الحوار الثقافي والديني من منظور ثلاثـة مؤتمرات عالمية

08-10-2006

الحوار الثقافي والديني من منظور ثلاثـة مؤتمرات عالمية

في الفترة الواقعة بين 24 آب المنصرم و16 ايلول الفائت، اتيحت لي فرصة حضور ثلاثة مؤتمرات عالمية حول حوار الاديان والثقافات. الاول في مدينة كيوتو اليابانية بدعوة من المؤتمر العالمي للاديان من اجل السلام ما بين الخامس والعشرين والتاسع والعشرين من شهر آب، والثاني في اسيزي ايطاليا بين الثالث والخامس من ايلول، والثالث ورشة عمل ثقافية في قصر الايليزيه بدعوة من وزارة الخارجية الفرنسية بين 12 و16 ايلول الماضي.
لا بد بادئ ذي بدء، من استعراض موضوعات هذه المؤتمرات تباعا والتعريف والحديث عنها قبل الخوض في مسألة انسحاب بعض المواقف من بعض المراجع الدينية العليا على اعمالها وقد تزامنت بصورة خاصة في مؤتمر اسيزي بعد تصريح الشيخ يوسف قرضاوي عن الشيعة وورشة عمل باريس بعد تصريح قداسة البابا المشار اليه.
وبالفعل، لقد دعت المنظمة العالمية للاديان من اجل السلام WCRP وهي منظمة عالمية، مركزها نيويورك، الى عقد هذا المؤتمر بحضور ما يقارب الالف شخصية من العالم ينتمون الى اكثر من سبعين بلدا. لا يستطيع المرء الا ان يستذكر حسن التنظيم والاستقبال لدى اليابانيين والقدرة الفائقة على توفير كل الوسائل لضمان سير المؤتمر على النحو المخطط له. كما لا يسع المشارك الا ان يتذكر اهمية العمل التطوعي لعشرات الشباب والشابات اليابانيين الذين سهلوا على المشاركين اقامتهم، ومع الاشارة الى ان هذا الشعب يمتاز بأدب عال وتهذيب رفيع قل نظيرهما بين شعوب العالم. كما يلفت المشارك الدرجة العالية من النظافة والترتيب.
تناولت موضوعات المؤتمر الذي توزع في جلسات عامة وورش عمل مصغرة، الموضوعات الرئيسية التالية:
تحويل الصراع Conflict) (transformation ويشمل هذا الموضوع درء النزاع والتوسط والتفاوض والتصالح والشفاء.
اشتمل المحور الثاني على بناء السلام ويتضمن بنود نشر الديموقراطية والحكم الصالح والتربية على السلم وحقوق الانسان والعدالة ونزع الاسلحة والامن.
اما المحور الثالث فتركز على مبدأ التنمية وفيه بنود حول الفقر وعمالة الاطفال وحقوق العائلة ومرض نقص المناعة والبيئة.
حضر الحفل الافتتاحي رئيس الوزراء الياباني كويزومي وكان للأمير حسن بن طلال كلمة تحدث فيها عن الارهاب والعنف والسلام والمشاكل العالمية التي تثبت نوازع الارهاب وقصور السياسات الدولية على احتوائه بسبب غياب العدالة في تطبيقات القانون الدولي، وأبرز أهمية حل المشكلة الفلسطينية كمدخل للتخفيف من حدة صراع الحضارات والثقافات وقد انعكس الموضوع الفلسطيني مادة سجالية حادة في الحفل الختامي بين كبير قضاة فلسطين من جهة، وحاخامات يهود من جهة ثانية، أبرزت عمق الصراع وخطره على كل خطوة حوارية في المستقبل.
أما لقاء منظمة السانت إيجيديو فعقد في مدينة اسيزي بمناسبة الذكرى العشرين للصلاة المشتركة للاديان كلها التي دعا اليها قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في خريف عام 1986. وقد رأى المنظمون إن أهم تحية توجه لذكرى وجهود البابا الراحل تكون في الاستمرار في الرسالة التي أطلقها منذ عشرين سنة اذ دعا ممثلين عن جميع الاديان السماوية وغير السماوية الى لقاء وصلاة في مدينة اسيزي الايطالية وهي مدينة القديس فرنسيس المبجل تبجيلاً كبيراً لدى الكاثوليك في العالم، والذي عارض الحملات الصليبية أو ما تسميه المصادر العربية "بغزوات الفرنجة" وعاش فترة من حياته في مدينة الاسكندرية.
عقد اللقاء تحت شعار لأجل السلام في العالم: "الاديان والثقافات تتحاور"، وحضره مئات من الممثلين لمختلف الطوائف والاديان في العالم، وكذلك اساتذة جامعات وباحثون واعلاميون ورجال دولة ورجال دين ودنيا في استعادة للقاء سنوي تدعو اليه هذه المنظمة الامينة على رسالة حوار الاديان والثقافات والمؤتمنة على رسالة البابا الراحل في الانفتاح على جميع المعتقدات والتوجهات. ومن المعروف أن هذه المنظمة عقدت في كل سنة بمثل هذا الوقت من شهر ايلول مؤتمراً في مدينة، تنقلت في السنوات الاخيرة من ليشبونة الى برشلونة الى باليرمو الى آخن الى ميلانو الى ليون وهذه السنة العودة الى نقطة الانطلاق أي في اسيزي.
وقد كان متوقعاً أن يحضر البابا الحالي هذه الذكرى أو على الاقل أن يستقبل المدعوين في لقاء خاص في حاضرة الفاتيكان. الا أن أياً من الاقتراحين المقدمين من المنظمين لم يتم الموافقة عليه مكتفياً بتوجيه رسالة الى اللقاء، ألقاها الكاردينال بوبار رئيس المجلس البابوي للثقافة والحوار. ومن المؤسف حقاً أن لا يحضر البابا هذه الذكرى التي أطلقها سلفه الراحل والتي تشتد أهميتها في هذه الظروف، حيث التوتر يزداد حدة والهوة تتسع رقعة مواجهاتها والتي لم تقف في كثير من الاحيان عند حدود الاختلاف في الآراء، بل شملت ايضاً استعمال وسائل العنف والارهاب أحياناً.
وقد اشتملت الندوات التي عقدت هذه السنة العديد من الموضوعات بعضها استعادة لمواضيع جرى بحثها في السنوات السابقة خصوصاً في مواضيع العلاقة الاوروبية – الافريقية والعائلة وحضارة التعايش في زمن الحرب وبناء السلم والتضامن وحب الله والعولمة والصراعات التي تشكل تحدياً للحوار والحوار المسكوني والفقر والحوار مع الاديان الآسيوية. وإنني لمتوقف بصورة خاصة عند ندوتين الاولى التي تتصل بإحياء ذكرى البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الغائب الحاضر في هذا اللقاء وفي هذه المدينة بالذات. والثانية حول مستقبل لبنان. هذا اللبنان الذي تربط اعضاء سانت إيجيديو به محبة كبرى وعلاقة وثيقة.
واذا كانت ندوة إحياء ذكرى البابا الراحل كانت استعادة لمواقفه وانفتاحه ودأبه على ملاقاة الآخر المختلف والتحاور معه والقبول به واحترامه، فان ندوة لبنان اختلط فيها السياسي بالديني والخيبة بالرجاء، خصوصاً وان توقيتها صدف بعد أيام قليلة من وقف الاعمال العدائية الاسرائيلية ضد لبنان. وقد اشترك في هذه الندوة وزير الثقافة الدكتور طارق متري وكل من المطران بولس مطر والاستاذ محمد السماك والدكتور سعود المولى وكاتب هذا المقال، أمام جمهور غصت فيه القاعة الكبرى المخصصة والتي زاد عدد الحاضرين فيها على 700 شخص. وهذا يعكس مقدار الاهتمام الكبير الذي يوليه المنظمون والمدعوون والايطاليون لهذا البلد خاصة بعد إرسال جنود ايطاليين الى جنوب لبنان لمساعدة هذا البلد في إرساء السلام في تلك المنطقة. وقد كان وجودنا في ايطاليا مناسبة للقائين مهمين، الاول جرى مع رئيس الوزراء رومانو برودي في مركز الحكومة في روما، والثاني مع رئيس جمهورية ايطاليا الرئيس نابوليتانو في اسيزي بعد انتهاء حفل الختام. وقد أكد لنا المسؤولان ضرورة الحفاظ على الهدوء في الجنوب، لئلا يدمر لبنان كلياً من اسرائيل اذا عادت المواجهات المسلحة في تلك المنطقة.
ألقت تصريحات الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي حول الشيعة بثقلها على هذا المؤتمر، وأثرت على أجواء المؤتمر، خصوصاً بعدما أبدى العديد من رجال الدين السنّة استغرابهم لصدور مثل هذا الموقف من مرجعية دينية مرموقة معروفة بالوسطية والاعتدال، وهذه الحدة في تناول الشيعية وحزب الله وامينه العام.
اما ورشة العمل الثقافية التي عقدت في باريس بين 12 و16 ايلول الماضي، فقد جرى افتتاحها في قصر الاليزيه بحضور الرئيس جاك شيراك الذي تحدث عن اهمية ابراز البعد الثقافي للعلاقة الاورو – متوسطية من جهة، وإن في تعزيز وتقريب المسافة الثقافية بين الشعوب والمجتمعات المدنية بين بلدان هذه المنطقة، بحيث ان توثيق هذه العلاقات يمنع صدام الاصوليات ويبعد التطرف والارهاب. هذا فضلا عن تداعياته الايجابية على توثيق علاقات التعارف والتقارب والتعاون والتفاعل في منطقة هي مهد الحضارات ومنطلق الثقافات والاديان.
كما ان السيدة سوزان مبارك وولي عهد المغرب مولاي رشيد والامير غازي من الاردن وعبدالله غول وزير خارجية تركيا والبروفسور اندريا ريكاردي مؤسس منظمة السانت ايجيديو، تعاقبوا على الكلام مشددين على اهمية هذا المسار الذي اطلق في باريس ويمر في محطته الثانية في اشبيلية في اسبانيا، وينتهي بعد سنة في الاسكندرية في مصر بالاشتراك مع مؤسسة انا ليند الاورو – متوسطية للحوار بين الثقافات.
توزع المدعوون على ورش عمل صغيرة عقدت جميعها اجتماعاتها في قصر المؤتمرات الدولية في جادة كليبير في العاصمة الفرنسية، وقد تضمنت الحلقات الست التي توزع المشاركون عليها الموضوعات الآتية:
الحلقة الاولى: الهوة الثقافية، الذاكرة، التاريخ وتهدف لحفظ التراث في مختلف البلدان.
الحلقة الثانية: الصورة والنص المكتوب: فالصور كأدوات متميزة للعنف الرمزي الذي تشنه فئات ضد اخرى تلعب دورا اساسيا في بناء وتهديم الصلات الاجتماعية والثقافية.
الحلقة الثالثة: الواقع الديني المتنوع والمجتمعات: وتهدف الى مساءلة العلاقات السائدة اليوم بين الاديان والمجتمعات، والى تحسين قيمة التعددية والتنويع في هذه العلاقات. كما تطرقت الى واقع المسيحية في الشرق والى واقع الاسلام في اوروبا، كما قدمت تقييما نقديا للحوار بين الاديان على الصعيدين الداخلي والاقليمي.
الحلقة الرابعة: التحديث الاجتماعي: وتمنح الاولوية لأمور مشتركة في المنطقة ابرزها اصلاح قوانين الاحوال الشخصية ونشر الديموقراطية ودور النساء والشبيبة وتطوير منطق الحكم.
الحلقة الخامسة: التربية: ويحتل هذا الموضوع اهمية بالغة في منطقة غالبية سكانها من الشبيبة ويتم التعبير عنها بمحو الامية وتطوير التعليم الثانوي والاصلاحات التربوية والتعليم الجامعي.
الحلقة السادسة: القيم المتقاسمة، القيم المشتركة: احترام التنوع الثقافي وحقوق الاقليات والتنمية البشرية وارساء الديموقراطية كقيمة مشتركة ونشر التسامح (مكافحة العنصرية ومعاداة السامية ومعاداة الاسلام) وحقوق الانسان والتنوع الثقافي.
وقد ساهمت شخصيا بورقة قدمت ووزعت على المشتركين في الحلقة الثالثة واعتبرت وثيقة من وثائق ورشة العمل حول موضوع المسألة الدينية والمجتمع في منطقة الاورو – المتوسطية وربما سنعمد الى نشرها بعد تعريبها.
اما الحفل الختامي، فحضره كل من وزير الخارجية الفرنسي ممثلا بوكيلة الوزارة ووزير الخارجية الاسباني المعروف جدا في لبنان ميكيل انخل موراتينوس ومدير عام الاونيسكو ساتورا الذين اثنوا جميعهم على اهمية استمرار هذا المسار الاورو – متوسطي على مستوى هيئات المجتمع المدني وشخصيات ثقافية وفكرية بما وصفه موراتينوس بأنه "ديبلوماسية المواطنين". وقد ذكرني قوله ذلك بوصف مماثل تناوله البروفسور انطوان مسرة عندما عاد الفريق العربي للحوار الاسلامي – المسيحي من جولته في الولايات المتحدة الاميركية السنة الماضية زائراً العديد من المراكز الدينية والجامعات والكونغرس "بديبلوماسية الشعوب". ويبدو ان الديبلوماسية الرسمية اصبحت قاصرة عن استيعاب المعطيات الجديدة في العلاقات بين الدول، مما يحتم اشراك المواطنين والشعوب بهذه المهمة الجليلة، على ما علق احدهم، وكما ان الدين مهم جدا وخطير جدا ليترك امره لرجال الدين فقط، يبدو ان الديبلوماسية ايضا مهمة وخطيرة لتترك لرجال السلك الديبلوماسي الرسمي فقط.
مع الاشارة الى ان العديد من اللبنانيين شاركوا في هذه الورشة من كل الطوائف والمناطق والاختصاصات.
ولا بد من الاشارة ختاما الى ان ما نسب عن قداسة البابا بنيدكتوس السادس عشر في محاضرته القى بثقله على ختام الجلسة الختامية، بعدما اتصل بعلم الحاضرين المسلمين خاصة اقواله عن الاسلام ونبيهم، مما دفع بالبعض الى التصريح علانية ان الحوار الاسلامي المسيحي والعلاقة بين اوروبا والعرب والمسلمين اصبحت في خطر اذا استمرت مثل هذه الاقوال واذا لم يرجع البابا عن تصريحاته هذه.
ان الجامع المشترك بين المؤتمرات الثلاثة يكمن في التخوف من تصاعد العنف والارهاب وانعكاساتها على العلاقات بين الاديان والثقافات. هذا الهاجس الذي يقر به المسؤولون عن هذه المنظمات والذي يعود بأسبابه الى المواقف السياسية المدعومة احياناً بالاعمال العسكرية، يقض مضاجع العاملين في الحوار بين الديانات والثقافات، ويصيبهم احيانا بالتشاؤم لجدوى انعقاد هذه المؤتمرات في ظل اجواء التشنج والتوتر.
ان هذه المنطقة المتنوعة والاشد توترا في العالم هي الأكثر عرضة لتلقي تداعيات مثل هذه التصريحات التي لا تفيد الا المتطرفين الذين يجدون فيها سبيلا لدعم تطرفهم، والفئة الاكثر عرضة للخطر هي المعتدلون من كل الاديان والطوائف، مما يوحي ان على العاملين في الحوار بذل المزيد من الجهد لاستيعاب نتائج هذه الازمات وتلقي هذه الصدامات واعتبارها مرحلة يجب اجتيازها بالحكمة والعقل الى ان تأتي ايام احسن.

القاضي عباس الحلبي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...