كتاب “فان غوغ مُنتَحِر المجتمع” لأنطونان أرْتو

02-10-2022

كتاب “فان غوغ مُنتَحِر المجتمع” لأنطونان أرْتو

عيسى مخلوف:

في الثّاني من شهر شباط/ فبراير 1947، توجّه أنطونان أرتو إلى متحف “أورانجوري” الباريسيّ الكائن في حديقة “تويلري”، والمطلّ على ساحة “كونكورد”. هناك، كانت تُعرَض أعمال الفنّان التّشكيليّ الهولّنديّ فانسان فان غوغ (1853-1890). شاهد أرتو اللّوحات والرّسوم بعين نافذة، وكان هو نفسه رسّامًا أيضًا، فضلًا عن كونه كاتبًا وشاعرًا وممثّلًا، وأحد أبرز مُنظِّري المسرح في النّصف الأوّل من القرن العشرين، وقد عُرفَ بنحته مفهوم “مسرح القسوة” الّذي يتطلّع إلى ابتكار مسرح جديد.
في الفترة نفسها، خصّصت مجلّة “فنون” مقالةً عن فان غوغ تحتوي على فقرات من دراسة تحمل توقيع الطّبيب فرانسوا-خواكيم بير، وفيها أنّ “هذا الفنّان النّابغة كان يعاني اضطرابات نفسيّة ازدادت حدّة مع مرور الوقت”. مشاهدة أرتو المعرض وقراءته المقالة دفعتاه إلى الكتابة عن فان غوغ، وتقديم رؤية مغايرة إلى سيرته ونتاجه الفنّيّ. ولقد كتبَ انطلاقًا من تجربته الشّخصيّة، لأنّه جرّب المعاناة والعذاب أيضًا، وحاول أن يعالج الآلام التي رافقته طوال حياته بالأدوية والصّدمات الكهربائيّة والمخدّرات. كما أنّه عاش سنوات عدّة متنقّلًا بين مستشفيات الأمراض النّفسيّة ومصحّات خاصّة كانت الأخيرة في مدينة روديز الفرنسيّة. لذلك، بدا وهو يكتب عن فان غوغ أنّه ينظر إلى وجهه في المرآة ويكتب عن نفسه. بالسّكّين كتب وبالصّراخ الّذي نسمعه في كلّ كلمة، وكذلك في غضبه وإدانته الّذين يتّهمون المبدعين ويحاكمونهم، معتبرين أنّهم مرضى؛ فيما المجتمع؛ بالنّسبة إليه، هو المريض، وهو الّذي جسّد الظّلم والجريمة، و”خنقَ في مصحّاته أولئك الّذين أراد التّخلُّص منهم جميعًا أو الدّفاع عن نفسه أمام اتّهاماتهم، لأنّهم رفضوا أن يكونوا متواطئين مثله مع أبشع القذارات”.
كبهلوان يسير فوق حبل وتحته هاوية بلا قعر، أمضى أرتو حياته. كان يقيم عند الحدود الّتي تلتقي فيها الدّقّة العالية والهذيان، يصوغها بلُغة تتوهَّج أمامنا وتجعلنا نرى، بسرعة البَرق، كيف تبطل المسافة بين النّبوغ والجنون. إنّها لغة خاصّة داخل لغة موليير، وقد استطاع من خلالها أن يقدّم نتاجًا له فرادته في الأدب الفرنسيّ.
كتاب أرتو عن فان غوغ ليس كتابًا بل عاصفة تتحفّز في صفحات كتاب، يحرّكها الألم وما هو أبعد من الألم. الغضب، هنا، كاسر الأبواب ومسعًى إلى التّحرُّر من الأغلال، لا مراجعة الذّات كما مع الشّاعرة اليونانيّة سافو الّتي عبّرت عن غضبها منذ أكثر من 2600 سنة وسوَّغته بالقول: “لأنّ في نفسي روحَين لا أعرف ما أفعل: روح الصّيّاد وروح الطّريدة”، أو، كما قال الشّاعر الفرنسيّ شارل بودلير: “أنا الجرح والسّكّين”. إنّه، في جميع الحالات، الألم الّذي يصبح تُربة تتفتّح فيها الأزهار بما فيها “أزهار الشّرّ”.
ثمّة نصوص كثيرة كتبها أرتو مهَّدت لما كتبه عن فان غوغ. في مقالة نشرها في العام 1936، عرَّف بدور المبدع، بشكل عامّ، بالطّريقة الآتية: “الفنّان الّذي لم يصغِ إلى قلب الإنسان، الفنّان الّذي يجهل أنّه كبش محرقة، أنّ واجبه أن يجذب كالمغناطيس، أن يستميل، أن يُسقط على كتفه غضب الزّمان الشّارد ليحرّره من الشّعور بالضّيق النّفسيّ، من لا يكون كذلك ليس فنّانًا”.
كتبَ أرتو عن فان غوغ ليبرِّئه من الجنون وينتقد بشدّة علماء النّفس والمجتمع الّذي يحميهم، ويحمّله مسؤوليّة انتحار فان غوغ، وقبله جيرار دو نرفال. من جانب آخر، أمعن في تشريح عدد من اللّوحات بحثًا عن أسرارها، ومنها: “حقل القمح وغربان”، “كرسيّ غوغان”، “حديقة دوبينيي”، “رصيف مقهى، مساءً”، “سنابل القمح”، “اللّيل المُكَوكَب” و”دوّار الشّمس”. أصبحت هذه الأعمال مدخلًا إلى عالم فان غوغ الّذي “ينفذ إلى أعماقنا” وأعماق الموضوعات الّتي يرسمها ويؤنسنها، من أنجم اللّيل وأزرقه الصُّوفيّ، إلى سَوسَن الحقول المُواسي، المائلة أوراقه مع ريح منطقة “البروفانس”، فالحذاء الّذي “يرشح بؤسًا” ويختزل مأساة البؤساء والعبيد. لكن، إلى مَن تتوجّه جميع هذا الأعمال؟ إذا طرحنا السّؤال على أرْتو، فهو لن يتوانى عن الإجابة الآتية: “ليس لهذا العالم، وليس أبدًا لهذه الأرض، عَمِلنا كلّنا دائمًا، وصارعنا، وصرخنا من الرّعب والبؤس والحقد والفضيحة والاشمئزاز، ومن هذه الأشياء كلّها تسمّمنا جميعًا، مع أنّنا كنّا جميعًا مسحورين بها، وانتحرنا أخيرًا، لأنّنا كلّنا معًا، كفان غوغ المسكين نفسه، مُنتحرو المجتمع!”.
هكذا يروي أرْتو، بطريقة أخرى، ما سبق أن أشار إليه أرتور رامبو في ديوانه “فصل في الجحيم”: “الحياة الحقيقيّة غائبة. نحن لسنا في العالم”. لذلك، يبحث الفنّان عن الحياة الحقيقيّة في الفنّ كأنّما الإبداع لحظة جمال تقرّبنا من حرّيّة الرّؤيا وتبعدنا من شوائب الحياة اليوميّة والبشاعات المتراكمة وسطوة الابتذال. أمّا الطّبيعة الّتي يلجأ إليها فان غوغ ويتأمّل عناصرها فهي الطّبيعة العارية النّقيّة الّتي تكشف لنا نفسها حين نعرف كيف نقترب منها. “لأخرج من الجحيم، أُفضِّل المَشاهد الطّبيعيّة الّتي أنجزها هذا المُختلِج الهادئ”، يردّد أرتو الّذي ينظر إلى فان غوغ بصفته موسيقيًّا وكاتبًا أيضًا. إنّه “عازف أُرغن لعاصفة انتهت وتضحك في قلب الطّبيعة الصّافية”. هذا العزف لا يحتاج إلى آلة موسيقيّة كما كانت الحال مع فنّانين آخرين احترفوا الموسيقى ومنهم بول كْلي وفاسيلي كاندنسكي. كانت موسيقاه جزءًا من أحلامه ومن تلاعبه باللّون والضوء وسَبر الأبعاد اللّامرئيّة في الكائنات والأشياء.
من الموسيقى إلى الكتابة، يتوقّف أرتو عند رسائل فان غوغ إلى أخيه – تجاوزَت السّتمئة والخمسين رسالة – ويُورد اثنتين منها في كتابه. في هذه الرّسائل الّتي طُبعت أوّل مرّة في أمستردام، العام 1914، وتعكس ثقافة أدبيّة وثقافة فنّيّة مميّزتين، يحكي فان غوغ عن لوحاته وأسلوبه وتقنيّاته وعن المشهد الفنّيّ في زمنه، ويعبِّر كذلك، بأسلوب حيّ يذهب مباشرةً نحو الجوهر، عن تأمّلاته وأفكاره وحياته الدّاخليّة ونظرته إلى العالم، وهذا ما يجعل الرّسائل تخرج من خصوصيّتها الذّاتيّة لتندرج في إطار الأدب الفنّيّ، على غرار يوميّات الفنّان الفرنسيّ أوجين دولاكروا. لقد تحوّلت رسائل فان غوغ مرجعًا أساسيًّا يعتمد عليه مؤرّخو الفنّ والفنّانون والنّقّاد والكتّاب، للاقتراب من حياة الفنّان ونتاجه، كما الحال مع أرتو الّذي تحدّث عن أهمّيّتها ووضعها في مستوى واحد مع أعماله الفنّيّة.
كان فان غوغ يعي أهمّيّة الكلمة المكتوبة، وكان مواظبًا على القراءة، ومن كتّابه المفضّلين إميل زولا وألفونس دوديه وجون كيتس وفيكتور هوغو وفولتير وشكسبير. كان يرى أنّ التّعبير بشكل جيّد عن شيء ما لا يقلّ أهمّيّة وصعوبة عن رسم شيء جيّد. رسالته الأخيرة غير المكتملة إلى أخيه، وُجدت في جيبه بعد أن أطلق رصاصة في صدره في 27 تمّوز/ يوليو 1890 في بلدة أُوفير سُور واز حيث أمضى أيّامه الأخيرة. ذلك النّهار، وفي تلك اللّحظة بالذّات، لم يرَ الطّبيعة بل صورته فيها، وكم كان وحيدًا أمام سنابل القمح الّتي لطالما هرب إليها من أمواج جنونه العالية !
فان غوغ الّذي يحتلّ موقعًا خاصًّا في البورصة الفنّيّة، وتُعدّ أعماله من الأغلى ثمنًا في العالم – كلّ لوحة منها تقدَّر بملايين الدولارات – لم يبع إلّا لوحة واحدة طوال حياته. المال الّذي يهيمن على الثّقافة والإبداع وحتّى على عواطف البشر وأحاسيسهم، ماضٍ في تسليع أعماله وكلّ ما يمتّ إليه بِصِلة، بما في ذلك المسدّس الّذي استعمله من أجل أن ينتحر. ولقد عُرض العام 2009 في المزاد العلنيّ في مركز “دْرُوُو” الباريسيّ للمزادات، وبيع بمبلغ 162500 يورو. أمّا الشَّفرة الّتي صلم بها شَحمة أذنه فثمّة من لا يزال يبحث عنها للترويج لها.
أخيرًا، لم يكن من السّهل مقاربة لغة أنطونان أرْتو الهاذية الجامِحة المُكَهربة، ولم أسع إلى ترويضها على الإطلاق، بل ذهبت في محاذاتها، ومحاذاة إيقاعاتها، قدر المستطاع. حافظتُ على التّكرار المتعمَّد في مطالع الجُمَل والمقاطع، وترديد بعض الأسماء والكلمات وأدوات الرّبط والوصل، كما حافظتُ على العبارات الطّويلة المتداخلة حينًا، والمتقطِّعة حينًا آخر، مع تغييرات طفيفة يقتضيها الانتقال من لغة إلى أخرى. إذا كانت التّرجمة قراءة تغوص تحت جلد النّصّ، فهي، هنا، قراءة لنصٍّ مشتعل يحتمل قراءات كثيرة. إنّه “اللّغز الخالص للزّهرة المعذَّبة”، وفق تعبير أرتو الّذي رحل في الرّابع من شهر آذار/ مارس 1948، بعد أشهر قليلة من صدور الكتاب. وكتابه هذا هو أيضًا وصيّته الّتي عبَّر فيها عن رفضه الامتثال للأعراف السّائدة ولكلّ ما من شأنه أن يعرقل الإنسان في صعوده نحو الأعماق.

(المقدّمة التي وضعها عيسى مخلوف لكتاب “فان غوغ مُنتَحِر المجتمع” لأنطونان أرْتو).

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...