عماد فوزي شعيبي : ما يجري هو مكاسرة إرادات انتهت إلى حافة الهاوية
عرفناه في العقد الماضي محللاً سياسياً, له أنصاره وله خصومه, وربما كان الكثير من خصومه ظلموه في أحكامهم الجائرة لغاية في نفوسهم, ولسنا هنا في وارد محاسبة ما تضمره الصدور..
سبق أن قلتُ, منذ أكثر من عامين, إن الأزمة السوريّة لم تنتج كاتب رأي يرقى إلى مستواها, بل جلّ ما أنتجته كتبة صغار معظهم مأجور لجهة ما, تتناول رؤاهم الحدث بطرق سطحية ومجزوءه (وغالباً شخصية) تدعوك الى البكاء وإلى الاعتقاد أكثر من أي وقت مضى بهول النقص في التكوين المعرفي لمن اتفق عليهم أنهم "مثقفون", فما بالك بالعوام من الناس؟! وسط هذا التشاؤم الواقعي يلمع اسم الفيلسوف عماد فوزي شعيبي برؤاه الموضوعية وأدواته المابعد حداثوية..
في هذا الحوار مع الدكتور عماد فوزي شعيبي الفيلسوف و الجيوسياسي، رئيس مركز المعطيات و الدراسات الإستراتيجية دمشق، لا نجده محللاً سياسياً ولا منظّراً لإيديولوجيها بعينها, بل هو أكاديمي من الطراز الرفيع هاجسه المعرفة وإنتاجها, والعمل على المفاهيم القائمة على القطيعة الابستيمية (المعرفية) مع مفاهيم الماضي, خاصة تلك التي تجاوزها الزمن..
عندما طلبنا منه حواراً لصالح فينكس, وافق قائلاً: "بكل سرور, ولكنني لا أتحدث بالقضايا الراهنة إنما بالاستراتيجية. ولهذا فاليوميات والآنيات لا أهتم لها وهنالك من هو أفضل مني للقيام بذلك. هذا من ناحية, من ناحية ثانية أفضّل حواراً يتصل باستراتيجيات الوقائع الدولية ومنها يُفهم بشكل غير مباشر مصير سورية الذي أصبح في كمين تاريخي بين الدول العظمى وبعض الإقليمية".
س- حذرت من فترة وجيزة عبر صفحتك الشخصية من مكمن تاريخي يُعد لسوريا.. هل لك أن توضح مقصدك بالمكمن التاريخي؟ من جانب آخر: ماذا عن مكر التاريخ وممكنه فيما يتعلّق بنا؟
ج- الحقيقة أنني أسميته الكمين التاريخي؛ حيث تتجمع كل اعتبارات وكمائن وأدوات صراع دولي وإقليمي في منطقة بعينها جرّاء استحقاقات الانتقال من نظام عالمي إلى نظام عالمي آخر، ويكون الكمين إن دولة بعينها أو عدة دول تكون ساحة عمليات الصراع كما حدث بالبلقان بالحرب العالمية الأولى وبروسيا وألمانيا وجزء كبير من أوروبا بالحرب العالمية الثانية. هنا تكون الدول التي وقعت فيها عمليات الصراع طرفاً، ولكن الكمين هو ألّا تكون دولتك دولة عظمى وتكون ساحة عمليات للدول العظمى، وهو كمين أقرب إلى الكابوس، عندما تدخل في ما نسميه تعبير vicious circle نترجمه الدارة المُعابة أو المعيبة حيث أن أي حل لطرف فيها يؤدي إلى عطب في طرف آخر. أو أن أطرافها يتبادلون دوماً التأثير بحيث لا حل ّ. وللخروج من الدائرة لابد دائما من قصها من أي نقطة فيها وفرْدها لتصبح كالخط المستقيم له طرفان.
هكذا هو وضع بعض النزاعات وخاصة التي تصبح عدة دول أطرافاً فيها. لابد من تفكيكها بعزل تأثير أي طرف على الآخر داخلاً وخارجاً. وأي رهان غير ذلك يعني البقاء في هذه الدارة المعيبة. وسورية دخلت في هذا الكمين التاريخي وفي الدارة المعيبة. خصوصاً أن خروجها لا يكون بما يدعونه في فلسفة التاريخ مكر التاريخ، إلّا إذا كان المقصود به معجزات خارج السياق، وهذا ما لا أملك له تحليلاً أو توقعاً احتراماً لعلمي, والمقصود هنا إن واقع اللاقطبية الدولية لا يفسح في المجال لحلّ، إلّا إذا كان المقصود هو أن الغرب سيُضطر للحل، بسبب ما يراه اليوم من أحداث، وهذا احتمال قد لا يكون يعول عليه أكثر من 50 بالمئة لأن احتمال الاستمرار بالعماه Chaos هو أيضاً احتمال مُناصف للاحتمال السابق.
فحالة اللاقطبية وفقاً لهاس يتميز فيها النظام اللاقطبي الدولي بوجود مراكز عديدة تتمتع بقوة كبيرة. ما من قوة مهيمنة في النظام المتعدد الأقطاب. يمكن أن تكون الأنظمة المتعددة الأقطاب متعاونة. وقد تكون أكثر تنافسية يبدو عالم اليوم متعدد الأقطاب. فالقوى الكبرى ـــــ الصين والاتحاد الأوروبي والهند واليابان وروسيا والولايات المتحدة ـــــ تضم أكثر بقليل من نصف عدد سكان العالم، وتعدّ 75 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و80 في المئة من الإنفاق الدفاعي العالمي. غير أنّ المظاهر قد تكون مخادعة. فثمة مراكز قوة أكثر بكثير، وعدد من هذه الأقطاب ليس دولاً ـــــ أمماً. فالدول ـــ الأمم فقدت احتكارها للقوة وتفوّقها في بعض المجالات أيضاً. تواجه تحديات من أعلى تمثّلها المنظمات الإقليمية والعالمية؛ ومن أسفل مصدرها الميليشيات؛ ومن الجانب تطلقها منظمات غير حكومية وشركات. فقد صارت القوة اليوم في قبضة أيادٍ عديدة في أمكنة عديدة. إضافةً إلى القوى العالمية الكبرى الست، ثمة قوى إقليمية عديدة: البرازيل، ودول أخرى كقوى إقليمية وهي الأرجنتين والتشيلي والمكسيك وفنزويلا في أميركا اللاتينية؛ نيجيريا وأفريقيا الجنوبية في أفريقيا؛ مصر وإيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية في الشرق الأوسط؛ الباكستان في جنوب آسيا؛ أوستراليا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية في شرق آسيا وأوقيانيا. ومراكز القوة عدد لا يُستهان به من المنظمات، بما فيها العالمية (صندوق النقد الدولي، والأمم المتحدة والبنك الدولي)، والإقليمية (الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية، ورابطة شعوب جنوب شرق آسيا، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الدول الأميركية ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي) وتلك المحدّدة المهمة (وكالة الطاقة الدولية، والأوبيك، ومنظمة شانغهاي للتعاون ومنظمة الصحة العالمية. وتشمل كذلك ولايات ضمن الدول ـــــ الأمم مثل كاليفورنيا وأتار راديش، ومدناً مثل نيويورك وساو باولو وشانغهاي. ثم هناك الشركات العالمية الكبيرة، بما فيها تلك التي تسيطر على عوالم الطاقة والمال والصناعة. أما المؤسسات الأخرى التي تستحق أن تُدرج هنا، فهي وسائل الإعلام العالمية (الجزيرة، وهيئة الإذاعة البريطانية ومحطة السي أن أن)، وكذلك تكون للميليشات المسلحة أدوار خطيرة اليوم نراها بوضوح وهي أكبر مما تبدو ظاهراً لأن العالم ليس له رؤوس. وهذا واحد من عوامل الكمائن التاريخية اللاقياسية حيث يظن بعض المحللين أنها ظاهرات عابرة، والحقيقة أن التحليل بهذه الطريقة نمطيّ ولا يجوز الركون إليه فاللاقطبية تُنتج حالة من الفوضى العارمة وانعداماً في اليقين وعدم مطابقة التحليلات لا للواقع ولا للمستقبل. وهنا خطورة أي عمل تحليليّ.
س- انطلاقاً مما تفضلتم به, هل يصدف التاريخ, فيحمل في أحشاء الكمين المذكور جنيناً, دعنا نسميه "الممكن التاريخي", قد يكون من شأن ذلك الممكن أن يغيّر معادلات قائمة خالقاً معطيات أخرى مغايرة قد لا تكون في حسبان القائمين على الكمين ولا في صالحهم؟
ج- نعم، كل شيء ممكن وهذا ما ندعوه أيضاً الوقائع غير المتوقعة، فكم توجد وقائع غير متوقعة سلبية لا نراها بسبب قربنا من الواقع كذلك ثمة وقائع غير متوقعة يمكن ألّا نراها وتكون إيجابية. فثمة مخاطر تكمن في المعرفة التي تمنع رؤية اللامتوقع، أو حتى مجرد التكيف معه، إنها "لعنة التعلم"؛ التي توازي هنا النظر دائماً إلى الوراء (أي المعرفة الماضية)، ونحن بدورنا نقول عنها ابستمولوجياً المعرفة المندرجة في الزمن الأفقي (أي المعرفة الشائعة كعقبة إبستمولوجية) وبالتالي ما يمكن تسميتها "سُمِّيَّة المعلومات" التي لا تجعلنا نعيش في (ماضيها) فحسب، بل لأن نتائجها تقلل من أهمية تأثير حدوث المحتمل أو لأنها تقودنا إلى تجاهله فضلاً أن العديد منها (هي ذاتها) التي تقود لظهور ما ليس متوقعاً. وهذا ما ندعوه أيضاً القُرب المعمي من الواقع أو ما يدعوه المتصوفة (القُرب حجاب) أي أن ملاصقتك لواقع ما جيد أكان أم سيء لا يجعلك ترى ما هو خارج الحسابات الآنية والرؤية المباشرة. وهذا ما لا نستطيع ضبطه الآن، ولكن مؤشرات ما هو حالي تتحدث عن عماه chaos لا يتوقف. ولكن هذه هي الإرادة الأمريكية وثمة إرادات أخرى مقابلة تتصارع وليس لنا إلا انتظار التاريخ، أما المؤمنون بأن الغد أفضل فهذا محض (أمل) مشروع ولكنه ليس تاريخانياً بالمعنى المحض والحصري للكلمة, المهم من يمتلك القدرة والابتكار للخروج من الكمين والخروج من نمطية التحليل و تقليدية الحسابات. فالوقائع الضخمة لا تسمح أحياناً بحسابات لا تقليدية لأن أصحاب القرار المنغمسين في الاقتراب من الوقائع يرون ذلك (ترفاً) لا يُحتمل، وهذا طبيعي معرفياً بالمعنى التقليدي للكلمة، وغير محمود تاريخياً لأن الاعتياد على القراءات التقليدية رغم مرارة نتائجها مريح أكثر من التجريب في حالات الصراع التاريخي.
س -إلى أي حد يمكننا الرهان على ماجرى مؤخراً في فرنسا خاصة (الاعتداء على المجلة الساخر شارلي إيبدو) وما يجري في أوربا عامة (أنباء شبه دائمة عن القبض على خلايا إرهابية), في تغيير طريقة تعاطي ذلك الغرب مع الملف السوري؟
ج- من حيث المبدأ الرهان ممكن, ولكنه سيكون رهاناً على وجه واحد من المعادلة, وهو حكمة الغرب بعد أن وصلت الفوضى إلى أبوابه. ولكن هذا ليس كافياً فالغرب اليوم غربان، غرب عاقل وغرب تابع. فالولايات المتحدة تريد العماه chaos أي الفوضى العارمة بكل العالم بما فيه أوروبا، وبريطانيا تسير مع هذا وخصوصا أن طوني بلير سار مع نظرية المحافظين الجدد الأمريكيين بإلغاء ويستفاليا أي سيادة الدول وبالتالي انسجم مع الفوضى العارمة. وبريطانيا تتصرف كجزيرة و أيضا كمستشار للأمريكيين، لكن ألمانيا أكثر رصانة ولهذا فهي عقل وعمق أوروبا وهي التي تسعى نحو عقلنة ما يحدث. لكن الذين اتفقوا في ستراسبورغ 2009 وليشبونة 2010 على تغيير الأنظمة وتولية الإخوان المسلمين ليواجه الإسلام الإسلام كانوا موافقين على الفوضى ضمنياً, لكن بعضهم كان يتصوّر أنها لن تطاله. عموماً هنالك جرعة إيديولوجيا تعتمر العالم الغربي ويرافقها فلسفات سياسية كالتعددية الثقافية وفلسفات ما بعد الحداثة التي تمرر العماه chaos عبر مسحة من العبث و العدمية السياسية والقومية والدولتية يُرافقها تنظير واسع حول أهمية العماه في خلق الوقائع الجديدة... هذه الجرعات الإيديولوجية لاتسمح بالتفاؤل الذي يتداوله السياسيون النمطيون والمحللون الإستقرائيون، فنحن في لحظة تاريخية وسياسية وفلسفية لا نمطية بل وخطيرة وتشكل نقطة انعطاف في التاريخ كله، يساعدها على ذلك حالة اللاقطبية التي ستستمر طويلا أي ستكون فوضى أيضا بالنظام الدولي بما يتجاوز ولا يُقارن بزمن الحرب الباردة ثنائية القطب.
س- لك تصريح شهير, عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري, مفاده: "إن ما بين سوريا والولايات المتحدة الأمريكية, هو لي أذرع وعملية مكاسرة وصراع إرادات".. ماذا كنت تقصد بذلك التصريح؟
ج- نعم إنها مكاسرة إرادات انتهت إلى حافة الهاوية واللعب في عمق الهاوية أيضاً. للأسف لم يُعد العدّة جيداً لتجنب ما حدث أو التقليل من ثمنه وللأسف الثمن غالٍ جداً.
س- تقوم نظرية النظام على وجود مؤامرة خارجية تستهدف الوطن السوري, ومعروفة وجهة نظر المعارضات السوريّة وتوجهاتها.. دكتور عماد, إذا ما عدنا بالذاكرة نحو عقد من الزمن, تحديداً إلى الاحتقانات التي شهدها لبنان قبيل اغتيال الرئيس الحريري ومن ثمّ بعد اغتياله, هل سنجد رابطاً بين ما جرى في لبنان وما يجري في سوريا الآن؟
ج- هي معركة مستمرة ولكن إذا أخذناها من زاوية واحدة (المؤامرة أو الاستبداد) سنكون قد ارتكبنا إثماً معرفياً يتمثل بالاختزالية, أي رد أي حدث إلى سبب وحيد وهذا غير دقيق علمياً. ما أعتقد أنه الدرس الذي لم يتعلمه أحد هو نفسه الدرس الذي يمكن أن يكون الحلّ بجزئه السوري-السوري، وهو تقييم المأساة الحالية من موقع تقاسم الأسباب وقبولها جميعاً وبالتالي تقاسم المسؤولية. وهنا لا يكون معيار الحلول هو المعيار الخام أعني ميزان القوى ومحض ميزان القوى. وهنا بالذات لا بد من تصور وفلسفة سياسية وطنية تاريخية جديدة ولكنني لا أعتقد أن الوضع قد وصلها بعد, فهذا يحتاج إلى ما يدعوه روجيه غاروديه (اللحظة الفاعلة) أو لحظة الحقيقة أو لحظة التراكم... بتقديري هذا لم يصله السوريون بعد، هي لحظة تماثل لحظة ويستفاليا بعد حرب الثلاثين عاما أو لحظة سلم المئة عام في حكمة كاستيلاري ومترنيخ بعدم إهانة الأمة الفرنسية بعد هزيمة نابليون، والأهم أن التداخلات الدولية لن تسمح لهذا التراكم أن يحدث في اللاوعي الجمعي السوري لأن المطلوب هو الفوضى العالمية ولتكن بؤرتها سورية، إنه (الكمين التاريخي) كما أسميته مراراً، وللأسف أن يكون لي براءة اختراع مفهوم ينهش من وطني وشعبي. لكنها الحقيقة.
عموماً ليس في السياسة تحليل نهائي ولا الاستقراء نهائي والوقائع غير المتوقعة قد تأتي بجديد. والبشر يعيشون بالأمل ولكنني أخشى أن نتعايش مع الفوضى كما في كولومبيا 48 سنة و في غيرها.
وهذا ليس محض تشاؤم إنه تسمية لوقائع قد لا يريد البعض أن يراها..
عموما أنا وظيفتي المعرفة.. ولدي معارف لم تعد تعترف بالاستقراء لأنني أُدرِّس أنماطاً ما بعد حداثوية في المعرفة كالعماه والدومينو وأثر الفراشة و التوقعات المبالغ بها والبجعة السوداء والوقائع غير المتوقعة والزمن العمودي والقطع الابستمولوجي والقُرب المُعمي من الواقع... وهذا كله لايسمح لي بأن أتناول الوقائع كما يتناولها غيري. مع كل الاحترام للجميع.
ما أود قوله علينا -ربما- أن نعتاد على وضع عالمي هو الفوضى لعقود وعلى صراعات مستمرة, فزمن الاستقرار الذي عرفناه بعد الحرب العالمية الثانية قد ولّى. وعلينا أن نفهم أن العالم قد تغير. ومع ذلك فهذا ليس قدراً نهائياً, كما أن وقائعنا السياسية العالمية والإقليمية والمحلية التي اعتدنا عليها لم تعد نهائية. وسيكون على المحللين بعد سنين إنتاج مفاهيم جديدة للحديث عن ماضٍ هو ما نعيشه حالياً ولا ندركه إلّا بلغة الماضي ولهذا نفاجأ دائماً أن القادم ليس ما نتوقعه فنُصاب بصدمة.
س- في جوابكم على مكاسرة الإرادات قلتم إنه للأسف لم تُعد العدّة جيداً لتجنب ما حدث أو التقليل من ثمنه وللأسف الثمن غالٍ جداً. هل لكم أنو توضحوا للقارئ كيف كان يمكن تجنّب ماحدث, وماهي الإجراءات التي كان من شأنها تقليل ثمن ما حدث؟
ج- الأمر بات من الماضي ولا أحب الحكمة بأثر رجعي. في السياسة -لا في الثقافة - يتم التعامل مع الوقائع الآنية ومعالجتها كما هي. أما بالثقافة والتأريخ يمكن الحديث عن (لو). نحن الآن بواقع الحال الذي يشير إلى ما حدث. والحتمي هو ما حدث وليس ما كان يجب أن يكون. أنا على قناعة أن البنى التاريخية لدى العرب جميعاً خارج منظومة الفعل الأمثلي وهذا طبيعي بسبب عدم توافر التراكم التاريخي اللازم ثم بالمناسبة تجربتي مع ما يقوم به الغرب تقول لي إنهم أكبر خطّائي السياسة. أي العامل البشري لا يجوز التقليل من شأنه. أنا أرى الجميع بشراً ولا أعتقد أنني مهما بلغت من ثقافة أمتلك القدرة على أن أحاكم الأحداث بأثر رجعي.
س- ماذا تقصدون بالأنماط التالية: الدومينو وأثر الفراشة و التوقعات المبالغ بها والبجعة السوداء والوقائع غير المتوقعة والزمن العمودي؟
ج- هي مجموعة الوسائل ما بعد الحداثية في المعرفة العلمية التي لم تعد تستسيغ القوانين والحتميات, وهي اليوم الأدوات الجديدة في الفهم العلمي حتى أن الفيزياء الكوانتية تعتمدها وكذلك علم السياسة المعاصر بخلاف طريقتنا في تداول السياسة وعلومها. هي تبدو اليوم أقرب إلى التواضع في إطلاق الأحكام والتقرير والاستقراء. أما تفاصيلها فهذه تحتاج إلى محاضرات ولقاءات علمية أكثر تفصيلاً. ما أود قوله هنا إن علينا إن نتواضع ونغير من أدواتنا المعرفية التي باتت تنتمي إلى قرن رحل وإذا أردنا أن نتعلم علينا أن نغير من أدواتنا المعرفية ونحدث قطيعة ابستمولوجية في معارفنا. وبكلمة أخيرة إن ما حدث لنا يتقاسم مسؤوليته أطراف عديدة جميعها كانت تحلل وتتصرف وتتوقع بناء على مناهج لم تعد صالحة.
نحن اليوم في الحرب ، وملامي لن ينتبه إليه أحد وهذا طبيعي ولكن للتاريخ أقول إذا أراد السوريون أن يبنوا مستقبلاً، مطلق مستقبل، عليهم أن يغيروا من معارفهم لأنها أصبحت بالية وغير مناسبة للمستقبل، ولهذا فلا أرى أفقاً لأن ثمة دوران في دارة معيبة وعيبها الأساس المعرفة والعقلية.
باختصار نحن خارج التاريخ اليوم مع أن التاريخ يُصنع على حسابنا. نحن مجرد سماد لسياسات الآخرين. وبكلمة أخيرة ذات يوم سيعرف السوريون أن الخروج من الحلقة المُفرغة يحتاج إلى عقل آخر وقد يقولون كان ثمة من قال ذلك في حمأة الحرب وقد يترحمون علينا، لأننا لن نكون أحياء آنذاك فالأمر يحتاج إلى عقود طويلة. لا تقلْ لي أنت غير متفائل، أنا أرجوك أن تعود إلى كتابي الذي كتبته عام 1998 بعنوان من دولة الإكراه إلى الديموقراطية سترى أنني قبل 16 سنة كنت أتحدث عما يحدث اليوم حيث قلت بالحرف الواحد فمن تعلم؟ اقرأ وحاكمني وحاكم الوعي السائد سأسرد لك بأرقام الصفحات ما قلت وأتمنى أن يكون لديك ولدى القاريء الصبر لمتابعته حتى النهاية:
صحيح أن الميكيافيلية هي مشروع للاستقرار و أن كل استقرار يحمل إمكانية (التسكين) (الستاتيك), إلا أن الاستقرار غير المحمول على حاملة المطلب (الأقصى) سينتهي إلى (التعفن) و بالتالي إلى اللااستقرار لان التعفن سيقود إلى وباء انعدام الحراك الاجتماعي و السياسي. ولهذا فالمطلب الأهم لميكيافيلية عصرية هو أن تحمل الدولة عنصر تقدمها في ثنايا استقرارها و أن تتجدد باستمرار, من خلال آليات داخلية و إلا فإن السحر سينقلب على الساحر. ص 18 "من دولة _ الإكراه إلى الديمقراطية".
و لكن الميكافيلية التي تصنع الدولة – الإكراه, بكل أخلاقها الهوبزية و لا تستطيع أن ترتفع عن الآنية و المباشرة في إشعار المواطن أنه ملغى, لا تستطيع أن ترتفع عن بدائيتها و هي بحاجة عند الانتقال من (الدولة – الإكراه) إلى (الدولة – القانون – المؤسسات) إلى تطوير تقانات بناء الصلة (صلة ما) بينها و بين مواطنيها, و هي بحاجة أيضاً إلى نقد خارجي عندما تصر موازين قواها الستاتيكية الداخلية على أن تبقي مشروع الدولة في حدود الدولة – الإكراه, و هو ما يحيلها إلى التعفن, بل و يقضي على مشروع الدولة نفسها. ص 20
تستنفد الدولة – الإكراه وظيفتها عندما تحول البشر المنفلتين من عقالهم إلى مواطنين يخشون الأجهزة, و في هذه الحالة يصبح هؤلاء المواطنون مستعدين لقبول القانون عصاً ترفع في وجههم فتمنع التجاوز و الخطأ دون أن تستخدم. بعد أن كانت الأجهزة هي هذه العصا. و مجرد استمرار وظيفة الإكراه بشكلها البدائي سيمنح الأجهزة قوة التكلس و التصلب في وضعية التسلط, و هذه إحدى أشكال التعفن السياسي, و ستقلب الطاولة على مشروع الدولة. و هنا بالذات, على من يقود المشروع السياسي الواعي المبني على أساس البدء بدولة – الإكراه ألا يحول حجة (و ضرورة) الاستقرار مبرراً لعدم الانتقال التدريجي نحو القانون الذي يجب أن يكون فوق الجميع, و بدونه تفقد آلية السيطرة و الضبط, و هي خلفية و مآل السلوك (الأخلاقي) للمكيافيلية, سمة الاستمرارية. ص20-21
و لسنا نميل إلى (التطورية) الساذجة أو (التقدمي) الأكثر سذاجة التي تتصور أن التاريخ يسير إلى الأمام أو إلى الوضع المتقدم دائماً, لأن احتمال الانتكاس وارد بل وربما أكيد في بعض الأحيان. ص 21
إن من مميزات مجتمعاتنا العربية أنها مجتمعة غير حداثية, بل ما قبل حداثية , الأمر الذي يجعلها تحوّل الحرية إلى قيمة كونية ! بل و تبالغ في أهميتها دون أن تدرك أنها مشكلة فلسفية و وجودية لا حل لها, و أن الديمقراطية شيء و الحرية شيء آخر. مما يجعل الحرية, و على مستوى ضيق, إحدى تجليات النظام الديمقراطي, لكنها حرية مشروطة بالدولة و النظام الاقتصادي و العلاقات الدولية و الإقليمية السائدة و ما يسمى بالأمن القومي. ص 26
لا يعني في هذا السياق أنك عندما تصف الواقع أنك تتبناه (بالمطلق), لكن شرط التجاوز هو الاعتراف, و الانصياع للشروط السائدة, ومن ثم التحايل عليهل لتجاوزها . فلا تجاوز بالمعارضة لمجرد المعارضة, و لا يمكن ان يتحقق ذلك بإنكار الشرط الذي أنتج الواقعة. ص 31
أما الإكراه الإقتصادي فهو الذي يمهد لارتكاس دولة _ الإكراه إلى دولة عصابات اقتصادية خلف واجهة سياسية و هو أمر يحيل دولة _ الإكراه غلى مادة بين المافيا عند أي انتقال سريع إلى الديمقراطية و هو ما حدث فعلياً في تركيا و في دول الاتحاد السوفييتي السابق و تحديداً روسيا الحالية , حيث تشكل المافيا الشكل الأكثر حقيقة بالمقارنة مع تسلط عصاباتي كانت تمارسه رموز الدولة _ الإكراهية ص 35
و يجب أن ندرك هنا أن الغلو في دور دولة _ الإكراه , كارثي على الدولة نفسها , و لم يعد مقبولاً التغاضي عنه في سياق حركة كرة الثلج ( الديمقراطية ) التي تحاول أن تكيف العالم على هوية ( الديمقراطية) السياسية بعد نشوء تباشير النظام العالمي الجديد .... ص 36
إننا نقول أن الانتقال إلى الديمقراطية هو أمر ضروري و ربما كما قلنا سايقاً سيأتي ضمن عملية الديمقراطية كهوية سياسية معولمة, لكن الانتقال يجب أن يكون في سياق التطور بالدولة و ليس الإطاحة بها و يجب أن يتم المرور, او الاكتفاء على الأقل بمضمون مراحل, دولة القانون و دولة المؤسسات قبل الشروع في دخول الديمقراطية كمشروع سياسي.
هنا نحذر من أن الديمقراطية هي مشروع سياسي و ليست مجرد فعل (حرية) كما يتوهم كل الناس العاديين و جل المثقفين, إنها (نظام سياسي) كأي نظام سياسي آخر يجب أن يأتي على حامل (سياسي) وهو هنا الدولة.. و ليس الحرية. ففكرة الحرية لا تتضمن البعد الديمقراطي باعتباره, كما سنرى, يشترط النظام بالمعنى السياسي و التمثيل و فكرة المواطنية. ص 38-39
إن أخطر ما يمكن تسجيله للوعي الديمقراطي الزائف, أنه يبدأ من الديمقراطية باعتبارها مطلباً و المطلب بها يتحول بها (أي بالديمقراطية) إلى اسطورة خلاص, و الأسطورة تبقي على المحاسن و تذر الرماد في عيون القارئ البارد, الذي هاجسه المعرفة. وهنا بالذات يمارس (الاسطوريون) لعبة أستاذ الابستمولوجية فهم لا يتحدثون عن مساوئها ليحرفوا المواطن عن رؤية الحقيقة فضلاً عن كونهم لا يعرفون هذه المساوئ فالديمقراطية أسطورة و الأسطورة مقدسة ليست قابلة للخطأ و لا مساوئ فيها... ص 42
أن الديمقراطية هي الدولة لأنها نظام و هي تصيب المواطنيين بشيء من محاسنها و مساوئها بقدر ما تكتمل أصولاً في الدولة فهدفها ليس المواطن إنما الدولة مع أنها تدعي نظرياً عكس ذلك. هامش ص 42
و لعل من أخطر ما تنبئ به آلية استقدام الديمقراطية بالأسلوب المعلب فضلاً عن قدسيتها, أنه يقدم لنا نموذجاً آخر مشابه لاستقدام التقانة بطريقة التسليم بالمفتاح. فهي تحول مستخدميها إلى أداة, بل إلى تروس في الماكينات, و تجعلهم – أيضاً – يستخدمونها بشكل آلي, بلا عقل أو إعقال لها, و هذا ما يفسر لماذا سقطت تجارب الديمقراطية (الكولونيالية) الاستعمارية مطلع الخمسينات و نهاية الأربعينات مبكراً, و كيف ساهمت باغترابها فضلاً عن سياق التثوير لاحقاً الذي أعطى مشروعية لإسقاطها في أن تكون فعلاً لا لنا إنما علينا. ص 44-45
غياب الضد يبرز نقيضه باعتباره مطلقاً. ص 47
إن أخطر ما في الأمر أن الدعوات الساذجة نحو الديمقراطية لا تستند إلى أنها نظام و أن النظام يستمد جذوره هنا من الضبط و الإكراه معاً, (بالنسبة اللازمة في كل مرحلة من مراحل تطور الدولة) هذه الدعوات لا تسأل نفسها: من سيحل محل النظام و من سيرمم مكان الهيمنة, تلك القنبلة الانفراغية التي عندما تنفجر بغياب الهيمنة ستخلف إشكالاً أكثر خطورة و يتمثل بنشوء عنف اجتماعي قد يرتكس بالمجتمع السياسي إلى ما قبل (السياسي) و ما قبل الدولة, لأنه و بغياب الدولة تغيب وساطتها في تنظيم العنف الاجتماعي و الهيمنة عليه و جعله في الحدود الدنيا أو تمييعه أو تحويله. و عندما يغيب الضابط ينفلت الميزان الاجتماعي و يتبدد ميراث (السياسي), كفعل حضاري و تمدني و يصبح الغالب هو السائد. و طالما أن لا غالب في الحراك الاجتماعي فإن السائد الوحيد هو التمزق المجتمعي, أو اعتداء المجتمع على الدولة بصوره الأكثر سوءاً. و مع غياب إرث الإكراه الضابط للحياة و غياب الرابط القومي فإن الديمقراطية تقود إلى انعدام الأمن و هو جزء من سيرورة تجر المافيا و الجريمة... و عنف الطوائف. ص 48
إن الغلو في تأليه فكرة الديمقراطية التمثيلية و قيمتها من حيث إمكانية الحضور الأكثروي فيها, يحمل ضرباً من الوهم الإضافي, فالممثلون يحملون ضمناً صفة لا ديمقراطية لأنهم أقرب إلى طبقة أوليغارشية, و هم أقليّون بالضرورة, ذلك أن ضرباً من الاستقلال و الانعزال عن الناخبين سرعان ما يحدث لحظة وصول الناخب الى سدة الموقع النيابي, و هم لا يعاودون الاتصال مرة أخرى بناخبيهم إلا عندما يقترب موعد التجديد, الأمر الذي يطرح علينا سؤالاً في غاية الأهمية و هو: هل الديمقراطية حكم للأكثرية أم أنها حكم للأقلية النيابية التمثيلية تحت وهم الاكثرية؟. ص 54
كما يجب التنويه ألى أن الطبقة الوسطى هي أكثر الطبقات قدرة على حمل و التنظير للأخلاق بالمعنى الإيديو لوجي, الأمر الذي يجعل سقوط الطبقة الوسطى في حالة تضاد شديد بين فقر مدقع و ثراء فاحش مقدمة لتعويم الحالة الأخلاقية و نوسانها بين مطلب أقصى يتجسد في التيارات الأصولية و بين ممارسة انفصامية تهيئ في الحالتين لانفجار مجتمعي. ص 66
العصرنة تسهم فعلاً في الفساد لأنها ((تخلق مصادر جديدة للثروة و السلطة)), مما يجعل العلاقة بين هذه المصادر و السياسة لا تحدها المبادئ التقليدية فيصبح الفساد بهذا المعنى محصلة مباشرة لنشوء فئات جديدة لها مواردها و تريد أن تكون فاعلة داخل الإطار السياسي. ((صاموئييل هانتغتون)) ص 67
و الحقيقة أن ثمن الاستقرار السياسي في مرحلة دولة – الإكراه غالٍ جداً من حيث الفساد, و لكن يجب أن نؤكد على أن الفساد جزء من اي نظام سياسي , و ثمة مستويات نوعية للفساد بقدر تطور النظام نفسه, لكن دولة – القانون و بالتالي تفعيل المؤسسات تدريجياً, وحدها التي تستطيع ان تضع حداً لتفشيه و لتحوله إلى قاعدة. ص 75
بدون طبقة وسطى لا يمكن لمجتمع مدني أن ينمو. ص 80
إن الديموقراطية المطلوبة هي ديموقراطية عاقلة و ليست ديموقراطية لا عقلانية مطلبية ساذجة و عليه فإن وعي سلبياتها هو المقدمة الأولى لتحقيقها. و لأن ليس ثمة من عاقل يرفض الديموقراطية. فإن ذروة ما يريده الكتاب هو الوعي بالسلب. ص 83
و الأهم عدم استمرار دولة – الإكراه عندما تستنفذ أغراضها, لأنها إن استمرت ستقضم الدولة, و ستنقلب على المشروع برمته. و لهذا فإذا كانت هذه الدولة بمرحلتها الإكراهية قد استنفذت أغراضها فإن عليها أن تؤهل جميع الإمكانات كي تحدث الانتقال المطلوب إلى دولة القانون و هو انتقال يضمن بقاء الدولة و استمراريتها. ص 84
س- أخيراً: هل أنت محبط و يائيس؟
ج- أحد أصدقائي على الفيس بوك ويدعى السيد نبيل حموي وأنا حقاً لا أعرفه قال لي أنت أتيتنا من الماضي إلى يومنا هذا لأنك كنت تتحدث عما حدث اليوم. هل تعلم ماذا كتب بعض المثقفين آنذاك. لقد هاجموني ونعتوني بنعوت سلبية. انظر اليوم ماذا حدث لبلادنا؟ فما فائدة الوعي والثقافة والاستشراف في الوعي؟
اسمح لي لا أحد سيسمع منا.
هذا ليس يأساً. هذا تسمية للأشياء بمسمياتها. ولهذا صمتنا أحياناً أهم من كلام لن يُستفاد منه.
اسمح لي بالعودة إلى صمتي.
فما أقوله ببعض برامجي هو صدى صمتي لا ما عندي.
أبي حسن: فينكس
التعليقات
استاذ نبيل : أرجو نشر التالي في مكان مقروء
إضافة تعليق جديد