الجمهور السوري يحتفي بصوت سعاد ماسي في دار الأوبرا
دخلت المغنية الجزائرية سعاد ماسي إلى مسرح دار الأوبرا السوريّة متمهلة. إنه اللقاء الأول لها مع المشرق العربي عموماً، والسوري خصوصاً. استقرت المغنية المقيمة في فرنسا، على المسرح وكادت ألا تلفت الأنظار إليها، لولا أن بعض من كان يعرفها صفّق لظهورها، في الحفلة التي أقيمت أول أمس، برعاية الاتحاد الأوروبي وإذاعة «مونتي كارلو الدولية». شابة في مقتبل العمر، ممشوقة، ترتدي رداء أسود وقوراً، وتنسج حولها هالة من الهدوء المعدي لكل من ينظر اليها. تموضع الآلات والعازفين الأربعة كان هيأ لها مكانها في الوسط. عن يمينها عازف الغيتار، وفي الطرفين عازفا الإيقاع الشرقي والعود، وخلفهم، على مصطبة أعلى قليلاً، استقر عازف «الدرامز» مع مجموعته الإيقاعية. كان تشكيلاً، على قلّة عناصره، ملأ مسرح الدار الكبير، والذي يخفق في شغله أحياناً قوس العازفين، أو فرقة موسيقية كاملة.
الجميع أخذوا أماكنهم، ولم يكن من حاجة لأي تأخير أو هرج يسبق البدء. وكأن ملائكة السكينة حلّت على الجمهور، فذهب بعيداً في حالة الإصغاء. توحد على شكل أذن هائلة حريصة ألا يفوتها نغم واحد، أو كلمة شجيّة، مع أن معظم الكلام لم يكن مفهوماً، إذ توزّع بين اللهجة الجزائرية والفرنسية أحياناً.
كانت ماسي تسأل، قبل تقديم إحدى أغنياتها، إن كانوا يستطيعون مشاركتها الغناء. سألت بتردد. وطالعها صوتهم مؤكداً أن «بالطبع».
ومن ينسى ذلك الصوت الطافح بالحنين، والطالع في خلفية مشهد من فيلم «طيارة من ورق» لرندة الشهال. كان صوت سعاد ماسي في أغنيتها الأثيرة «الراوي». وهو أيضاً عنوان اسطوانتها الأولى. وكان لافتاً أن تسر بأن تلك الأغنية كتبتها بنفسها. ليس هذا وحده المؤشر على الإيمان الذي يكتنف الفن الذي تتبناه ماسي. أغنية الفتاة المراهقة صارت عنواناً لاسطوانة لقيت روجاً لافتاً لدى الجمهور والنقاد. ولم تكن رندة الشهال الوحيدة التي اختارت أغنية «الراوي»، إذ إن فيلم «إن شاء الله الأحد» الجزائري - الفرنسي، وضعها أيضاً لتصاحب «جنريك» نهايته.
أول ظهور لافت لها كان في مهرجان «المرأة الجزائرية» في باريس، بعده استقرت في فرنسا، وسجلت أول ألبوماتها، تبعه ألبوم «DEB»، وتلاه ألبوم ثالث عام 2005 عنوانه «مسك الليل».
هذه الحفاوة التي استقبلت بها تجربة ماسي لها مبرراتها. أخرج المغرب العربي العديد من الأصوات الفرنكوفونية، وأصبحت تقليداً ينسخه الآخرون. وتلك الأصوات اعتمدت بشكل جذري على الإيقاعات، حتى بات الصوت إيقاعاً فحسب. وهو ما يبرر التعاون مع تلك الأصوات، في الأغاني العربية (الشاب مامي والشاب خالد)، تماماً كما يحصل مع مغني الراب أو الفلامنكو. تجربة ماسي يبدو فيها الإصرار واضحاً على تحقيق تمايز عن الأصوات الفرنكوفونية. هي تحتفي بالكلام غناء، ولا تجيّره، أو تقسره، لمصلحة الإيقاع. تشديد الحروف، الذي يسم لهجة المغرب العربي عموماً، يغدو معها مساحة مؤاتية لإبراز قدرات الصوت، دفئه وإحساسه المرهف، وكذا قوة الحنجرة. هكذا صوت فرض حالة تلقي نادرة في الجمهور. فعادة لا ينتظر الأخير إيماءة حتى يتفاعل بالتصفيق مع الإيقاع إن احتدم، لكنه كان بحاجة إلى إشارة من المغنية هذه المرة، وكان حذراً من إقلاق انسياب اللحن والصوت في المغنى. ربما يظن أحدهم في الأمر فتوراً، ولكنه سيدرك، في نهاية الحفل، أن ذلك غير وارد إطلاقاً. إنها المرة الأولى التي يقف فيها الجمهور في الأوبرا السورية، ولا يتوقف عن التصفيق لدقائق طويلة، حتى بعد أن يغادر العازفون والمغنية إلى الكواليس. وكان من شأن هذا الإصرار أن أعاد المغادرين إلى آلاتهم، وردت ماسي على لفتة الجمهور بأخرى لا تقل تقديراً. لم تتصرف، على جري عادة معظم المغنين. لم تتلقَ الأمر ببداهة، أي: يصفق الجمهور كثيراً فيعود المغني ويقدم أغنية تكون عادة مكررة. عادت وقدمت أغاني عدة وقالت إن بودها أن تبقى حتى الخامسة صباحاً لو كان الظرف والوقت يسمحان. الصدق الذي في كلماتها، كما غناؤها، يجعلان ما تقوله لا ينحو إلى المبالغة، مع أن هيئته تبدو كذلك لوهلة أولى لا تعود لتطالع الذهن ثانية، طالما أن لدى الأذن ما يشغل كامل الإحساس.
وسيم ابراهيم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد