سرافيس دمشق تحيدعن الدولةالعلمانيةوتمضي على خط«الصراط المستقيم»!
السرفيس حجرة استماع. يتسع لأربعة عشر راكباً، وصغير لدرجة لا تستطيع معها الشرود بسمعك. هو أحد أغراض القدر، تدخله وتسلم نفسك. سيد السرفيس سائقه. إذا كان مزاجه رائقاً، يضبط الراديو على موجة إذاعية هادئة نسبياً، بحسب ذوقه الموسيقي. ويتدرج الخيار بين فيروز وأغاني الطرب الساحلي. هذه الوسيلة هي مملكة صاحبها، وهو الآمر الناهي ضمن حدودها. ليست وسيلة نقل عامة، إذاً. وقد يجد الركاب أنفسهم، ذات صباح، مشروع فرقة دبكة. وأحياناً، هم مقاتلون على جبهة حرب، أو »أخوة« يتشاكون في برنامج »أخي المواطن، سيدي المسؤول« الصباحي الأزلي.
يستطيع سائق السرفيس أن يتوقف ويجبر راكباً على الترجل، ويمكنه أن يلمّ أربعة ركاب إضافيين، يقرفصون في جوار الباب. قد تشير له، فيتوقف. تتفقد المقاعد بنظرة متفحصة، تتأكد من أن المقعد الأخير يحوي ثلاثة ركاب. تكتشف بعد أقل من ١٥ ثانية أنه لا يحوي مكاناً شاغراً، فتستغرب لماذا توقف أصلاً. عندها، يكون السائق قد ضاق ببلادتك، فيقلّع متأففاً من تكبرك بعدما تكرّم عليك بمشوار القرفصاء. نيته سليمة، هو لا يريدك أن تنتظر وقتاً أطول.
هذا سيناريو يحدث يومياً في دمشــق، وبشــكل كارثي في ساعة انصراف الموظفين. صار معتاداً، وقد يجد الكثيرون في التندّر عليه مزاحاً ثقيلاً. صار واقعاً يمكن التأسيس عليه، بدءاً من طقوس إيصال الأجرة للسائق وإرجاع الباقي، عبر اللكز التتابعي من راكب إلى آخر، وصولاً إلى الانحناء المقدس في النزول والصعود، والإفساح لزميل كي يجلس، بحركة أتوماتيكية تركّب قطع »البازل« في مشهد ينصهر. إنه الانحشار وتدابيره. وقبل ذلك كله، وفي أثنائه، هناك القوافل المبعثرة على جنبات الطريق تنتظر، إنها التلويحات اليائسة للأجساد المتعبة. وهو التدافع للفوز بالمقاعد الشاغرة، بين موقف وآخر. سباق العشرة أمتار الذي يحل بين إيحاء السرفيس بالتوقف وبين توقفه الفعلي، سباق يخوضه المنتظرون على المواقف ملتصقين أو متشبثين بالباب. هذا واقع قد يجد المتأمل فيه خصوبة مدهشة للفن! ويتساءل أين هم مصممو الرقص المعاصر، السوريون، من لوحاته.
ولأن السرفيس مملكة معاصرة ومصغرة، فهي تجد تصاريفها الخاصة في مماشاة العصر.
منذ أكثر من سنة، غيرت سرافيس كثيرة خط سيرها، وهو أمر يخالف عليه قانون السير، ويتجنبه ويخشاه عادة السائقون. صارت سرافيس كثيرة تعمل على خط »الصراط المستقيم«. والآن، يجد ركاب السرفيس أنفسهم مشاريع مؤمـــنين صالحين، فموجة المد الديني ضربت. صباحاً، مساءً، في الظهيرة أو في السهرة، بتَّ الهدف السهل للدعاة الجدد. حجرة الاستماع صارت أشبه بـ»حلقة الذكر«. هناك داعية أشهر من غيره، يقلده آخرون. خطبه، التي تبثها قنوات وإذاعات في أيام رمضان، أو الأعياد، صارت موضة دارجة في محال بيع التسجيلات الدينية التي ارتفع سهمها.
يناقش الداعية الشيخ كافة تفاصيل الحياة الدنيا والآخرة. عند سؤال المولعين به، من السائقين حصراً، يخبرونك عن حديثه القريب إليهم والمنحاز إلى لغتهم البسيطة. يقولون ذلك دائماً مستخدمين ضمير الغائب: »الناس ليسوا مثل بعضهم، وهناك شريحة كبيرة ثقافتهم بسيطة، وإذا تحدثت إليهم بفصاحة الخطباء، لن يفهموا ولن يسمعوا«. المهم أن الداعية لديه برنامج عمل حافل. يجد في كل شيء موضوعاً للحديث والنصح. حتى لو لم يستثمر أياً من »القضايا الساخنة«، يستطيع لفظ آخر أنفاسه وهو لا يزال على رأس مهنته، وشرطك أنه يبقى مفعماً بالمعاصرة. من شؤون الدين التكتيكية إلى تلك الاستراتيجية، له رأيه.
آخر مرة سمعته، مجبراً في السرفيس، كان يتحدث عن المؤمن القوي. وللأمانة، فإن له أسلوباً شيقاً، إذ يجد عنواناً جذاباً ويكمل بمجادلة يكتنفها التهكم والسخرية، وتهدأ لهجته وترزن عندما يبدأ تصويباته. يتحدث بالفصحى، وينتقل إلى العامية وقتما يريد طرح مثال عن أمور شائعة يجدها مغلوطة. يسخر من شيوع ارتباط شدة الإيمان بوهن الجسد، ولأن المؤمن القوي أحب إلى الله، كما يقول، فالأفضل أن يبني المؤمن جسده ويقويه بالرياضة وكمال الجسد. وكلما كان أقوى، كلما أحبه الله أكثر. ولمَ لا يصير لكل جامع صالة رياضية ملحقة به؟! لكن، ماذا بالنسبة إلى المؤمنة القوية؟ كيف تحل حكاية القوة معها؟ لم يتطرق الداعية لهذا الشرك.
ينتشر هذا الحديث، أو هذه الموضة، في خطوط سرافيس أكثر من غيرها. وبات يمكن، بالاستناد عليه، وعلى طبيعة انتشاره، تمييز المناطق المحافظة. يمكن تسمية خطوط محددة تختص بالعمل على خط »الصراط المستقيم«، وسائقوها ليسوا أقل من دعاة. لم يعد السائق يتحرج من مفاتحتك بالحديث حول طريقة لباسك أو تسريحة شعرك، طوله وقصره. ويمكنه أن يفبرك من تعليق راكب آخر، أو من حادثة ما في الطريق، سياقاً لأدعيته. هو الصورة المتلفزة للحديث الذي يبثه مذياع سرفيسه. مهما كان السؤال وقحاً، يطرحه باستئذانك ومن دون انتظار موافقتك، وبابتسامة تعلو ملامح يعتصرها لتبدو متسامحة. يسألك، ومهما أمعنت في ضبط النفس، وأعطيت جواباً مانعاً لأي استطرادات، ففي رأسه حديث يريد قوله. في رأسه مهمة، ورضى لا يتحقق إلا بنصحك ليشبه مثله الأعلى. وإن جادلته، يسمع ويقول إنه يتفهمك، لكنه لا يحيد عن إنهاء حديثه بدعاء »الله يهديك«، بغض النظر عن ديانتك أو إلحادك.
هو، بطريقة دبلوماسية معاصرة، ينصّب نفسه حكماً ويقول لك إنك »ضالّ«.
لا مجال للهرب من شرك »الدعاة«. وفي سيارات الأجرة، الأمر أعتى، مع امتياز أن السائق ينفرد بك ليكيــل النصــائح. لكن يبقى في السرفيس حيز للمناورة والابتعـاد إلى المــقاعد الخلفية. مناورة السائق، وليس الداعية الذي لا مجال لتفادي سماعه. ولمَ لا تسمعه؟ أليس معاصراً، وحديثه يشبه الحديث اليومي؟ أليس متسامحاً، فهو يسمع قبل أن يطلق حكمه المبتوت به سلفاً!
مشروعك في مكان آخر، فلتبني مؤسسة الدين مشروعها بعيداً عنك! ألست في دولة علمانية؟ لكن لا. الداعية، وتلاميذه، هم النسخة المعاصرة من قضية قديمة. ويفيده الانفراد بك وملاحقتك أينما ذهبت، إذا لم يكن لهدايتك، فعلى الأقل لتذكيرك بأنه موجود، وبقوة. فهو جزء من مشروع وحيد، ومناورة جديدة على الصراط المستقيم.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
التعليقات
كإنك بقلبي ...
الدين المنجي
ماعاد نخلص
للـ أخ "عاقل"
يعني أنا كتير
ليش مين قال أنو
علمانية
الشام
إذا كنا نتكلم
العلمانية
يا جماعة،
إضافة تعليق جديد