الظهيرة القصوى

21-08-2023

الظهيرة القصوى

قصة: نبيل صالح

  الزمن هنا بزاقة يجف لعابها وتتباطأ حركتها تحت وهج شمس الظهيرة القصوى بانتظار سكونها الأخير .. أدرك معنى الحياة اللزجة في شوارع مدينة بحرية كنت أظنني أعرفها حيث الزمن فيها يدور حول نفسه ولا يغادر حدودها! تمر الشموس والأقمار والغيوم والطيور والجراد فوق هذي المدينة ولا يتغير فيها شيء سوى المقبرة التي نبتت فيها المزيد من شواهد القبور والأعشاب حيث تنشر العناكب عليها شباك الإنتظار فلا تصطاد سوى الحشرات والأوهام . أقطع دوار هارون الذي تلهب إسفلته شمس آب الخرساء فأرى الزمن هامداً كما لو أني ميت قام بعد زمن طويل ولم يلحظَ شيئأ تغير عند قدومه، ومازالت الحافلات والسيارات تدور حوله بنفس السائقين والركاب ولا يصلون إلى أي مكان ! أقطع الدوار إلى الجانب الآخر حيث تقبع على ضفته شركة حوالات الهرم كي أرسل حوالة إلى ابني العسكري. رأيت على بابه متسولة تمد يدها فتساءلت عن الفرق بينها وبين من تُرسَل لهم الحوالات في هذي البلاد، ورأيت أن الفارق يكمن في اختلاف الأسماء فقط لشعب بأغلبه يمد يده إلى أقاربه في العالم كي يستمر في العيش الذليل.. عدت إلى المقهى حيث كانت الظهيرة الخرساء تتمدد على رصيفه وبضعة رواد يقطعون وقتهم الميت بأمل الوصول إلى المستقبل الحي دونما جهد بينما عمرهم ينسرب من أنفاس أراكيلهم وأحداقهم المنتشية ومع كل نفس تقترب آجالهم منهم.. كان هناك ثمة امرأة تشاغل الوقت بانتظار الحب وهي تحتسي قهوة العمر.. نظرتها تشبه نظرة ذلك الجندي الشاب الذي رأيته قبل دخولي المقهى جالسا على حاجز الأمن العسكري وهو يكتب على جواله رسالة لحبيبته دون أن يدرك أن وقت الكتابة سيكون أجمل من زمن القراءة ، ذلك الزمن الذي سيكون فيه جالسا معها في غرفة بائسة وهي تقرأ بفرح رسالة ابنهما الذي يخدم على حاجز الأمن العسكري، وكأن الوقت لم يبارحهما أبدا وهو يدور بهما عند دوار هارون والناس يدورون معه ولايصلون إلى أي مكان!
  عدت بالأمس من العاصمة إلى مدينتي الأولى كي أنجز مهمة لابنتي التي مازالت تناور الحياة بجهد كبير لفتاة تفكر كرجل ولكنها تعمل بشكل مضاعف للحصول على مستحقات الرجل مع تحدي الإحتفاظ بأنوثتها وكبريائها، راجيا أن تتمكن من كسر دائرة الزمن الذي يجفف حياة الناس هنا كبزاقة خسرت آخر لعابها وهي تحاول أن تمد خطوتها الأخيرة نحو الحياة !
 فتحت الباب العتيق ودلفت إلى الشقة فطالعتني رائحة تخثر الهواء بفعل الحرارة العالية والرطوبة التي تفشت آثارها على دهان الحيطان، فشعرت كما لو أنني داخل حمام السوق العتيق. كانت أصوات الهوارين وقططها تتناهى من الحديقة المجاورة وهي تنوس بين الغضب والرجاء. تمددت فوق غطاء السرير الأبيض مثل كفن عتيق ورحت أحدق في زوايا السقف وأسلاك الكهرباء المهترئة حيث تنتشر بيوت العناكب والذباب العالق بين خيوطها، وظننت لوهلة أن وضعها أفضل من وضعي من حيث أنها تملك بيوتا ومصادر رزق دائمة.. فكرت أن أتصل ببعض معارفي القدامى وألتقي بهم ، ثم عدلت عن الفكرة، إذ مالجدوى من لقاء الأشباح القديمة في مقاهي النسيان حيث الجميع يشكو من مطحنة الحرب والغلاء ثم يتكلمون عن الغد المرتجى وتجارب نهضة الشعوب بعد حروبها، ولكن ماذا لو قلت لهم إن الحرب السورية قد نضجت إلى مستوى أنها قد تشعل حربا عالمية، وأن الأمر الجيد في هذا الخبر السيء هو أن الموتى لايموتون مرة ثانية وإنما قد يكون أمامهم فرصة لقيامة جديدة بعد طول صلبهم على خشبة الإنتظار ريثما يدركون معنى التجربة، فالناس نيام وإذا ماتوا انتبهوا.. أعدل جلستي على السرير وأنظر إلى المرآة لأرى ماذا تغير في ملامح وجهي. حدقت بقوة ولكني لم أر انعكاسا لي فيها .. اضطربت وخرجت من رهبة المنزل هابطا الدرج القديم بسرعة عندما لمحت طيفا يصعد الدرجات من دون أن يخطو.. إنه يشبه شخصا صادقته قبل عقود في هذي المدينة الساكنة كمقبرة .  لقد كان أنا !
تجمدت لوهلة وفتحت فمي لأناديه ولكني أبكمت ولم تخرج الكلمات من حنجرتي بينما طيفه يتناءى عني حتى اختفى في نهاية الردهة.. حينذاك لم أكن أعرف من أكون وفي أي نسخة كامن أنا ! خرجت إلى الشارع لأرى الناس وهم يتناسلون أنفسهم في نسخ لاتنتهي مثل قطار بعربات متصلة منفصلة يحكم حركتها نظام سكة الحديد .. دخلت مع الداخلين إلى القطار ورحت أتجاوز الركاب التائهين من عربة لأخرى إلى أن وصلت إلى عربة القيادة وسألت السائق عن وجهة القطار ومتى نصل المحطة التالية ؟ فنفث دخان سيجارته بوجهي وقال : لن نصل إلى أي محطة، فالقطار معطل منذ سنة 2011  وبات اسمه الآن "مقهى المحطة"، وأنا النادل.. ماهو نوع المعسل الذي تريده يارفيق ؟!

 

التعليقات

حان الوقت يا نبيل، كما ترى كل المحاولات الصادقة التي بذلت لتغير كذبة واحدة لم تنجح ولن تنجحـ فإعادة أنتاج كل شيء مرتبط برد الاعتبار للحقيقة .. الحقيقة التي كنت تعرفها جيدا قبل 2011 وحاولت جاهدا بكل ما فيك وبكل قوتك وبكل صدقك أن تغير كل شيء، إلا تصديق تلك الكذبة الصغيرة السخيفة. اليوم النسخة منك التي إلتقتك عاتبة عليك. النسخة منك التي عملت بجهده كي تتخلص منها أو على الأقل تخدرها، عاتبة عليك .. فها أنت ترى تحولات الانمساخ، ترى من داخل قلب الظلمات، ترى من داخل المقبرة ..إن التكلفة كانت ستكون أقل بكثير لو صححنا تلك الكذبة السخيفة .. كذبة التوريث، ذل التوريث، فقه التوريث... على الأقل مهما كان البديل سيكون حقيقيا نعرف كيف نتعامل معه! على الأقل كان هناك من أمل .. أي أمل .. بدلا من هذا الانسداد الوحشي المتجيّف.. اشتاق لصديقي نبيل قبل 2011 .. وغاضب وعاتب عليك وبنفس الوقت، العيش خارج الكذبة الصغيرة السخيفة التي دفع ثمنها بلد كبير .. منحني بعض الهواء فليس كل ما اشمه اليوم جيفة.. أفكر فعلا بك ولو كنت اتخذت نفس المسار الذي مشيت به .. وصدقت أن عملا صادقا عظيما ومن القلب ..يمكن أن يغير بالكذبة السخيفة الصغيرة .. لكنت اليوم على الأقل أذهب بعيدا في الصمت أبعد بكثير من كل هذا ... كيف تحملت يا رجل؟ كيف تحملت ؟ 12 سنة من هذا البعر والروث والهراء والخمة؟ ثمة أمل أخير بكلماتك القادمة عن الجنوب اليوم ... ستكون حاسمة لنعلم جميعا إنك هل ستغرق في هذه الجورة الفنية للأبد .. أم مازال بك بعض من نبيل القديم... في بعض السهرات مع أصدقاء قدامى .. يضبطني رفاق قدمى بالحنين إليك ( قبل 2011) فيجيوني ... الوريث يمكن له أن يغير رأيه، ويفعل شيئا لكن نبيل صالح .. مكابر أشد عنادا .. لن يفع هذه المرة ..نداءك الذي قرعت عليه كطالب في الصف الخامس " أين أنت حافظ أسد .. ببساطة لأنك بت تعرف أين هو سلام يا صديق قديم ..سلام يا نبيل يا وجع الكلام أريدك أن تحيا .. ولكن احيانا أقول ليس عليك أن تشهد ما هو قادم فهذه المرة مختلفة جدا ... كانت مجرد كذبة صغيرة بلا معنى مازالت كذبة أصغر من أي معنى. تلك هي المسألة يا صاحبي ولا غير .....ولا ضير من المزيد

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...