ثقافة "فدا إجرو" وما لم يناقش في اسباب مناعة المقاومة

18-08-2006

ثقافة "فدا إجرو" وما لم يناقش في اسباب مناعة المقاومة

الجمل ـ سعاد جروس : للنصر أيضاً طعم آخر, طعم الفجيعة حين تقف أم جنوبية أمام جثامين أحبة لها, وقد تفسخت تحت الدمار, وتصرخ بكل وجع العالم «فداء للشباب», «فداء لرجِل السيد» أو بلفظ شعبي «فدا إجر اصغر مقاوم». على الرغم من هذه المرارة, كان هذا هو النصر الحقيقي الذي أحرزه لبنان الصامد, ثقافة «فدا إجرو» كما أسماها الزميل يونس عودة. تعبير تردد على ألسنة اللبنانيين تحت القصف طوال أربعة وثلاثين يوماً. أمهات, آباء, شباب, أطفال, شيوخ, تحدثوا عن فجيعتهم بأعزائهم, وفداحة خسائرهم ببيوتهم, ثم ختموا حديثهم بـ: «فداءً للمقاومة, فداءً لشبابها, كل شيء يمكن تعويضه إلا الكرامة».
ها هو لبنان يخرج من حرب الدمار الشامل مرفوع الرأس مكللاً بالعز, منتصراً بأبنائه المقاتلين الأشداء, بشهدائه, بمؤمنيه الصابرين, بمقاومة أعطت نموذجاً فريداً سواء بأدائها الرفيع, أو تكامل إدارتها لعملها السياسي والعسكري والإعلامي والاجتماعي. فلم نسمع عن مسؤول أو قيادي في أوج الأزمة ما دل على قلق أو رهبة من رياح حرب دولية عاتية, أو زلة لسان بكلمة صلف أو عنجهية أو استفزاز, لا في وقت الحرب و لا بعد إعلان النصر. وعلى العكس تماماً, بادر السيد حسن نصر الله فور إعلان الهدنة الى دعوة اللبنانيين الذين غادروا بيوتهم وبلداتهم للعودة سريعاً والانخراط في عملية بناء ما تخرب, والنأي عن المماحكات. كلمة قالها واضعاً نقطة في نهاية سطر المهاترات بعد أن لاحت بوادرها, ليكون الحديث التالي ليس عن النصر وما تحقق, بل عن الغد, وما يجب أن يتحقق؛ ليسير ركب المقاومة, ولتغرق من خلفه جحافل المحللين الاستراتيجيين والتكتيكيين وأشباههم في سفسطائيات الفضاء العربي الرحب بكل شيء إلا الحياء والخجل, والنظيف حتى البلادة من دماء الذين دفنوا تحت الأنقاض أو تركوا نهباً لعراء الصيف وحره في أزقة الجنوب. ليكونوا كالجند الذين صلبوا المسيح وراحوا يتسلون بالقتال على اقتسام ردائه, وبدل الحديث من كان مع, ومن كان ضد, من قدم ومن سيقدم, لماذا لا يتم الحديث كما في الإعلام الغربي عن أسرار مناعة المقاومة, وقدرتها على مواجهة أعتى قوة عسكرية؟!
أوردت صحيفة «الواشنطن بوست» ما تمتعت به المقاومة من ثبات في القتال حتى الموت, والمؤهلات المكتسبة من تدريبات عالية المستوى أحيطت بسرية تامة, وقدرات جهازها الأمني, وأموال التبرعات الطائلة المنهالة عليها, وما حازته من صواريخ متطورة, لكنها أغفلت ميزة هي الأهم, يكمن وراءها السر الأكبر لنجاح المقاومة, وهي غياب الفساد, الفساد المشهور جداً لم يعرف طريقه إليها, وللدلالة على أهميته المقيتة, لابأس من القول بأنه كان القاسم المشترك الأعظم بين جميع الإخفاقات والهزائم العربية, وبموجبه بيعت أهم القضايا الوطنية والقومية, في أكثر من معركة, تارة بصفقة سلاح فاسد وأخرى بصفقات تجارية مشبوهة, أسفرت عن ثروات هائلة تسلق عليها مناضلون أشاوس وانتقلوا من زواريب حروب العصابات الى منتجعات أوروبا الزاهرة بحضارة الأفراح والمسرات. فساد نما وطغى في قيلولات السلام والاسترسال في أحلام البقاء الأزلي, فنخر المؤسسات والمجتمعات وعشش في النفوس إلى حد انتفت معه سلطة الضمير والقانون. لتسود في عالمنا المعاصر شريعة «البزنس» والمال الحرام, حتى وضعت فيه لائحة أسعار تشمل كل شيء, على رأسها الإنسان, ولا تستثني الأوطان والدماء.
من قلب هذا الخراب الشامل, تخرج المقاومة اللبنانية لتقدم لائحة ممنوعات, بما لا يمكن ان يباع ويشترى, ولا يقبل المساومة: الوطن, الإيمان بالحق, الأرض, الكرامة, السلاح, ردع العدوان, الأسرى, الضمير, الولاء, الجهاد لتحرير الإنسان... إلخ. أما البيت والممتلكات وكل ما يمكن تعويضه بالمال, بل حتى الدم والروح فهذا «فدا إجر اصغر مقاوم», هذا التعبير البسيط والساذج يختزل بعاميته السخية كل تلك العناوين؛ ثقافة كهذه تُعنى بالكرامة والأرض معاً, لا يمكن أن تهزم, ولا أن تخترق, وربما لو استطاعت إسرائيل وأمريكا النيل من ذلك لوفرتا معركة انتقامية حاقدة وخاسرة.
لو فكرت أنظمتنا العربية السادرة في غيها وثرواتها بمناقشة ما جرى بضمير حي لوفرت هي أيضاً على شعوبها أعماراً من الهزائم المخزية السابقة المتلاحقة. ولما وقفوا مذهولين أمام صمود الجنوب, وضراوة المقاومين الأبطال بأسلحتهم البسيطة في مواجهة الميركافا المنيعة والبوارج المسعورة, متحدين أقوى سلاح جو غادر. وأدركوا أنه لا انتصار ولا تقدم, والأصح لن تقوم قائمة لأمة تسكت على فاسدين ومفسدين يرسمون مصائرها السوداء في الغرف الحمراء وحول الطاولات الخضراء, تحت عنوان الخطط الاستراتيجية للدفاع عن القضايا المصيرية.
مبروك للمقاومة نصر الإنسان بقيمه الحقيقية المنيعة غير القابل للمساومة أو البيع, نصر يعيد تسمية الأشياء بمسمياتها, ويرفع الغطاء عن عفن الفساد الضارب بين جنباتنا, فساد يزكم الأنوف.


بالاتفاق مع الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...