دعوا قبورهم بسلام
«حتى في الموت يمكن أن نتجاوز القانون!». بهذه العبارة بدأ (عماد. ع) الشاب (22 عاماً)يروي تجربته التي تقشعرّ لها الأبدان؛ فبعد وفاة والدته، تمَّ فتح القبر قبل مضي الفترة المحددة لفتحه!.. وليس هذا فحسب، بل يتحدَّث عماد عن انتهاك حرمة القبر، وضعف نفوس القائمين على المقابر.
يتابع عماد: «توفيت والدتي منذ عامين، وقمنا بدفنها في مقبرة باب الصغير. وبعد أقلّ من ثلاث سنوات توفي خالي أيضاً، فأراد أولاده دفنه في نفس القبر الذي دُفنت فيه أمي!. وأنا أعرف أنَّ الحكم الشرعي لهذا الأمر هو التحريم. وقانونياً يُمنع فتح القبر قبل مضي خمس سنوات على الوفاة الأولى!». وأضاف عماد: «في تلك الليلة ذهبنا إلى بيت خالي الفقيد، وأقنعني خالي الثاني بأن لا أرفض من جهتي؛ لأنَّ الجهات المعنية لن توافق على فتح القبر في كلتا الحالتين، سواء قبلت أم رفضت.. لكن أظهر لهم أنك قبلت، إرضاء لأولاد خالك.. فقبلت أنا على ضوء ذلك».
وقال عماد: «ذهبنا في اليوم التالي إلى مكتب دفن الموتى، وكتبت ورقة تضمّنت موافقتي على فتح القبر، ليقوم مجموعة من الخبراء بالكشف والاطلاع على الجثة.. وكنت متأكداً تماماً أنه لن تتمّ الموافقة على فتح القبر، بناءً على تأكيدات المسؤولين أنَّ هذا الأمر مستحيل!».
وتابع عماد: «في طريق عودتي إلى البيت، اتصل بي أحد المعنيين من مكتب دفن الموتى ليخبرني أنَّ علي أن أكون موجوداً لأنه سيتمّ فتح القبر، فكان هذا الوضع مثيراً للشك، فكيف تأتي الموافقة بعد الرفض؟!.. لا أحد يعلم!. لقد تمَّ فتح القبر، وهذه كانت الفاجعة الأكبر في حياتي».
إذا تمَّ التهاون في فتح القبر و«تطنيش» القانون، فهل يمكن أن يسمح مكتب دفن الموتى بالدفن ولا تزال الجثة السابقة غير متفسخة؟!.. يقول عماد: «رأيت شكل جثة أمي كما هي، حتى إنَّ أجزاء من الكفن الأبيض لم تكن قد فنيت بعد. وفي هذا الوقت لم أتمالك أعصابي وأُصبت بانهيار عصبي كامل».
إذا كان قبر والدة عماد حالة عابرة، فكم هي الحالات التي لم تلحظها الجهات المعنية ومرَّت مرور الكرام؟!، وبالتالي كم هي المرات التي انتهكت فيها حرمات قبور في دمشق بأكملها؟!.. حتى الأموات لم يسلموا من أيدي المتلاعبين!.. فهل يمكن تصوّر ما هي النتائج المحتملة لمثل هذه التلاعبات؟.. يتابع عماد: «كان قبر أمي أكثر مكان أحبّ زيارته، ولاسيما في أوقات حزني. ولكن منذ تلك الحادثة لم أدخل إلى المقبرة ولا حتى في الأعياد، لأنني أشعر أنَّ الشخص الذي كان موجوداً هنا لم يعد موجوداً بعد الآن، أو لأنَّ نظرتي تشوّهت بعد أن رأيت الجثة.. لا أعرف، ولكن ما أعرفه هو أني أسعى إلى السفر والهروب بعيداً لأنني أعاني من آلام نفسية، وربما يستطيع البعد أن يخلصني من معاناتي هذه وأستطيع أن أبدأ صفحة جديدة في حياتي».
حلّ لغز المشاكل السابقة يكمن لدى الجهة المشرفة مباشرة على المقابر.. بتحفظ، المهندس غسان معمولي مدير مكتب دفن الموتى في دمشق قال: «الكادر الإداري داخل مكتب دفن الموتى مهمته تغسيل وتكفين وتشييع الأموات إلى مثواهم الأخير الواقع ضمن حيّز مدينة دمشق وجزء من ريفها لمسافة 20 كم تقريباً. والمكتب مسؤول عن المقابر الواقعة ضمن الحيّز الجغرافي لمدينة دمشق، حيث يوجد في دمشق نحو 33 مقبرة متوزعة على كلّ المناطق السكنية، كما أنَّ عمر هذه المقابر من عمر سكان دمشق، بما أنَّ دمشق تعتبر أقدم عاصمة تاريخية».
أضاف معمولي: «أول مقبرة أنشئت في دمشق -والتي تعتبر أكبر المقابر حيث تحوي 33 ألف قبر- هي مقبرة باب الصغير، حيث أحدثها واقع الحاجة الذي كان يعيشه السكان في مدينة دمشق، حيث كان السكان يدفنون موتاهم خارج المنطقة المتاخمة لسور مدينة دمشق القديمة. ولكن عندما حدث توسع عمراني في أنحاء المدينة تمَّ إنشاء مقبرة في كلّ منطقة تقريباً. فهناك -على سبيل المثال- مقبرة كفرسوسة ومقبرة قاسيون...».
بيَّن معمولي أنه «سابقاً كان يتمّ الدفن دون ترقيم. وفي العام 1994 قامت محافظة دمشق بترقيم كافة المقابر الموجودة ضمن الحيّز الجغرافي لمدينة دمشق، وبلغ عدد القبور فيها نحو 225 ألف قبر، ثم أقامت المحافظة سجلات؛ فقامت بتسجيل القبور بأرقامها في السجلات الخاصة فيها.. واللجان التي قامت بترقيم القبور قامت بتدوين المعلومات المكتوبة على شواهد القبور. هذه المعلومات ليس بالضرورة أن تدلّ على أصحاب القبور، ولكن من الممكن أن تعبّر عن جد صاحب القبر أو أحد أقربائه. ومن هنا اختلفت الاستحقاقات. ولذلك قامت المحافظة بتشكيل لجان اعتراضات وأبلغت المواطنين عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة وخطباء المساجد ومخاتير الأحياء، وظلّت هناك حتى العام 2002 لجانٌ تسمى «لجان دراسة اعتراضات المواطنين»، أخذت صلاحية دراسة استحقاق المواطنين وتصحيح الأخطاء والالتباسات. وفي العام 2000 تمَّت أتمتة العمل في مكتب الدفن».
وبالرجوع إلى عمل مكتب الدفن، فإنه يحوي 33 سيارة ونحو 140 عاملاً مهمتهم تغسيل وتكفين الوفيات.
(ر. ش) لها تجربة من نوع آخر مع المقابر، فهي تتردّد قبل زيارة قبر والدها (الذي توفي حديثاً) نتيجة ما تشاهده من مناظر وصفتها بغير الحضارية، وتقول: «توفي والدي منذ نحو عامين ونصف. وبما أنني فتاة مغتربة، فلا يسمح لي وقتي أن أزور المقبرة إلا في أوقات وجودي في البلد. لكن عند دخولي المقبرة أشعر بغصة قوية على هذا المكان الذي يؤول إليه موتانا في البلاد العربية، بينما نجد المقابر في الدول الأوروبية قد تكون مكاناً للتنزه!؛ فلا نستطيع الدخول إذا كان الجوّ ممطراً لأنَّ النتيجة ستكون أننا سنمتلئ بالوحل والطين، هذا عدا عن رائحة الحرق التي أشتمها كلما دخلت. وأتساءل: لماذا لا يخصّص مكان معين لحرق الآس، ولماذا يقومون بالحرق بين القبور؟!!».
ما يلاحظ في الآونة الأخيرة أنَّ نسبة كبيرة من المتسولين اتخذوا من المقابر مكاناً للتسول، حيث يتذرّعون بسقاية القبر ووضع الورود.
( م.ك) يعاني من هذه القصة، ويقول: «أصبح الموضوع ابتزازاً بالنسبة إلي، فأنا قبل دخولي لزيارة الموتى أتحضر نفسياً للتشاجر مع هؤلاء الأطفال الذين يقومون بابتزازي بأبشع صورة ممكنة، فأنا أضطر للدفع لهم كي يسمحوا لي ببعض الخلوة مع من أتيت لزيارتهم!».
من جهة أخرى ينفي معمولي غلاء تكلفة الدفن، ويؤكد أنَّ المكتب يتكبّد خسائر بالملايين، ويقول: «إنَّ المكتب يخسر نحو 12 مليوناً مقابل الخدمات التي يقدّمها؛ لأنَّ الرسوم تعتبر أقلّ بكثير من التكلفة. فالمواطن عندما تكون لديه حالة وفاة يقدّم لنا تقريراً طبياً بالوفاة، ويكتب لنا رقم القبر الذي يريد الدفن فيه. أما في حال لم يكن لدى المواطن قبر، فيتمّ التخصيص في المقبرة البديلة، وهي مقبرة مزة 86، وسعر القبر الجاهز هناك 10500 ليرة، وهناك المقبرة الجنوبية الجديدة الواقعة في منطقة الحسينية والتي تبعد عن مدينة دمشق نحو 16 ألف كم». ويؤكد معمولي عدم إمكانية بيع أو شراء القبور بصورة قانونية ونظامية، وقال: «إنَّ القبر في الأساس وقف لا يجوز بيعه أو شراؤه، وفي حال حصلت عملية بيع أو شراء تكون غير نظامية، وليس لنا أو للمحافظة أيّ طرف فيها، والمواطن وحده هو الذي يتحمّل المسؤولية في هذه الحالة!».
«المبدأ الذي يسير عليه المكتب -كما يقول مديره- هو «الإنسانية» فعلى ضوء ذلك يعمل المكتب.. مضيفاً: «عملنا يعتمد على الإنسانية في الدرجة الأولى؛ فقد يحدث أن يمتلك المواطن قبراً ويطلب منا تنزيل جاره أو صديقه في القبر، فلا نستطيع أن نمنعه أو نعرقل سير العمل؛ لأنه لدينا وقت محدد يجب أن ننجز خلاله أعمال الدفن جميعها؛ فيجب علينا أن نقدّم حداً أقصى من التسهيلات، وذلك بحسب توجيهات المحافظ».
ويذهب معمولي إلى القول: «إنَّ العرف الجاري أنه يمكن للقبر أن يفتح مرة ثانية بعد خمس سنوات. ولكن بالنسبة لرأي الشرع، فهناك فتوى من سماحة المفتي تقول إنه يجوز الدفن على الوفية (رجلاً كان أم امرأة) شرط فناء الجثة، ولا يمنع، حتى لو كان لا يربط بينهم أيّ رابط!. وفي هذه الحالة نبعث لجنة تتشكّل من عناصر كشافين بحضور ورثة أصحاب القبر، ويتمّ التحقق من فناء الجثة ويوقعون على ذلك ويتحمّلون المسؤولية كاملة. وفناء الجثة يختلف من جسم إلى آخر ومن تربة إلى أخرى».
أما عن ظاهرة المتسولين الأطفال بين المقابر، فأكد مدير مكتب الدفن أنَّ «هذه الظاهرة توجد فقط في أيام الأعياد والعطل الرسمية، ونحاول القضاء عليها عن طريق إخبار فرع الشرطة الذي تتبع له المقبرة، فيرسل دورياته لقمع الظاهرة».
ويتابع معمولي: «في العام 1966 صدر المرسوم التشريعي رقم 103 الذي شكّل هيئة لجنة صندوق مقابر المسلمين برئاسة محافظ كل مدينة يرأسها المحافظ في كلّ مدينة مهمتها صيانة المقابر الواقعة ضمن الحيّز الجغرافي لمدينة دمشق، وإيجاد الحلول المناسبة لوضعها في المستوى اللائق.. والأعمال التي قام بها هو أن بنى تصاوين للمقابر ووضع إنارة وأبواباً حديدية للمقابر وجدراناً استنادية وشبكات إنارة داخلية في المقابر».
أما بالنسبة لموضوع تكسير الشواهد، فيعزوها إلى أنه «قد يكون هذا الكسر مقصوداً أو غير مقصود؛ فقد يكون ناتجاً عن أحقاد بين العائلات، فيقوم أحدٌ ما عمداً بتكسير الشاهدة.. أو غير المقصود الذي يكون سببه الدفن عن طريق نقل النعش إلى الداخل. ولذلك ننصح المواطن بعمل الشاهدة على شكل أفقي على القبر؛ فمن غير الضروري كتابة آيات قرآنية أو أبيات شعرية على الشاهدة، فالغاية من الشاهدة كتابة ما قلّ ودلّ كوضع اسم الوفية مع رقم القبر».
الدكتور عبد السلام راجح (عميد كلية الشريعة- فرع جامعة الأزهر في دمشق)، قال: «شاع بين الناس، وبسبب ضيق الحواضر والمدن وازدياد السكان، أن يدفنوا أرحامهم في نفس القبور التي كان قد دفن فيها السابقون. ويتساءل الناس عن حكم هذا الدفن. والحكم هنا لا يمنع دفن الميت في قبر استحال صاحبه من الرفاة، حيث إنه لم يرد في أحكام الشريعة ما يمنع ذلك، ولقد مرّ في تاريخنا التشريعي أنه إبان المعارك الإسلامية كان يدفن الشهداء في قبر جماعي واحد ولم يرد نهي من الشرع في ذلك. ولذلك فقهياً يقال إنَّ العبرة من الدفن هي ستر سوءات الميت ليبقى في أعين محبيه كريماً مصاناً لا يرى منه ما يؤذي. والأصل في ذلك هو القصة القرآنية في دفن قابيل لأخيه هابيل، ولا شك أنَّ هذا الدفن لا بدَّ أن يراعى فيه أن تكون جثة السابق قد فنيت بشكل كامل.
الرأي في المحصلة أن لا مانع أن يدفن الميت فوق الميت؛ شرط أن يكون قد فني جسده إمعاناً من الشارع في حفظ كرامة الإنسان والحماية من انتقال أمراض تسبّبها تفسخات الجسم إبان الموت».
وتابع الدكتور راجح: «لا شك أنَّ الشريعة الإسلامية احترمت الإنسان حياً وميتاً. ولعلَّ الدليل الواضح من كلام الرسول (ص) على احترام الإنسان ميتاً أو تعليمه لنا أن نقول عندما نمرّ على المقابر: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين». إن إلقاء السلام على الأموات لهو أكبر دليل على أنهم أمة لم تمت أرواحها؛ ما يفرض أن نحترمهم ونجلّهم. ولعلَّ صور احترامهم أن نمنع التجاوزات الشرعية والأخلاقية في المقابر؛ فيمنع كل ما يسيء لهؤلاء الأموات؛ لأننا نتعامل مع كرامة الإنسان التي هي من تقدير الإله، سواء كانوا أحياء أم أمواتاً. ويجب على كلّ حي أن يعلم أنه سيخلد إلى هذا المستعمر عاجلا أم آجلا، فهل يقبل، لو كان في هذه المقبرة، أن يعامل بما يعامل به أهل القبور».
رشا كيوان
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد