المسرحي فواز الساجر «آخر الحالمين» و«حياة رغم موت الآخرين»
لم يكن احتفاء دار الفنون وموقع الجمل بذكرى وفاة فواز الساجر في 16/5/ 2009 رداً على تجاهل احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008 لهذه الشخصية الاستثنائية في الحياة الثقافية المسرحية، ولكن للاحتفاء بمشروع ثقافي سوري حمله ثائر مجدد ترك بصمة لن تمحى في تاريخ مسرحنا، كان فيه الموت صاحب السلطة العليا بتوقفه عندما خطف فواز الساجر وهو في عز عطائه، قبل أن يترك وريثاً أميناً عليه؛ يجب أن يظل في الذاكرة.
فليس صحيحاً ما قاله مانويل جيجي إن جزءاً من الساجر موجود في كل عرض مسرحي رأيناه؟ ومع أيمن زيدان كل الحق أن يعتبر رحيله فجيعة لكنها أخف وطأة من أن «يكون شاهداً على ما وصلنا إليه»، عندما تحول المسرح على يديه إلى عالم لا ينفصل عن الانتماء للوطن والناس والشارع، بعيداً عن الأيديولوجيا والخطاب السياسي، هي جزء من شخصية فواز الساجر الحقيقية التي لم تكن تفصلها حدود عن حياته الشخصية أو العائلية أو المهنية ومسؤوليته التربوية، كأستاذ خرّج الدفعة الأولى من المعهد العالي للفنون المسرحية، ومؤسس المسرح التجريبي مع الراحل سعد الله ونوس، كنموذج مفقود من نظرية «الأخلاق التي لا تتجزأ»، الذي ولد الكثير من المشاعر المتناقضة في تلك الأمسية، بين غبطة من لم يعرفوه لأنهم لم يتعرفوا على المسرح الحقيقي، ووجع من عرفه ومعاناتهم وهم يشاهدون سطحية مسرح الحاضر. ليظل فواز الساجر وبعد واحد وعشرين سنة على رحيله عام 1988 المرجع الأصدق والوثيقة التي لا تقبل الشك على طاقة المسرح الخلاقة للحياة قبل الجمال والمنبر الجماهيري المطلبي الذي يشكل خطراً على كل الكراسي الزائفة التي ستجتمع وتتضافر لتخريبه وتفريغه من محتواه وسلبه دوره.
خمسة أعمال كانت تركة فواز الساجر للمسرح القومي، غير عمله في المسرح الجامعي والفلسطيني: رسول من قرية تاميرا، ثلاث حكايات، المجنون، رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة، وآخرها سكان الكهف لوليام سارويان التي يقال إن فواز الساجر تنبأ فيها بموته. وعلى ورقة صغيرة، وجدها أصدقاؤه المقربون ومنهم «حسن م يوسف» حين فتحوا حقيبته، كتب الساجر: «عصرنا هذا هو عصر الضيق، تفكيرنا ضيق، أفقنا ضيق، عدلنا ضيق، عالمنا ضيق، مصيرنا ضيق، موتنا ضيق، قبرنا ضيق! الضيق الضيق! افتحوا النوافذ والأبواب سيقتلنا الضيق..»
شهادة أخرى قدمها علي النوري العامل الذي تربى في مسرح القباني، كان لها بالغ الأثر تعكس حجم تأثير فواز الساجر في ناس الشارع، الناس البسطاء الذين وصل اليهم وجعلهم يحبون ويفهمون المسرح ويحاكمون ما يجري على الخشبة معرفياً وجمالياً: «كان مرهفاً وكان المسرح بالنسبة له مقدساً، أحدث فراغاً برحيله. في مسرحياته كان الجمهور يملأ المسرح، وبعضهم كان يكتفي بسماع الصوت القادم من الصالة في الممرات، كان يحترم المواعيد إلى أبعد الحدود وله مقولتان: إن رمي الأوساخ سيحرم الفرق من العرض، وإذا كنت متواضعاً وصلت إلى أعلى المراتب».
- إحدى المفاجآت والتساؤلات الإشكالية في تلك الأمسية كان ثائر موسى وفيلمه: «فواز الساجر، حياة رغم موت الآخرين» الذي أنتجه التلفزيون السوري بناء على سيناريو قدمه «موسى» خلال أيام بعد وفاة «فواز الساجر» عام 1988 من أجل عرضه في ذكرى أربعينيته إلا أن الفيلم لم يعرض في التلفزيون لغاية اليوم ولا أحد يعرف لماذا. لكنه سيبقى علامة فارقة في حياة ثائر موسى العاطفية والفنية، حين كان يومها في العشرينيات بعد حصوله على إجازة الإخراج من بولونيا، وعن علاقته بفواز الساجر وتنفيذه للفيلم يقول:
التقيت به في إحدى الإجازات الصيفية في بيت ريمون بطرس، كانوا «شلة شيوعيين» يجتمعون معاً، طلبت يومها بعضاً من الكتب لآخذها معي عندما كنت أدرس في بولونيا فتطوع فواز الساجر الذي لم أكن أعرفه بمرافقتي ودار معي على كل المكتبات، بعد تخرجي كان فواز الساجر يعمل بروفات على مسرحيته الأخيرة «سكان الكهف» وتسنى لي أن أحضر بعض البروفات، لم أقض معه وقتاً طويلاً، لأقول التالي: يوم الإثنين كانت وقفة العيد يوم توفي فواز الساجر، يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس كان العيد ثم يوم الجمعة عطلة رسمية، يوم السبت ذهبت إلى التلفزيون ومعي سيناريو جاهز عن فواز الساجر، لا يوجد عندي أي تفسير لهذا الشخص الذي كان في لا شعوري مؤثراً لهذه الدرجة.
لم يحتو الفيلم على تسجيل صوتي لفواز الساجر ولكن عدداً من الصور الفوتوغرافية التي كانت جزءاً درامياً مهماً في فيلم «ثائر موسى» وهو يصوغ ويرصد ويوثق لهذه التجربة المهمة كجزء من تاريخ ومرحلة وذاكرة، يجب أن تظل حية لمبدع حاول أن يعطي ويرتقي بالحياة والإنسان السوري من خلال المسرح، ارتبط اسمه بالراحل سعد الله ونوس الذي قدم شهادة في الفيلم: «بدأنا في مسرحية توراندوت التي قمت بإعداد جديد لها عن بريخت، حاول فواز أن يقدمها في إطار المسرح القومي كتجربة أولى، لكن المسرحية لم تقدم وأوقفت في ليلة العرض، كانت لدينا مشروعات أن نقدم ميخائيل رومان ونعمان عاشور، وخططنا يوماً كيف يجب أن نقدم، وفي هذه الفترة، كاتباً هو ميخائيل رومان الذي مات قهرا هو الآخر، وكيف يجب أن نجتزئ مشاهد من مسرحياته وأن نصنع من خلالها صورة المسرح والوضع التاريخي الذي أدى إلى قتل المسرحي». أما الجزء التسجيلي عن نشأة فواز الساجر فقد كان على لسان والده الذي افتتح معه الفيلم وحكى عن طفولةٍ كانت في الرقة، وولدٍ أدى دور جميلة بوحيرد في مسرح المدرسة وهو في العاشرة، ثم دخوله جامعة دمشق لدراسة الأدب الإنكليزي لسنة ومن ثم إيفاده من قبل الدولة لدراسة المسرح في الاتحاد السوفييتي السابق. لنكون بعدها أمام مقاطع من أعماله المسرحية، وأفعال وانفعالات لم تعد موجودة على خشباتنا منذ ذلك الزمن إلا نادراً. ولنقف مع دموع زوجته الدكتورة فاطمة وهي تنعاه في كلمة مؤثرة ليست غريبة عليها وهي ابنة المسرح الجامعي التي أحبها الساجر وأنجب منها «رفيف» التي دخلنا بصوتها إلى بيت ومكتبة الساجر وهي تتحدث عن والدها وعلاقته بالمسرح: «كان طوال الوقت يكتب ويترجم على طاولته كان عنده ثقة بالمسرح بأنه سيكون شيئاً عظيماً في يوم من الأيام كان المسرح بيته الثاني».
قد يكون هذا الفيلم جرعة من الحزن قدمها ثائر موسى لكل الذين عرفوا فواز الساجر لكنه بالتأكيد جرعة من الثقافة والعلم عن تجربة يجب أن تتكرر ويجب أن تبقى في الذاكرة، وقيمة فنية عالية يجب أن تعرض كثيراً على شاشاتنا الوطنية لكي يراها كل من يريد أن يتعرف على المسرح من الجيل الجديد، ولكل من يريد أن يلمس كيف نكون أوفياء لبلدنا، عندما نقدم علاماتها المضيئة في أفلام وثائقية هي رصيد يجب أن نعود إليه كثيراً ولاسيما فيما قدمه ثائر موسى للتلفزيون العربي السوري «الصفحات الأولى» عام 2001 عن الرئيس الراحل حافظ الأسد، وأعمدة النور، وفيلمه الأخير «ما زال بيننا» عن الراحل ممدوح عدوان عام 2005.
فاديا أبو زيد
المصدر: الوطن السورية
إقرأ أيضاً:
دارالفنون تحتفي بالمسرحي فوازالساجر..حضور آثر رغم كل هذا الغياب!
فواز الساجر... بصمة في الهواء يتنفسها المسرحيون
حقيقتان و«لو»..عن فواز الساجر في ذكرى رحيله
في ذكرى فواز الساجر: المبدع لا يموت بصمته كبصمة الهواء في حياتنا
اول احتفال على نطاق واسع في ذكرى رحيل المخرج السوري فواز الساجر
دار الفنون تعيد الحياة لفواز الساجر
eSyria: "الساجر".... في دار الفنون بعد 21 عاماً
العرب أون لاين: أصدقاء فواز الساجر ينعون المسرح السوري في ذكراه
إضافة تعليق جديد