احتكار الرقابة الشرعية المصرفية يهدد مستقبل الصيرفة الإسلامية

01-03-2009

احتكار الرقابة الشرعية المصرفية يهدد مستقبل الصيرفة الإسلامية

أثارت المصارف الإسلامية أخيراً جملة تساؤلات في ما يتعلق بسلامة أعمالها من الناحية الشرعية، ومدى اختلافها حقيقة عن المصارف التقليدية. وقضية الرقابة الشرعية التي لا يجوز قانونياً أن يخلو منها مصرف إسلامي، هي أهم القضايا التي تستدعي الوقوف والنظر عند التطرق لهذا الموضوع، لأنها تمثل السلطة التشريعية لهذه المؤسسات، فهي التي تحرّم لها وتحلل، فتكون بذلك المسؤول عن سلامة أعمالها من الناحية الشرعية.
وفي هذا الصدد يلحظ المتتبع أن الجهاز الشرعي الرقابي في أكثر المؤسسات المالية الإسلامية يقتصر على أسماء متكررة تتولى أعمال الرقابة الشرعية فيها، حتى ليتكرر الإسم الواحد في سبعين أو ثمانين مؤسسة! وهذه ظاهرة تدعو للنظر، وبها قد يُعلل النقد الشديد الذي بدأت تتعرض له هذه المؤسسات أخيراً، إذ ان انفراد ثلة قليلة معينة في توجيه عمل المؤسسات المالية الإسلامية التي تعد اليوم بالمئات يعني أن تصبح مسيرة هذه المؤسسات أسيرة رؤاهم وآرائهم الاجتهادية، وهي رؤى وآراء قد يجافيها الصواب، فتكون من حيث المآل مسيئة إلى هذه المؤسسات، وذات آثار سلبية متعددة الجوانب. وما كان في هذا الأمر ولا في النقد الذي تتعرض له هذه المؤسسات مدعاة للقلق لو أن هذه المؤسسات مؤسسات ربحية عادية لم ترفع الإسلام شعاراً لها، ولم تناد بدعم المسلمين لها في حجة أنها تمثل حجر الأساس للمشروع النهضوي الإسلامي، وأنها مثبتة للغرب وغير المسلمين عظمةَ الإسلام وسموَّ نظامه الشرعي الاقتصادي، في وقت يُتهم الإسلام من خصومه التقليديين بأنه فاشل وغير عقلاني وغير منصِف. فقُدمت المصارف الإسلامية على أنها مفخرة هذا النظام في هذا العصر، فإذا فشلت، أو ثبت عدم عقلانية منظومةِ عملها، وعدمُ تميزها الجوهري عن نظيراتها الربوية، فإنها كمن يؤكد لخصوم الإسلام صدق ما يدعون، أو كمن يشوّه دينه بيده، هذا فضلاً عما سيسفر عن هذا الفشل من زيادة شعور المسلمين باليأس والإحباط لما علّقوه من آمال كبيرة على نهضة هذه المؤسسات.
وليس بوسع هذه المؤسسات أو القائمين عليها أن يدلوا على شيء من سلامة مسلكها بعبارات الثناء والمديح التي قد يطلقها بعض رجالات المال والاستثمار التقليدي، لا سيما من غير المسلمين، على نموذج النظام الاقتصادي والمصرفي الإسلامي المقدَّم. فهذا الثناء محل تهمة لأنه صادر من منتفِع، منتفِع بالمكاسب المادية الهائلة التي يجنيها من انضمامه إلى ركب هذه الصناعة، بجذب أموال المسلمين الكثيرة إلى مؤسساته التي يقيمها لترعى الصيرفة الإسلامية وتقدمها كما يقدمها المسلمون، لا سيما أن قيام المؤسسات المالية الإسلامية بادئ الأمر قد أضر كثيراً بالمؤسسات المالية الربوية والغربية فأفقدها مبالغ سحبت منها لتودع في المصارف الإسلامية الناشئة في بلاد المسلمين. إذا كان الأمر في هذه الأهمية، فأمر المصارف الإسلامية يعني كل المسلمين حقاً وليس خاصاً بالقائمين عليها، فكيف يرضى المسلم أن يكون في تعامله معها شبهات وهو الذي هجر المؤسسات الربوية إليها طلباً للحلال، ثم كيف يرضى أن يشوه هذا الدين في الخارج، ويصبح مطية نفعية بل وسياسية أيضاً!
ولا يمكن في هذا الإطار أن يدعي الشرعيون والقائمون على هذه المصارف الإسلامية أن ما قدِّم من صيرفة إسلامية حتى الآن إنما هو خطوة أولى على طريق إنجاز مشروع منظومة الصيرفة الإسلامية الكاملة والبعيدة عن الشبهات، لأن الواقع يدحض ذلك، فهذه المؤسسات لا تنقل هذا التصور إلى غير المسلمين في الشرق أو الغرب عند حديثها عن واقع الصيرفة الإسلامية، بل وكما يعلم المتابع للندوات والمؤتمرات العدة المنعقدة في موضوع الصيرفة الإسلامية، تقدم النموذج الحالي على أنه نموذج إسلامي صحيح، أقصى ما فيه اختلافات مبررة في الاجتهاد الشرعي الإسلامي ووجهات النظر. هذه هي الصورة في الخارج، أما في الداخل المسلم، فالمثقف المتابع لمسيرة هذه المصارف، يرى تراجعاً مطرداً وسريعاً في مستوى تقديم المنتج الإسلامي البعيد عن الشبه والنقد، فبعض ما كان حراماً من قبل في المؤسسة الواحدة صار حلالاً لاحقاً وممارساً فيها، فضلاً عن الازدياد الكبير والسريع في عدد المؤسسات الجديدة التي تؤسس هيكلة منتجاتها على معاملات مشبوهة لا تختلف في جوهرها عن التمويل الربوي كالعينة والتورّق، وهو ما يدحض الزعم بأن القائمين على هذه المصارف بالجملة يدركون أمر المرحلية في تطبيق الشريعة في مؤسساتهم ويسعون للاقتراب من النموذج الكامل والخالص.

أساس المشكلة

يكمن أساس المشكلة في تولي كثير من غير الأكفاء لمجالس الإفتاء الشرعي لهذه المؤسسات، فالكفاءة هنا تستدعي منطقياً إتقاناً للفقه المالي وإدراكاً لمقاصد الشريعة ومآلات الفتوى، وإلماماً بأصول العمل المصرفي وما يستلزمه كاللغة الأجنبية لأنها لغة العقود. وللأسف، فإن إتقان الفقه لم يعط الأهمية اللازمة عملياً مع قيام المصارف الإسلامية، فأعطيت الأفضلية لمن يلم بأصول العمل المصرفي ويجيد اللغة وعنده دراية بالفقه وإن لم يكن بالضرورة فقيهاً متقناً. والسبب أن إتقان الفقه لم يكن سهلاً تحققه آنئذ في من تحققت فيه المواصفات الأخرى اللازمة لهذا العمل بمعيار السوق، فتحقق إتقان الفقه مع الدراية المصرفية واللغة الأجنبية أمر نادر، وهذا ما يفسر تزعم مجموعة من حملة الشهادات العلمية بالاقتصاد من الجامعات الأجنبية الملميّن بعض إلمام بالفقه لبعض هذه المجالس.
هذا وجه المشكلة الأول، أما الآخر، فهو أن رواد مجالس الإفتاء المصرفي ونجومه هم بعد ذلك من يناط بهم على الغالب، نظراً لنجوميتهم أو سلاسة فتاويهم، أمرُ اختيار أعضاء مجلس الرقابات الشرعية للمؤسسات الجديدة الناشئة، ينيطه بهم القائمون على هذه المؤسسات المالية الإسلامية الجديدة بعد تعيينهم رؤساء لمجالس رقاباتها الشرعية. ومن الطبيعي ألا يقدّر غيرُ الكفؤ منهم ضرورةَ اختيار الأكفاء أو يسعى لذلك، بل إن بعض هؤلاء النجوم يبحث عمن يوافق منهجه في الفتوى، لتبقى له الكلمة الأولى والأخيرة في المجلس ويسلمَ من النقد ويكون سيد الموقف، فيكون معيار الانتقاء في أحوال كثيرة الولاء والموافقة، لا العلم والكفاءة!

المستقبل

تلخصت مشكلة الرقابة الشرعية على ما تقدم في تولي عدد كبير من غير الأكفاء لأعمال الرقابة الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية، واحتكارهم لتلك المؤسسات وتوجيهها بدفتهم الواحدة، التي وجدت نزّاعة في الغالب إلى الطابع التسويغي المتساهل. ثم في غياب النقد والرأي الآخر في مجالس تلك الهيئات عموماً وبصرف النظر عن كفاءة أعضائها، مع أن النقد والحوار واختلاف الرؤى وتعددها هو العامل الأنجع دوماً في خلق الأفكار والإبداع، والعاصم من الوقوع في الخطأ أو التمادي فيه، فهو الأولى ألا يغيب مع شدة الحاجة إلى الخلق والتجديد والسلامة في هذه الصناعة الإسلامية المهمة!
وعليه، فإن مسيرة العمل المصرفي الإسلامي في خطر إن لم تُتدارك هذه المشكلة بجملة إجراءات أهمها: العمل على تعيين الأكفاء فقط في هذه المناصب وعدم الاعتداد بإقبال المؤسسات على أشخاص بعينهم، والعمل على فك عرى الارتباط المصلحي بين أصحاب المؤسسات المالية الإسلامية وبين الرقابات الشرعية ليشرفَ على تعيين الرقابات جهة مستقلة عن تلك المؤسسات، ثم في تقنين عدد المؤسسات التي يحق للفرد الواحد العضوية في مجالسها، فضلاً عن إقامة المراكز والمؤسسات التعليمية غير التجارية الربحية التي ترعى أمر تأهيل أعضاء الرقابات الشرعية شرعياً وفنياً ولغوياً التأهيل الصحيح، وسحب الثقة من المراكز التدريبية الربحية غير المؤهلة!
ولو استمر الأمر على ما هو عليه الآن من دون إصلاح، فالخوف من أن يأتي اليومُ الذي يفقد الناس الثقة تماماً بإسلامية هذه المؤسسات لِما يرون من انحرافها الناشئ عما ذكرنا، لتفقد هذه المؤسسات حينئذ أكبر رصيد لها صارت بفضله قادرة على منافسة المؤسسات الربوية العملاقة وهو صبغتها الإسلامية، فتذوبَ وقد فقدت إسلاميتها أمام هيمنة وعملقة المصارف التقليدية. وحينئذ سيدرك القائمون على هذه المؤسسات أي خطأ ارتكبوا لما سعوا خلف غير أكفاء، جهلاً منهم أو طمعاً بتسويغهم لأعمالهم.

عبد العظيم أبو زيد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...