حنا مينه: ملاحظات بسيطة ونافلة

14-05-2011

حنا مينه: ملاحظات بسيطة ونافلة

وضعت إحدى المجلات السورية الخاصة، عدداً من القصص القصيرة التي تزمع أن تنشرها في ملحقها الثقافي، طالبة مني أن أكتب مقدمة لهذه القصص أو أبدي رأياً في القصة القصيرة في سورية، ومدى تطورها،.

على أيدي الشباب من القصاصين السوريين، الذين يطمحون إلى الارتقاء بهذا الفن الجميل والصعب، بعد أن وضعت كتاباً حول القصة ودلالتها الفكرية كان موضع حفاوة وتقدير. ‏

وقد آثرت بهذه المناسبة أن أقدم رأياً عاماً يتعلق بهذه المجموعة من القصص ويتعداها إلى القصة بشكل عام مبدياً ملاحظات بسيطة هي في المحصلة اضاءة على نحو ما، على مفهوم القص قد تضيف جديداً وتشكل مدخلاً للقارئ إلى هذا العالم القصصي الذي يبتغى منه التعريف والتشجيع في آن.. وبعد الاطلاع على هذه الباقة من القصص وجدت أنها نتاجات مختلفة متنوعة فيها تطلعات مشروعة إلى امتلاك ناصية كتابة القصة، إذا ما أقبل كتابها الشباب على التهام كل مايقع بين أيديهم من قصص عربية وعالمية، وإلى التمرس بكتابتها، بعد دراسة دقيقة عميقة، متأنية لكل المفاهيم والنظريات التي صارت متوفرة لهم سواء كانت موضوعة أو مترجمة مادام فن القصة القصيرة والقصيرة جداً في أيامنا هذه فناً صعباً تتكثف فيه الرؤية ويتوتر الخط الواحد الناظم للسياق إلى درجة تجعل القارئ يعيش اللحظة الحاسمة الحلوة أو المرة عيشا فيه مشاركة وجدانية، تبلغ أحياناً أن يغمض عينيه، ويمضي مع خياله إلى آفاق بعيدة أو يفعل ما فعله مكسيم غوركي بعد اطلاعه على مجموعة قصص لتشيكوف حيث بكى غوركي تأثراً وكاد كما يقول أن يطلق امرأته التي لا تشاركه الحمية نفسها والانفعال ذاته بعد قراءة تشيكوف هذا المعلم الأعظم في فن القصة والذي لم يبلغ أحد ما بلغه، سوى التماعات قليلة متفرقة في وسعنا أن نجد لها شبيها بما كتبه قاصنا العربي الكبير المرحوم يوسف ادريس. ‏

لماذا أعلق هذه الأهمية على المشاركة الماتعة الوجدانية لما نقرأ من قصص ذات سوية فنية عالية.. في الجواب أقول: إن متعة المشاركة هي التي تحتفظ بحيوية الدلالات الحميمية بين المؤدي والمتلقي وبين القاص المبدع إلى درجة الاعجاز، والقارئ الذي يعيد انتاج ابداعية القص، من خلال ايماء هو جوهر القصة القصيرة هذا الذي يقول كل شيء وكأنه لا يقول شيئاً بسبب من أنه يوحي، يستولي، يستحوذ على المشاعر ويرتهنها لمشيئة الخالق الأدبي، همه أن يجعل الانسان يولد ميلاداً داخلياً جديداً دون أن يتدخل هو المؤلف في أي شأن أو يختبئ وراء أي سطر لأنه موجود في قصته وغير موجود في وقت واحد. ‏

إن اللقطة المفردة، المأخوذة من تجربة مجبولة بالمعاناة، تشكل مادة مطاوعة للقص حين الموهبة مصقولة بالممارسة الطويلة تحدد النجاح أو الفشل كما تحدد درجة السوية الفنية وفيها سر الابداع الذي يحس ولا يدرك. ‏

إنما حذار! فليس كل خاطرة، مهما اجتهدنا في المعالجة، صالحة لأن تكون حدثاً قصصياً يأخذنا إليه، يضعنا في جوه، يبهرنا بالنور الساطع المتولد من انفجار اللحظة المأزومة عماد القصة القصيرة ومحورها على السواء. ‏

وفي حدود رأيي ان البيئة هي الخلية الأولى التي تمد القاص وكذلك الروائي بالحدث الملائم وبمقدار ما نتعمق البيئة التي نعيش فيها يصبح الحدث المأخوذ منها حدثاً قابلاً لأن نشتغل عليه بنجاح. ‏

ولأن ذلك كذلك فإن علينا أن نعرف بيئتنا، بلدنا، وطننا، عصرنا، معرفة جيدة قائمة على العيش العميق الأصيل المعمد بدقة الملاحظة وبالمعاناة الكاوية الرائعة، فالعلم المستمد من الكتب لا يغني عن العلم الذي مصدره الناس وحين نتعلم نمتلك ذاتنا الذات الخلاقة بالموهبة، التي تختزن ثقافة شمولية، ثقافة هي إلى زيادة لا إلى نقصان لأننا بالضرورة مطالبون بأن نكتسب مع كل يوم جديد تجربة جديدة عبر القراءة الجادة والفاعلية المجدة وهذه التجربة هي نتاج ذهن وسلوك ونتاج ملاحظة معمقة ومستمرة لكن المسألة الأساس تبقى أن نمتلك أدواتنا وشجاعتنا، وأن نعيش زمننا بامتلاء، وعصرنا ببصيرة وأن نؤمن بالتلازم بين السلوك والابداع فالمسافة بين القول والفعل تظل هوة لا تردم إلا بالفعل وفي الامتحان الصعب للتطابق بين ما نقول وما نعمل كثيراً ما يكون سقوطنا فاجعاً ما دمنا كبشر عندما نواجه بالمصاعب يوضع تفكيرنا الرغبي على محك التجربة هذه التي هابها ورفضها أحياناً حتى بعض الذين نذروا حياتهم للفداء، باعتباره طريقاً للخلاص، لأنهم عجزوا عن مواجهتها أو تحملها. ‏

ان التجربة بهذا المعنى تغدو محك الاخلاص للأفكار التي نحملها قبلها جميعاً أبطال وبعدها قد تتغير الصورة فاجتياز المعبر البارد، الصعب، بين ما كنا نقوله وما علينا أن نفعله تطبيقاً له يقتضي منا التضحية وهذه في شرعة الجهاد المنتهى الذي يتكرم به المبتدأ فيكون أو لا يكون اطلاقاً. ‏

انما التضحية ذات قوس واسع يبدأ بالأشياء البسيطة ويتدرج وليست معانقة الشهادة في ختامه هي التي تحدد أقسى ما في الطريق وأشد ما نلقى على جانبيه من أذى فالموت ذروة الألم وسبيل الخلاص منه ويظل احتمال الألم على مسافة الطريق كلها هو المعيار للثبات على القضية العادلة التي يتصدى المرء لخدمتها والدفاع عنها. ‏

وما هو الألم الذي ينبت شوكاً على طريق الجهاد؟ ان الحرمان هنا هو الكلمة ذات الطاقة التعبيرية الشمولية، لا من حيث هي الكلمة، فعل تقبل للشدائد بغية الارتفاع عليها بل من حيث تنوع مدلولها الذي هو على مداه تلخيص لحكاية كبرياء الصبر على جميع التحديات التي تعترض الانسان في مسيرته الطويلة. ‏

لقد كتب على الذين يكافحون بالأدب، لأجل العدالة أن يتقبلوا كأس الخل وان يبذلوا كل قواهم لانتاج أدب عربي يضاهي الأدب العالمي كي يسفر لنا عند غيرنا كما يسفر أدب الغير له عندنا. ‏

انني ألح على فهم روح العصر لأن في فهمه وحده انقاذاً للانسان من ضيق الأفق، الذي يبعث على الملل، وكتابة القصة أو أي جنس أدبي يتعارض والملل، ويتطلب الجهد والاجتهاد الدائمين ومن المفروغ منه أن فهم البيئة، الطبيعة، الانسانية، انطلاقاً من فهم الوطن هو الذي يأتي عن طريق المعرفة ولا يغتني إلا بالممارسة ويبقى العمل على أساس الرؤية الواضحة للبيئة، للوطن، للعالم، هو الذي يحدد سعينا لانتاج ابداع لا يقل تجلياً فنياً عن الابداعات العالمية. ‏

تلك هي ملاحظاتي البسيطة، وأغلب الظن أنها نافلة! ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...