«اختطاف» أيمن زيدان.. لعب مسرحي جاد!

01-04-2017

«اختطاف» أيمن زيدان.. لعب مسرحي جاد!

أنعش «اختطاف» أيمن زيدان المقتبس عن «الأبواق والتوت البري» للمسرحي «داريو فو» ذاكرتنا الخاصة بمسرح ذاك المبدع الإيطالي: اتكاؤه على ملحمية بريشت وبيوميكانيكية مايرخولد، اعتماده على الأقنعة باعتبار الممثِّل كياناً فردياً، بينما القناع جامعٌ يُخبرنا عن اهتمام عامٍ، الاتكاء على المفارقات بشكل أساسي كـ«دينمو» لتعزيز الفعل المسرحي واختلاقها في بعض الأحيان، اهتمامه بالعدالة أكثر من السياسة، وغيرها من المواضيع التي بدت ناضجة في تجربة «زيدان»، التي احتفى بها بيوم المسرح العالمي على خشبة الحمراء الدمشقية، ليس فقط لجهة الرغبة باستنهاض وإحياء عمل من مسرحيات «داريو فو»، وإنما لقدرة «اختطاف» على مواكبة زمننا الحاضر المُستمر بجرأة، وإثراء مُخيِّلاتنا بالأسئلة، والدفع قدر المُستطاع نحو كسر الإيهام، لكن في الوقت ذاته الإغراق في تفاصيل اللعبة المسرحية التي استمرت قرابة الساعة من الزَّمن، تداخَلت فيها السياسة مع المجتمع والاقتصاد، وكأننا أمام «مسرح جريدة» إنساني مُعاصر، نرى فيه ما يهمُّنا بطريقة مُسليّة، وأبعد ما تكون عن التقريرية، فاضَ عنها استخدام الشاشة لمُراسلين تلفزيونيين، فحين تتحول محاولة «الإنقاذ» إلى «اختطاف» تتمفصل الحكاية، وتبدأ خيوطها بالتشابك، فالعامل «أنطونيو.. لجين إسماعيل» لم يكن يعلم أن من أنقذه بدايةً، ثم احتمى من الانفجار به هو «أَجيلّي» صاحب شركة صناعة السيارات التي يعمل بها، ولم يكن يدري أن معطفه الذي أطفأ به النيران التي كادت تلتهم رب عمله سيقوده إلى ما يشبه فيلم «تبادل وجوه.. face off»، لكن بشكل أعمق، فهنا ليست ثمة نية للانتقام، بقدر إبراز دراميّة «خلخلة الهوية الإيديولوجية»، وانعكاسها في النهاية على استقرار البلد بالكامل، عبر العلاقة التي يفرضها رأس المال المُتنفِّذ على بعض المفاصل السياسية الفاسدة بما تتضمنه من أعضاء حكومة وغيرهم من مسؤولين.
تصعيد متواتر حققه «زيدان» في العرض الذي تعاون في إعداده مع «محمود جعفوري» متَّكئين على تعزيز المفارقات المنبثقة من اللعبة المسرحية، بين ما تقوله الشخصيات وأفعالها أحياناً، وفي أحيان أخرى من خلال المواقف المتباينة التي تتعرض لها، كشرط أساسي لتحقيق مسرح شعبي قائم على تغذية الحيوية، مع اللجوء، في أكثر من مكان، إلى افتعال بعض النكات ذات التلميحات الجنسية المتكررة لاستجلاب الضحك، تجاوزها صاحب «سوبر ماركت» بالاعتماد على الطاقة العالية لممثليه «لجين إسماعيل، لوريس قزق، أنطوان شهيد، خوشناف ظاظا، نجاح مختار، توليب حمودة»، وتعددية أدوارهم، والاستفادة قدر الإمكان من حيل الخشبة، إذ إن سحر العرض يتطلب تكامل عناصره التي تحققت هنا بنسبة عالية، إذا استثنينا الفائض في بعض الحوارات، والخطابية التي اختُتِم بها، واضعاً لُبَّ الموضوع والرسالة الأساسية من «اختطاف» في آخر خمس دقائق، حيث جاءت كإعلان الانتهاء من اللعب الذي استمر طوال زمن العرض، والانتقال إلى الجدّ، رغم أنه يُمكننا وصف ذاك اللعب بـ«اللعب الجدّيّ» عالي الجودة، ولاسيما من ناحية إدارة الممثلين وضبط حركتهم على الخشبة، جاعلاً منهم «مُهرِّجين ملحميين»، كما كان «داريو فو» يُحب أن يُطلِق على ممثليه، باعتبار أن منطوقهم خلال العمل المسرحي لا ينبغي أن يكون جافاً وخشبياً، بل قادراً على تنمية العلاقة مع المتفرجين، بالاتكاء على فاعلية متجددة في الترابط معهم، مرّة باعتبار الممثلين رواة للحدث، وأخرى على أنهم أحد أفراد الجمهور في الصالة، وفق أسلوبية برع «زيدان» في تنويعاتها التي يفرضها الاشتغال على نوع كهذا من النصوص، إذ في بعض الأحيان تجد الغروتيسك حاضراً بأبهى تجلياته، وفي أخرى يعكس الممثل/ الدمية الآلية المُسيطرة على مكونات حياتنا، وفي مرّات تسيطر الكوميديا ديلارتي كطريقة سلسة لإسعاد الحاضرين، ثم لا يلبث العبث أن يتدخَّل بها ليُغير نتائج المُعادلة.
خلطة غرائبية تماثلت مع فضاء العرض لمشفى مملوء بدواليب السيارات، السيروم فيه مقبض مضخة بنزين، وجرس الممرضات زمُّور… (ديكور: علي فاضل، إضاءة أدهم سفر، موسيقا سمير كويفاتي)، وأيضاً مع الأزياء البلاستيكية (تصميم: ريم الشمالي) والأقنعة المجعدة (ماكياج: خولة الونوس)، وملاك الحب العذري المطرود باستمرار، فليس هناك عفّة في كل ما يُقال ويُفعل، فالزوجة مخدوعة حد الإعياء، ورغبة العشيقة متأججة بتلقيها لُقاحات فكرية أخرى من الزَّوج المُكافح، والغارق حتى أنفه في مصيدة سياسية لا يفقه منها شيئاً إلا الاعتراف بما يريده مسؤولو الأمن خشية العقاب، أو الهرب من وجه الجميع، أو القبول بالتحوُّل إلى دمية، مادام من يحمل صورة وجهه هو سبب مظالمه الأساسي، ومن داخل منزل «أنطونيو» المُتواضع يحيك «أجيلّي» خُططه للسيطرة على مقادير الأمور، والاستئثار بمزيد من المكاسب، وتحصيل عدد أكبر من الموالين له، يرتِّب لهم جلوسهم على مائدته كما يريد ويشتهي، مادامت العدالة واهية لدرجة تحويل مُمَثِّليها إلى ما يُشبه البالون المُوشك على الانفجار.

بديع منير صنيج

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...