جنود الله

05-07-2010

جنود الله

“ترتبط الذاكرة بالبصر والبصيرة. بالنسبة إلى البصر، أنا لا أرغب في أن أرى، أما البصيرة فما أصابها أشد من العمى”. بهذه الكلمات تفتتح رواية “جنود الله” الصادرة حديثاً عن شركة رياض الريس بيروت.
تلتقط الرواية لحظة تلقي الصدمة، أي حين نصاب بحالة من العمى، فلا نكاد نرى أو نسمع أو نفكر بشيء، المرعب أن تكون اللحظة التي تليها، ليست سوى إدراك هول الصدمة لا استيعابها، نتمنى بعدها العمى الكامل في محاولة يائسة لدرء عذاب مروّع آتٍ لا محالة. عن تلك اللحظات المصيرية السريعة التي تتغير فيها حيوات البشر كتب الروائي السوري فواز حداد روايته “جنود الله”، تلك التي يتأكد فيها الأب المثقف ذو التاريخ الممتلئ بأحلام اليسار من فقدان ابنه الأصولي الجهادي وإلى الأبد، في نهاية رحلة شاقة إلى العراق “البلد الأكثر إيلاماً” حاول خلالها استعادته، لم يحل بينهما الموت، بل افتراق الطرق؛ كلاهما ينظر إلى الآخر على أنه ضل السبيل إلى المستقبل، وكلاهما يحاول أن يثني الآخر عن اختياره، دون أن تعوزهما الحجج للتشبث بما يراه كل منهما صحيحاً، حين لا مناص من اصطدام مدمر لا يعني تجنبه النجاة، وإنما ترك الواقع يرسم مساره بكل ما يعنيه من مآسٍ. كان العراق أحد أبلغ تجلياتها العنيفة: “بلد لا مكان فيه للعقل أو العدالة أو الرحمة، بل للخيانة والوشاية والخطف والذبح والقتل”.
الأب كنموذج للعنفوان اليساري الذي وصل حد الإلحاد وظن في أوج توهج اليسار في الستينيات أنه قاب قوسين أو أدنى من النصر في معركة العدالة ضد الرجعية والتخلي عن الدين والتدين، والإمساك بزمام المستقبل، فوجئ بعد ثلاثة عقود من النضال المستميت بأنه خسر المعركة، والمستقبل يسكنه المتدينون والأصوليون ويعبث به المتطرفون.
الرواية التي اتسمت بمقدار كبير من الحيوية تُدين استقالة اليسار الذي لم يحتمل الهزيمة، واستفاق متأخراً على أنه أنجب جيلاً على شاكلته من حيث التطرف المعاكس، تركه لقمة سائغة للتيارات الدينية المتشددة، في عالم يعاني الفراغ بعد أن فقد توازنه عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. ولم يكن أمام الطاقة الشبابية المتفجرة والرغبة العارمة في تغيير العالم ورفع الظلم، أي مسارب سياسية وفكرية فاعلة على الساحة سوى التنظيمات الإسلامية. وللغايات ذاتها أي التحرر والعدالة، خاض الآباء معركتها وكذلك اليوم يخوضها الأبناء، مع فارق أن اليساريين راهنوا على إرادة الإنسان، وسخّروا نضالهم من دون الاتكاء على الدين، وإنما باستبعاده، إن لم يكن بإلغائه. فيما يستعين به الأبناء وعليه يتكلون.
الرواية لا تقف مع طرف ضد آخر، ولا تتقيد بأي موقف مسبق، تسير مع القارئ في رحلة البحث عن إجابة عن أسئلة إشكالية مقلقة حول أسباب ما وصلنا إليه، محاولة الرصد بإمعان، لا يفلت حتى الاحتلال الاميركي، بما فيه من تناقض يجمع الإنساني مع الوحشي الغاشم.
ويمكن القول إن الروائي نجح في رصد المشهد بحيادية لا تنجو من استفزاز لمن يعتبر الحياد تجاه قضايا كهذه انحيازاً كاملاً. هذا في قراءة سطحية، لكن في العمق تسخر الرواية من عبثية وتخبط تبرير حرب الأكاذيب، فالأميركيون كما ظهروا في الرواية متطرفون أيضاً، يمارسون القتل تحت لواء محاربة قوى الشر بوصفهم جيش الرب، وإنسانيون تضللهم الآلة السياسية والحربية وتخونهم الرؤية.
بحذق ومهارة فائقة ينجح الروائي حداد برسم مشهديته، مقنعاً القارئ وتاركاً مساحة كبيرة ليتشارك معه التفكير، لا يوفر موضوعيته المخاتلة التي تضع الملح على جرح آباء كانوا من حيث لا يدرون نموذجاً للتخبط والفشل والتقديرات الخاطئة. والأكثر من ذلك ضحايا يستحقون شفقة الأبناء، إلى حد أن الأبناء سيحملون “وزرهم يوم القيامة”.
مشكلة الجيل السابق أن القلة القليلة منهم التي ثبتت على مبادئها ودافعت عنها، قد تحولت لاحقاً إلى مستحاثات فكرية، في حين ذهب البعض وبانتهازية فاضحة للالتحاق بركب الفريق الصاعد، وما تبقى من فلول انكفأت على نفسها. فالأم التي شاركت الأب أفكاره التقدمية عن الوازع الأخلاقي الذاتي، آلت إلى مخالفة دعواتها التحررية، وفرحت بالتزام ابنها الديني لتضمن عدم فقدانه مع فتاة متحررة من اللواتي كانت تدافع عنهن في شبابها، متنكرة لثوابت حافظت عليها طويلاً، وحورت بعض الأفكار عن التقاليد والتحرر... “وأضافت إليها نسخة محسنة من إيمان مبتكر لا يمكن فهمه إلا على أنه مزيج من النموذج التلقيني الدارج للعبادات”.
لاحقًا سيجد الأب نفسه وبعدما بات ابنه قيادياً في تنظيم القاعدة، في مواجهة غير متوقعة مع الزرقاوي، يخوض معه جدلاً عقيماً فيقول له مثلاً: “لا ينبغي المبالغة في القتل، الذبح عملية شنيعة، لا يجوز اقترافها”، فيجيبه الزرقاوي: “اعطني دبابات وطائرات كي لا أذبحهم”. الأب الذي ظن أن معركته مع ابنه، وجد أنه في الصميم في معركة شاقة مع الزرقاوي: “هذا الرجل يحتجز ابني، ويجتذبه بأفكاره وأسلوب تدينه وأعماله الدموية. كان دون ريب المثال الذي يرغب ابني في الاقتداء به”.
هذه الصدمة التي رغب بطل الرواية في تحاشي آلام مواجهتها من خلال مسح قسري للذاكرة، كانت واقعاً فرض نفسه، لتتداعى الذاكرة وتكتب اللحظات الأشد قسوة وإيلاماً، في فراق بين الأب والابن كان تحت القصف وبين أشلاء القتلى، ليبقى الأمل معلقاً على جنين (جيل قادم) ثمرة علاقة حرة بين البطل المثقل بفقدان ابن علاقة شرعية فاشلة وحبيبة تعاند هذه الأقدار لتحافظ على الجنين، التقيا في الزمن الصعب وابتكرا مكانا للحب والحياة.. تفتح الرواية باباً أخيراً عليه في دعوة للتأمل في محاولة لفهم ما جرى ويجري.
(جنود الله) رواية لا تمنح نفسها من القراءة الأولى، فسخونة الحدث وسلاسة اللغة تخطف القارئ نحو الفصل الأخير، في توتر فكري يتطلب أكثر من قراءة.

سعاد جروس

المصدر: الكفاح العربي

التعليقات

هذا الكتاب يبدو شهيا...سأتذكر العنوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...