نهر الحياة: نجيب محفوظ والإبداع القصصي
ينشغل الإبداع القصصي لنجيب محفوظ بالحياة، وتتجسد فيه صورها المتعددة، كما تتدرج فيه مستويات انشغاله بها منذ بدايات إبداعه.
تبعا للمرحلة الزمنية / الحالة السائدة في إبداعه بصورة عامة، بحيث دائما توجد الحياة ومترادفاتها ومضاداتها؛ فمن الحياة ينبثق الموت، ومن الموت تنبثق الحياة، وهكذا فالمبدع / الإنسان في رحلة بحث دائمة فيما حوله وفي الآخرين، انطلاقا من ذاته، في وجه الوطن، وأديم أرضه وثراه.
وفي أغواره، لا تكاد تنتهي إحدى مراحلها حتى تبدأ مرحلة أخرى أشد أو أخف وطأة؛ لتتواتر فيها سبل الإبداع ووسائله لتشكل هذا النسيج المتواشج المتنامي لمظاهر الحياة؛ فتمثل شهادته نحو الذات / الإنسان / الأرض / الوطن، ميثاقا لا تقوض أركان علاقته بالواقع أي مؤثرات خارجية مسجلة حتى ولو كانت تاريخا يؤرخه مؤرخ؛ فالمبدع الصادق هو الأقرب لرصد علاقة مجتمعه بتاريخه في حقبته الزمنية / حياته التي يعيشها ويبدع من خلالها.
يقول نجيب محفوظ في أحد حواراته عن علاقته بالقصة القصيرة، وسط طوفان أعماله الروائية الضخمة وتحولاتها المدهشة، إبان إتمامه لرواية "المرايا" "1971 /1972"، مع تتابع مجموعاته القصصية: "صدقني.. أنني أبدأ القصة القصيرة الآن دون أن أعرف كيف تنتهي.. لكنني لا أستطيع أن أغلق على نفسي الباب عاما كاملا كي أكتب رواية، منصرفا عما يحدث في الواقع وفي نفسي.. الانفعال اليومي عذابي وعزائي.. لهذا لا أستطيع تثبيت ما في الخارج وإطالة النظر إليه" "1".
من هذا المنطلق، منطلق القصة كمعبر آن عن العذاب والعزاء على حد السواء، لفعاليات الحياة والانفعال بمنغصاتها، يبدو الإبداع القصصي لنجيب محفوظ، رافدا هاما من روافد إبداعه لا يقل بأي حال من الأحوال عن أعماله الروائية الخالدة التي حفرت للأدب العربي مسارا، وأسست له علامات بارزة في ذاكرة الأدب العالمي وحاضره.
فنجيب محفوظ الذي قدم، أول ما قدم في عطائه الأدبي غير المحدود، روايته التاريخية "مصر القديمة" "1932"، والتي نال عنها جائزة "قوت القلوب الدمرداشية"، كتب القصة القصيرة ولازمها فترة طويلة متصلة امتدت من عام 1932 إلى عام 1946، أنجز فيها مجموعته القصصية البكر "همس الجنون"، والتي بلغ عدد طبعاتها عشر طبعات حتى العام 1979! لتشكل عطاء قصصيا حقيقيا امتدت معاناته طيلة الإثني عشر عاما مع القصة القصيرة، عرفه فيها الواقع الأدبي قاصا مجيدا، على صفحات مجلات "المجلة الجديدة"، و"الرواية"، و"الرسالة" و"الساعة""2".
هذا التأصيل المكافح، الذي انتقل به ومنه، مبدعنا الكبير إلى مرحلة هامة ومفصلية من مراحل مسيرة الرواية العربية حيث انتقل بها من نقلات واسعة غير مسبوقة، بعد مرحلته التاريخية "رادوبيس ـ كفاح طيبة ـ عبث الأقدار" مرورا بالمرحلة الواقعية الاجتماعية، وصولا إلى روايته المغايرة "اللص والكلاب" وما تمثله من نقلة فنية فلسفية هائلة في أعماله الروائية، والرواية العربية بصفة عامة؛ لتتجاور بعد ذلك أعماله القصصية مع تلك الروائية، التي قال عنها نجيب محفوظ نفسه ضمنيا كما أسلفنا، أنها ليست كافية لإدرار هذا الزخم النفسي والوجداني مع سرعة الأحداث في الواقع المحيط، مما يعكس تأثر الأديب والكاتب بما يدور حوله، وينفي صلته بمجتمعه وبيئته وهموم وشجون مواطنيه ووطنه، فضلا عن ذاته.
وبما يؤكد على كون المبدع ليس كائنا منفصلا أو منبتا عما حوله، وهو بلا شك تأكيد على أهمية دور الكاتب في مجتمعه واختلاطه بهمومه التي تنطلق من همومه الذاتية، لا قوقعته وعزلته، وممارسة إبداعه من موقع الأعزل المنطوي، بعيدا عن بؤرة صراعات المجتمع ومشكلاته ؛ فالخيال وحده لا يصنع إبداعا أو فنا.
إلا أن لافتات التميز والظهور اللافت، قد أعطت وجهها المضيء لأعمال نجيب محفوظ الروائية الفذة التي لا خلاف حولها، رغم توفر إبداعه القصصي على أسباب متعددة للنبوغ والسطوع؛ فنبض مجموعاته القصصية بداية من مجموعة "دنيا الله"، التي صدرت طبعتها الأولى 1962، وبلغت عدد طبعاتها ست طبعات حتى عام 1987، ونشرت قصصها بالكامل بجريدة الأهرام المصرية عامي 1961-1962 "3".
جاء هذا النبض معبرا عن اكتمال الرؤية الإبداعية، وتكاملها مع ما يواصل العزف عليه من تنويعات روائية مبدعة، ظلت ترتقي إلى مستويات من الفكر الجديد والتأصيل معا، كما جاء متسقا مع ما يدور حوله من أحداث تحيط بالمجتمع وأخطار تحيق به؛ فمع روايات مرحلة ما قبل وما بعد النكسة ظهرت مجموعات "خمّارة القط الأسود" 1969، "تحت المظلة" 1969، "حكاية بلا بداية ولا نهاية"1971، "شهر العسل"1971، "الجريمة" 1973، بحسها جميعا المتسق مع روايات نفس المرحلة، النفسي والمادي، والمكمل لرؤيتها على المستويين الاجتماعي والعام.
كذلك أتت باقي المجموعات لتساير نبض إبداع نجيب محفوظ المتأصل بقيمة التصاقه بهموم وقضايا الوطن، وتمكنه ببراعة التوازن بين تأثره المتفاعل مع واقعه المحيط، والمنفعل به، والقدرة الهائلة على التعبير؛ ليصوغ لنا مجموعة من النصوص القصصية المعبرة، المرتبطة بمجموعات تحقق له فيها النبوغ القصصي على نحو من تطويع المادة القصصية، وأسلوب القص المتنوع بين اعتماده على استخدام الحوارات المتصلة المعبرة عن دراما الموقف القصصي، في الكثير من النصوص مثل نص "روبابيكيا ـ مجموعة حكاية بلا بداية ولا نهاية"، أوحوارات تشارك السرد بصورة شبه متكافئة، أوسرد تقطعه الحوارات الدافعة لحركة النص، وهكذا؛ لتتماهى أساليب عدة في بناء / معمار متون نصوصه القادرة على التلون، قدر عطائها، لإبراز الرؤية العامة كإطار للنص، وكذا الرؤية الخاصة كمدلولات على ما يريد طرحه من قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية ومعالجتها.
لا شك هي براعة الروائي في شخص المبدع / الرمز الكبير، الذي ابتلع بريق أعماله الروائية الكثير من الضوء الواجب تسليطه على نصوصه القصصية المثيرة للدهشة والعجب، وكما يقول نجيب محفوظ في معرض سؤاله، في أحد حواراته، حول ظلم قيمته ككاتب قصة بارع، لحساب تفوقه في كتابة الرواية: "العادة هكذا..
إذا اشتهر الإنسان بنوع معين، لا يرد ذكره إلا في هذا المجال وحده مهما كانت له قيمة شيء آخر.. فسيظل يوسف إدريس عند الناس كاتب قصة قصيرة مهما كتب من روايات.. وأنا لا أعتقد أن الظلم يقع عليّ بقدر ما يقع على الأدب ذاته، والمضحك والغريب أن قصصي القصيرة منتشرة بين القراء أكثر من كتاب القصة الفعليين، كل مجموعة طبعت خمس مرات، وكل طبعة بالآلاف. على أية حال إذا كان النقد قد ظلمني في هذا المجال، فقد عوضني القراء" "4".
فهو بهذا الرهان الرابح يكون قد تلمس جوهر الحقيقة، وجوهر القيمة الأدبية الساطعة، التي تسبغ على المبدع حقه ولا تغمطه؛ حيث أن الفيصل دوما والرهان الحقيقي للمبدع هو القارئ، وأي قارئ؟
لابد أن يكون قارئا محبا متابعا شغوفا، لا تفوته درر الإبداع ولا مذاقه، ولا متعة البحث عنها. لكن لا شك في أن للإعلام دور هام لا يمكن إغفاله. وكما يقول في موضع آخر من حواراته الثرية، منتقدا بحسه الساخر تلك النظرة النقدية/الإعلامية المحدودة الضيقة لتجنيس النوع الأدبي، دون إطلاقه على حرية المبدع في التنقل بين أنواع الكتابات الأدبية، وإلزامه، قسرا، بنوع لا يعرف إلا به، مهما أوتي من أسباب التفوق والإبداع اللافتين، الدافعين لحركة الإبداع بصورة عامة: "... كأن الأمر خانات توضع فيها بطاقات التوصيفات وملفات الوظائف واللوائح، وأنها عملية تنطبق عليها تداعيات الإشاعة، فمن السهل أن تطلق الإشاعة، ويتسع مداها ولكن من الصعب أن توقفها" "5".
لكن الأمر لا يعدو كونه غمط لحق، تستنفر على رده تلك القراءات المتواصلة الواعية التي تحاول استجلاب الغالي والنفيس من إبداعات محفوظ القصصية، التي لا يجب توقف البحث فيها، انطلاقا من كونها خطوط متوازية مع خطوط إبداعه الروائي الفارق، بنظرة تكاملية عميقة؛ فمن الحياة وتشعباتها ونهمها، وإليها تنطلق كتاباته القصصية لتعانق دقائقها وساعاتها وأيامها، عناقا أدبيا راصدا، متغلغلا، حالما، رافضا، مستنكرا، آملا في واقع جديد / حياة موازية، تتغير دائما لتحريك برك الحياة الراكدة، تأصيلا لرسالة الأديب المبدع الفنان، لدفع حركة الفكر ومخيلة الإبداع لدى متذوقه وقارئه ومبدعه على حد السواء.
ولتتخذ الحياة صورها المتعددة على مدار قصصه القصيرة التي تخطت حاجز المائتي قصة قصيرة، تنوعت مضامينها واختلفت، لتصب في مجرى نهر الحياة، وتساير إيقاعها من منظورها الخاص والعام، المادي والمعنوي، الرمزي والفلسفي على حد السواء.
الهوامش:
"1" روايات الهلال ـ العدد 479 ـ عدد خاص بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للآداب 1988 ـ ص 8
"2" بنية القصة القصيرة عند نجيب محفوظ ـ محمد السيد محمد إبراهيم ـ كتابات نقدية ـ قصور الثقافة 2004
"3" المرجع السابق .. ص 35
"4" هكذا تكلم نجيب محفوظ " محاورات " ـ عبد العال الحمامصي ـ قصور الثقافة ـ طبعة ثانية 2006
"5" المرجع السابق .. ص 160
محمد عطية محمود
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد