ميشيل كيلو حراً يعني سوريا أكثر قوة وعافية
درجت العادة عند استنكار اعتقال أو اضطهاد كاتب أو مثقف أو إعلامي على القول «ندين هذا العمل بالرغم من اختلافنا في الرأي مع...». الأجدى أن يقال «ندين هذا العمل بسبب اختلافنا في الرأي...». الإدانة تكون أقوى وتكسب معنى آخر عندما تتناول موقفاً مغايراً ومختلفاً، وتدافع عن حقه في التعبير عن نفسه، وفي احتلال مساحته في الحيّز العام.
ليست هذه المقدمة مدخلاً لاستنكار الاعتقال المتمادي لميشال كيلو في السجون السورية. لا مجال، هنا، لا لـ«بسبب اختلافنا» ولا لـ«بالرغم من اختلافنا». لا مجال إلا للحديث عن تباينات لم تلغ، مرة، الإدراك بأن الموقع واحد ومتعدد في آن واحد. ربما كانت التباينات ناجمة عن الأولويات المتفاوتة في البرامج المفترضة في كل من سوريا ولبنان.
لقد جرى استخدامٌ ذرائعيٌ وانتهازي في لبنان للمعارضة السورية وبصورة خاصة للطيف اليساري والقومي والديموقراطي منها. وقضى هذا الاستخدام، من جانب لبنانيين، بالتركيز على نقاط تقاطع، والتناسي الكامل لمنطلقات هذه المعارضة ولأهدافها البعيدة. لا بل وصل الأمر أحياناً إلى حد استخدامها في السجالات اللبنانية الداخلية لتغليب طرح على طرح وبالضبط لتغليب توجّه لبنانوي يكنّ عداءً لمن يسمّيه «السوري» ويستدرك، أحياناً، فيتحدث عن «النظام السوري» مدركاً أن الضرر قد وقع.
لقد جرى في هذا السياق، مثلاً، تحويل رياض الترك إلى «أيقونة». ليس رياض الترك صاحب التجربة الرائدة في إعادة زرع الأفكار الاشتراكية في التربة القومية العربية بل رياض الترك الحامل لأيديولوجيا حقوق الإنسان والمصيب دوماً مهما قال بمجرد أنه كان معتقلاً من دون وجه حق.
مرّت العلاقات اللبنانية ــ السورية، على المستويين الرسمي والشعبي (إلى حد ما) بفترات عصيبة. ولا تزال. ويقتضي الإنصاف القول إن معارضين سوريين لم يصادفوا مجالاً جدياً في غير لبنان للتعبير عن رأيهم فوجدوا أنفسهم مسوقين إلى السكوت عن تحكّم بخطابهم ومقاصدهم، وأصبحوا، من دون رغبة منهم، رافداً في تيار لبناني نعلم جيداً أنه ليس وليّ أمره، وأنه بيدق في استراتيجيات تتجاوزه وتدمج مطالب له قد تكون مشروعة في توجّهات يصعب على الشطر الأعظم من معارضة «الداخل» السورية التعرّف على نفسها فيه. إن التيار اللبناني المشار إليه وجد ضالته، أخيراً، في معارضة «الخارج» فبات قادراً على أن يجمع بين التطلّب الوطني والديموقراطي لـ«ربيع دمشق» وبين قامع الربيع نفسه.
نعم، لقد سقط معارضون سوريون، لفترة، في مصيدة الشق القابل للإبهار الذي رفعت لواءه بعض قوى «14 آذار». إلا أن المعرفة الشخصية الوثيقة بميشال كيلو وبالكثيرين غيره تسمح بالجزم بأن لحظة الالتقاء هذه كانت قسرية وما كان لها أن تدوم.
لا يمكن فهم «إعلان بيروت ــ دمشق وإعلان دمشق ــ بيروت» إلا في هذا السياق. أو، على الأقل، لا يمكن فهم الدور الذي لعبه ميشال كيلو في إنتاجه إلا بصفته دوراً داعياً إلى استعادة التوازن وإلى مغادرة موقع اضطراري إلى موقع يجري اختياره. ولعل الدليل الأبرز على ذلك ليس مضمون الإعلان، على ثُغره الكثيرة، بل أسماء الموقّعين من الجانب اللبناني على الأقل. إنهم كتلة هجينة. بعضهم من هو قادر على قراءة يسارية قومية ديموقراطية للإعلان، ومن هو راغب في دفع مضامين فيه إلى الأمام. وبعضهم الآخر من هو غارق حتى الأذنين في مستنقع العداء شبه العنصري لسوريا وللسوريين ولقسم لا بأس به من الشعب اللبناني.
لا يجوز لهذه الحالة الملتبسة إلا أن يُنظر إليها في ديناميتها. وهي دينامية مغادرة من موقع «آذاري» إلى موقع متلهّف لاستكشاف أرضية جديدة، أرضية لا تغض النظر عن المسؤوليات المشتركة للتدهور في العلاقات اللبنانية ــ السورية ولكنها تستشرف أفقاً آخر لها.
يمكن التأكيد أن ميشال كيلو كان قوة دفع في هذا الاتجاه. لذا فإن الاتهامات الموجّهة إليه لا أساس لها. حتى لو كان هناك، في دمشق، من يعتبر الاتهامات مسنودة فذلك لا يلغي إطلاقاً أن محاكمة عادلة يمكنها أن تحصل في ظل تمتع ميشال كيلو بحريته. في ظل محاكمة من هذا النوع يمكن استحضار مئات الشهود من الوطن العربي وسيكونون جميعاً في صف الدفاع عنه. ويمكن، منذ الآن، إيراد أسماء العشرات منهم وهم «فوق الشبهات» بمعايير الأيديولوجيا الرسمية المعلنة للسلطة في دمشق.
ميشال كيلو حراً يعني سوريا أكثر قوة وعافية. وحتى إذا وجد من يقول عكس ذلك فإنه لن يستطيع التهرّب من المعادلة الآتية: إن سوريا أكثر قوة وعافية تعني ميشال كيلو حراً.
جوزف سماحة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد