درويش تعصى على التقليد. ربما هذا ما جعل السؤال مشروعاً: هل استطاع صاحب “جدارية” أن ينشئ مدرسة شعرية خاصّة، لها تلاميذها وأتباعها في الأجيال اللاحقة؟
الناقد والشاعر محمد بدوي يرى أنّ “طبيعة شعر درويش لا تصنع مدرسة بالمعنى الحقيقي، لأنّه شاعر حركة تحرر وطني في نهايات حركة التحرر الوطني العالمية، وبالتالي ينتج شعر هوية تدافع عن نفسها ضد الاقتلاع”. ويرى أنّ تجربة درويش أحبّها المثقفون اليساريون تعاطفاً مع القضية، وإعجاباً بقدرات الشاعر الغنائية، لكنها لا يمكن أن تصبح “إشكالية” لشعراء قصيدة النثر في مصر ولبنان والعراق. هي بالنسبة إليهم إشكالية تجاوزتها مجتمعاتهم حيث يتراجع اليقين الدرويشي والجمال الغنائي لمصلحة تفاصيل الواقع.
لكن ألا يمكن المرحلة الأخيرة في قصيدة درويش أن تغيّر هذه الرؤية؟ يجيب: “المرحلة الأخيرة جاءت بعد إدراك درويش أنّ صياغته لهوية الشعب الفلسطيني بوصفه محارباً عن حقوقه انتهت. لكن مهما كان جهده في التحوّل، يظل محكوماً بتجربته الطويلة السابقة”.
ويرى علاء خالد أنّ ديواني “محاولة رقم 7” و“أعراس” من أهم الدواوين التي قرأها في حياته. “تجد فيهما هذا النوع من الموسيقى المفكِّرة والمتأملة، تجد في التكرار للجمل والأفكار والكلمات حرفية جمالية يتقنها درويش، وتفتح مسالك توسع مجال الوعي في القصيدة. لم يعبر محمود درويش من خلال قضايا الحداثة وأزمتها في عالمنا العربي. لكنّه شكّل أحد المجددين في الشعر العربي الحديث، فكره وشعريته يسيران جنباً إلى جنب”. ويضيف: “تعلمت من درويش، لكن لا أعرف كيف. يمتلك كيمياء سحرية لصياغاته وصكوكه الشعرية، تخصّه وحده. إنّه ظاهرة شعرية من ناحية انبثاقها وتأثيرها وانتشارها. فهو مع نزار قباني، صار أيقونة لزمن شعري له جمهور ومعجبون وذاكرة”.
أما إبراهيم داوود، فيرى أنّ جيله الشعري في مصر، جيل الثمانينيات، التفت منذ بداياته إلى تجربة درويش، وتأثر بها... لكن “سرعان ما تخلّصنا من تأثيره بعد سقوط الإيديولوجيات في الشعر”. داوود يرى أنّ درويش أحد أقاربه في الشعر وليس مِن أساتذته. يوضح: “قصيدته أقرب إليّ لأنها تتعامل مع جانب طفولي في شخصيتي. بسبب حيله المدهشة الطفولية هو أقرب إلى القلب”.
يختلف الأمر بالنسبة إلى فتحي عبد السميع، إذ يرى درويش وأمل دنقل البطلين اللذين قاداه إلى “الشعر المختلف”: “أحببت درويش وأمل، حبّاً لم ينقطع مع التقدّم في الخطوات والمراجعة، وإن خفتَ البريق عن قسم كبير من شعر درويش مع تقدم التركيز على فنيات وجماليات الشعر”.
نجومية درويش أثّرت حسب عبد السميع في تجربته الشعرية: “قيّدتها في نطاق معيّن. لم يكن فاتناً لي كشاعر، بل كان مناقضاً لما بدأ يتجمّع لدي من قناعات... منها مثلاً فكرة تصفيق الجمهور التي بدت لي دليلاً على فشل القصيدة أكثر من كونها دليلاً على نجاحها، دليلاً على مرورها السطحي في الوجدان أكثر من كونها دليلاً على اختراق الأعماق، دليلاً على براعة الخطيب ومهارته في تطويع الشعر، فيما أرى أن الشعر الحقيقي يشبه البذرة التي تحتاج إلى صمت أكثر مما تحتاج إلى تصفيق”.
أما الشاعر السبعيني أحمد طه فيرى أنّ درويش لا يمكن أن يكون “ناظر مدرسة”، لأنّه ينتمي إلى مدرسة تكوّنت منذ زمن، من أبرز نجومها بدر شاكر السيّاب، ومن أبرز خصائصها الولع بالموسيقى، واستخراج أقصى إمكانات التفعيلة في بناء الجملة الشعرية.

محمد شعير

شكراً
شكراً، لأنك ملأت حياتنا بذلك النوع من القصائد التي تستطيع مواصلة خلودها في غياب جسد صاحبها. شكراً، لأننا أصغينا إلى قصيدتك وأصغتْ هي إلينا. كبرنا معها وتربَّت معنا. دندنّا بها في حضرة نساء عابرات كي يمكثْنَ في قلوبنا قليلاً. علت نبرتها مع حماستنا وقبضاتنا المرفوعة. ثم تخفّفت من حمولتها النضالية المباشرة حين طلبنا شعراً صافياً. شكراً، لأنك أغويتنا على المنابر بقصائدك الملحمية الطويلة. ثم أغويتنا حين أدرتَ ظهرك كي تكتب قصيدة صغيرة وهشّة، خائفاً عليها من هدير حشودنا وتصفيقنا المدوّي. سلكتَ بنا طرقاً وعرة ومختلفة. جرجرتنا إلى مناطق شعرية أكثر نأياً مما يُطلب من شاعر عاش دوماً تحت ضغط قضية كبرى.
في شعرك، تحولت فلسطين إلى فنّ شعري كامل. لم تمنعك رمزيتك كناطق شعري باسمها، ولا كونك مدبِّج إعلان استقلالها، أن تكون شاعراً على طريقتك الفريدة. كنتَ تُكثر من ذكر الغياب في قصائدك الأخيرة، ولكنك تفعل ذلك بلغة نضرة وفتية تُجيد اللعب مع الموت وتتغلّب عليه. كتبت نصاً كاملاً “في حضرة الغياب”، فلم ننتبه إلى الوصية الشخصية التي دفنْتَها في سطوره. بل إنك كتبتَ مرةً: “قل للغياب: نقصتني/ وأنا حضرتُ لأكملك”. أخذنا الأمر على محمل الشعر فقط. لم نصدق أنك لم تعد تهاب الموت هذا الحد، وأنّ قَدَمَاً لك قد باتت في الجهة الأخرى من العالم. حين رحل صديقك معين بسيسو يا محمود، كتبْتَ في “الكرمل”: “معين بسيسو لا يجلس على مقعد الغياب”. الآن. ونحن غارقون في غيابك. كيف تطلبُ منا أن نختصر الوداع، ونجلسكِ على المقعد نفسه.

حسين بن حمزة  

أنا سعيد لأنك لم تبتسم
لم تكن لي قضية من قبل. كتبتُ عن الصبيَّة التي لا أعثرُ عليها، والتي، إن فعلتُ، أختبئ منها. كتبتُ عن الموت، الوحدة، ورجال الكهف. وبمواجهة كل هذا، كنتَ توفِّر لي الفظاظة الجمالية والمثالية، فوجدتُ أن عليّ إهمال القضايا الكبيرة باتجاه توثيق يومياتي وهلوساتي، وتخيّلت لو أنني راسلتك مثلما فعل شاعر ناشئ مع ريلكه لنصحتني بأن أفعل الأمر نفسه. هناك فرق بين مروجي القضية، ورموزها. فيروز، مثلاً، لم تكن بحاجة إلى تعبوية شعبية و«زيارات ميدانية تضامنية» لتصبح رمزاً للبنان، فلو كانت فيروز أردنية، ربما، لخلقت لدي شعوراً عالياً بالارتباط: أنا الذي لا أشعر بالانتماء إلى مكان.
وأنت، هل أتحت لي الانتماء إلى قضية؟ كنتُ أشعر، بقراءتك، أنني أنتمي إلى «ريتا»، إلى «العصافير في الجليل»، إلى رائحة التبغ، إلى شكل فلسطين في قصائدك. كنتُ أشعر بأنني مختلف، أنني تحرّرتُ من سطوة اليومي المكرّر والتافه، أنني صرت أكثر وعياً، لكن ذلك لم يجعلني أنتمي إلى قضية. كنتَ رمزاً، نعم، لكنك كنتَ رمزاً لرمز. رمزاً لقضيةٍ مفروغ منها. شيء يشبه رؤية علم بلدك يُحمل في افتتاح الأولمبياد، يشعرك بالقشعريرة، وتعرف أنك ربما زاد انتماؤك درجة للحظة، لكنك تعرف أنّ كل الشعوب تشعر كذلك. لكن الفرق، أن الرمز هنا رمزٌ لفلسطين: الفردوس العربي المفقود.
أنا سعيد لأنني لم أرك في حياتي تبتسم، لا أريد آباءً شعريين أو ماديين بعد الآن.. وأهلاً بالعبثية.

أحمد الزعتري

ستذهب الكاريزما وتبقى النصوص
موت محمود درويش يعني (شئنا أو أبينا) عودة الروح إلى شعره، ستذهب الكاريزما وتبقى النصوص. وسنكتشف الكثير من المفارقات حينئذٍ ليراودنا سؤال تلقائي: ما الذي يعنيه وجود الشاعر وما الذي يؤدي إليه غيابه؟
كان شاعر صوت بقدر ما هو كاتب نصوص. أعادنا إلى الشفاهية من باب موارب في زمن هيمنت فيه وسائل الاتصال، وطغت عناصر المرئيات. وكان مخلصاً لتقليد متوارث في سيادة الشعر على الفنون الأخرى (ولو معنوياً). لكنه بدلاً من تقمّص دور الرائي أو النبي ــــ كما هو حلم الشعراء الدائم ــــ تقمّص دور الخطيب ليعلّق على حدث أو يشير إلى ظاهرة معينة. كانت قصائده تبدو مثل ألغاز حين نقرأها، لكن حين نصغي إليه وهو يلقيها سنكتشف سحرها، سيتحول لاترابطها وغرابتها وعدم انسجام أجزائها بل روحها التصادمية إلى بنية موسيقية جذابة، ظاهرة وخفية: ظاهرة في تكرار الإيقاعات وتلاحقها المثير، وخفية لأنّ درويش كان يدسّ المكائد خلف كلماته دون أن يصل إلى الحدود القصوى للتعبير أو يوصلنا إليها، غاياته الأدائية لم تكن مدركَة، ليس فقط لمجايليه ومريديه بل ولمقلّديه أيضاً.
صنع درويش صوته بكثير من المهارة والصبر، فنياً وإعلامياً، بينما قيل الكثير عن صناعة الحوادث له. لكن حتى لو لم تكن هناك قضية كبرى عاش بها ولها كقضية فلسطين، لعلّه كان سيظل نجماً شعرياً، سيخترع قضية أو يحوّل الشعر نفسه إلى قضية، أو ربما كان سيتحوّل هو إلى قضية. لقد أعطى كل منهما للآخر الكثير: القضية وشاعرها، في خضم واقع ملتبس ومناخ ثقافي يتردى باستمرار، أعطت القضية لدرويش مجالاً شعرياً لا حدود له، وأعطاها هو بواكير شعره وحياته. ثم مع تغيِّر الأحوال وتعقِّد المسارات، عاد إلى نموذجه الشعري البسيط والغنائي، ليعيد صناعته. أعاد إلى الأذهان (في لحظة التحوّل الكبرى في الشعر العربي أواخر السبعينيات) أنه شاعر لذاته (لا كما يفعل السرياليون) وأنه ليس كاتب بيانات أو معلّقاً سياسياً. أروع ما فيه أنه كان شاعراً في كل حالاته، لفت الأنظار إلى وجود الشعر والشعراء في ظل الفوضى والخراب وتردّي الأفكار والمشاعر. كلما رآه الناس تذكروا كائناً سماوياً من الماضي، ربما ينطق عن الهوى، لكن معظم ما ينطقه ذو معنى، بل أعاد تذكيرهم بأن وجود الشاعر ينبغي ألا يظل أثيرياً، فلا بد أن يعود إلى الأرض. ومثلما ظل درويش ماهراً في لعبته اللغوية والكتابية والصوتية، ظل ماهراً في لعبة الحياة. ظلّت لديه القدرة على التأثير في الحوادث بل صناعتها. حين قال مرة عن وزير عراقي سابق إبّان مشاركته في إحدى التظاهرات إنّه “وزير الشعراء”، تحوّلت العبارة المواربة والماكرة إلى دليل عمل لهذا الوزير، لم تضاهِها نياشينه ربما. وظل شعراء الوزير يرددون الجملة كشهادة جادة عما يفعلون، من دون أن يفطنوا إلى اللغز المرائي الذي تركه الشاعر الشهير بينهم.
برحيل درويش، سيفقد الشعر العربي الكثير من صلاته مع من بقي من متلقّيه، وخصوصاً في ظل هيمنة النموذج النثري بمحمولاته، حقيقية كانت أو مزيفة، والتي يصل بها كتّابها حدود الفجاجة، ناسفين آخر ما بقي من جسور العلاقة مع الآخر، مع القارئ المرائي الذي لم يعد لديه ما يخسره. جاذبية درويش، تاريخه الشعري، علاقته الوجدانية بالمتلقّين، كل تلك خصائص يصعب أن تتكرر. سيظل صوته يتردد حاداً وصادماً في ذاكراتنا، سيظل يقرع فوق باب المخيال العربي بنبراته المنفعلة والمتهدجة.

سعد هادي

مجاز الحضور والغياب: من هؤلاء الأنا؟
تبعوا أثر الفراشة، هؤلاء الأنا، الفراشة ظنّت نفسها شاعراً تمكّن أخيراً من أن يفضّ شرنقة اللغة ويطير بجناحين. كان حلمه ضده، يقتل شاعره حين يبلغه، الحلم الذي احتشدت فيه أنا النص والشاعر وفلسطين والحبيبة. كل هذه مفقودات. والمفقود موجود حتماً، لكن خارج الذات؛ في منطقة اشتباكها مع العالم بوصفه ممارسة شعرية درويشية قابلة للتمثّل وابتكار وجود مجازي يمحق غيابها. ألم يكن الوطن في أمسّ الحاجة إلى براهين شعرية؟ والشاعر؟ ألا يحتاج إلى برهانه؟
لا بد من شعر إذاً، لا بد من نثر كذلك يصهر المفرد في الجمع، ويحقق لكليهما كياناً شعرياً خارج المنفى وفي صميم الداخل.
في عام 1974 كتب درويش «لم أكن حاضراً، لم أكن غائباً، كنت بين الحضور وبين الغياب». المقطع من قصيدة «كان موتي بطيئاً» المنشورة في «محاولة رقم 7» وفيها تمظهرات «الأنا» التي وسمت شعرية درويش بكثرتها، وجعلته الغائب الحاضر لشدة تعددها. ومع تقدم الشاعر في العمر، بات التعدد يختزل شيئاً فشيئاً، كأننا أمام درويش آخر، بودّه لو يقيّف أناه من جديد، لو يخسر الكثير من الوزن: «في الزحام امتلأت بمرآة نفسي وأسئلتي » (قصيدة «سنونو التتار»)
لكن مجاز الحضور والغياب الذي بدأ منذ السبعينيات بلغ ذروته في «في حضرة الغياب»، وكأن الوقت لم يمض على جرح درويش، وإن كنا كعشاق لقصيدته نسأل: ما الغياب في حضرة محمود؟ فقد كانت السبل تضيق بشاعرها الذي يسأل هل ما زال الفن في حاجة إلى براهين وطنية؟
يعلن الشاعر في «كان موتي بطيئاً»، «باسمها أتراجع عن حلمها»، باسم من؟ باسم أناه الجمعية، والشعرية، التي ضاع دمها بين الشاعر والوطن والنص. وهي التي إن ضاعت وُجدت «ضاع اسمها بيننا فالتقينا»؟ ومن دون ذلك الفقد، ما كان يمكن للعثور أن يكون «مذ وجدت القصيدة شرّدت نفسي». لقد فرقت حشود الأنا بينه وبين ذاته، كان على قصيدته أن تحمل صلبانها فهو حامل الاسم، أو شاعر الحلم. لكنه يتألم «ما كنت جنديّ هذا المكان، وثوريّ هذا الزمان».
كانت قصيدته القاموس الجمالي الفلسطيني، وقلما التصق مكان بشاعر، مثلما تعلّقت فلسطين بدرويش«كنت أحلمها، واسمها يتضاءل. كانت تسمى خلايا دمي».
رجع درويش إلى مدينة ستخبره كيف يحمل الحلم سيفاً ويقتل شاعره، عاد «نافذة على جهتين/ أنسى من أكون لكي أكون جماعة في واحد».
لنر كيف تجتمع أنا الحبيبة بمدينة المنفى ومدينة الحلم على الشاعر «قبّلت خنجرك الحلو/ ثم احتميت بكفّيك/ أن تقتليني/ وأن توقفيني عن الموت/ أشعر أني أموت/ فكوني امرأة/ وكوني مدينة». ثم يختلط شكل المدينة باسم الشاعر، فلا يعود يذكر أيّ منهما «ينادونني حسب الطقس والأمزجة/ لقد سقط اسمي بين تفاصيل تلك المدينة».
حملت قصيدة درويش كل هذه النقائض، أقصته لغته ومعجزته عن نفسه، جعلته هامشاً مقابل الكل، ثم أعادته رمزاً لذاته،وذوّبته في مجازاتها من جديد. كانت القصيده تملكه وتقسّمه في ما تملك. وكذلك فعل الفقدان بدرويش، نفاه من القصيدة واحتل مكانه فيها، ليكتمل.

نوال العلي

سنكون مؤدبين في الجنازة!
الكتابة عن محمود درويش صعبة في هذه اللحظات التي تفيض بأكثر من غصة وأكثر من ذهول، حيث جثمان الشاعر عبر الأجواء إلى عمّان، والعمال يعدّون له «قبراً موقتاً» على إحدى تلال رام الله. نحاول ألا نصدق أو أن ننظر إلى المشهد بعينَي الشاعر وبسخريته، هو الذي قد يكون من أكثر الشعراء قلقاً على «صورة موتهم» إن جاز التعبير. ففي شعره ونثره نقع على تصوراته الساخرة لصورة موته. حتى إنه استبق الهمسات الماكرة في جنازته: «كان أنفه طويلاً ولسانه أيضاً»، يتخيّل أحد مشيعيه يقول لآخر في «ذاكرة للنسيان». ويعمّق هذه السخرية المريرة من وراء قناع «يوسف» شاكياً للأب المُحابي في «ورد أقل»: «يحبّونني أن أموت لكي يمدحوني». وفي المجموعة نفسها، يكتب: «عندما يذهب الشهداء إلى النوم، أصحو، وأحرسهم من هواة الرثاء». ويمكننا إيراد استشهادات كثيرة على حساسيته الشديدة تجاه «الفضوليين» و«هواة الرثاء» وحملة الأكاليل والندّابات (تلك الحساسية التي لا يضاهيها سوى حساسيته من النقد القاسي أو فكرة أنّه ليس محبوباً من الجميع!). ولعله بهذا ترك نوعاً من التحذير لكل مَن يخطر له أن يكتب شيئاً في «مناسبة» غيابه!
ترى، هل يغيّر رحيل الشاعر من نظرتنا النقدية نحو مشروعه؟ لا شك في أنّ درويش شاعر متعدد الطبقات مثل عمارة كبيرة تجدّدت وعاصرت فترات مختلفة، عمارة تُعجب بطبقات منها ولا تُعجب بأخرى. لكنّها ــــ رغم كل شيء ــــ مَعْلَم جامع في هذه اللحظة الحرجة التي أوصلوا إليها «القضية الفلسطينية». وما يعزّي (إن كان أي عزاء ممكناً) أن الشعراء لا يموتون، هم فقط يرحلون. ورحيل الشاعر بهذا المعنى ولادة جديدة و«موته» حياة طليقة لشعره. حياة متحرّرة من تاريخ الشخص وأي خلافات أثارتها السياسة... وبعد كل ذلك يا محمود، ألن نكون مؤدبين في الجنازة؟

نجوان درويش

في حب بيروت
«باكراً تعلّمت أنّه حين يجيد الصبي الكلام، يكافئونه بديوان ومدينة». أنا اليوم من دون محمود درويش وسمير قصير، لا أعرف كيف أحب بيروت. على أبواب المدينة، وللمرة المليون، أكرر: هل بيروت مدينتي؟ منذ 48 ساعة فقط، «تبنّيت» برلين مدينتي، وسرتُ في الـ«الكسندربلاتز». لعلّي سرتُ في شوارع مماثلة في القاهرة وفيينا قبلاً. لا أستطيع الحسم حين تتعلّق الأسئلة بالمدن. لكن الفلسطينيَّين ـ الشاعر والمؤرخ ـ علّماني، أنّ بيروت لا يمكن إدراجها على لوائح «المدن». علّماني كيف تسكن المدينة داخلنا وتساكننا في الرحم. نُخلق، فلا تنادينا إلى الخارج، بل إلى أعماقنا. تمدّ لنا يدها لنغوص في حنايا النفس ودهاليز الاشتهاء. ألم أحلمْ بها لأوّل مرة منذ 20 سنة؟ تلك الليلة، كنت في قريتي أتخيّل كيف يكون الحب بلغة بيروت، أتخيّل الرصيف والبنت والسينما. وكان معي ديوان محمود درويش، كوفئت به في المدرسة لأنني أجدت إلقاء قصيدة «بيروت». يومها، تخلّيت عن نازك الملائكة وقرّرت أنّ درويش شاعري المفضل، وأنّه سيأتي يوم أفهم الكلمات المنصوصة في الديوان. ثم اجتمعنا بعد سنوات، أنا والشاعر والمدينة والديوان، في الملعب البلدي، وانتظرتُ قصيدتي، وولجتُ إلى الرحم ولم أخرج. جعلني الشاعر عالقاً في بيروت «مدينتنا» التي أحرقناها، و«نجمتنا» التي أضعناها. وبقيتُ كما المسحور بعقدة ذنب، مغروم بضحية لم أشارك في قتلها. ورّطني بشغف «هولوكوستي» تجاه بيروت. حتى اليوم، لا تزال تقفز إليّ من دواوين الشاعر الفلسطيني. في الحنين إلى فلسطين، أحبّ بيروت أكثر. ففي الحكاية القديمة الجميلة، لا يزال الصبي يعتقد أنّ حسن الكلام يؤدي إلى ديوان محمود درويش وبيروت. وهو، أنا، لم أتوقف يوماً عن حب... حسن الكلام.

ابراهيم توتونجي

 

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...