من كتاب دروب دمشق ـ قسم "الكراهية" (1)

25-04-2016

من كتاب دروب دمشق ـ قسم "الكراهية" (1)

 الجمل ـ كريستيان شينو وجورج مالبرونو ـ ترجمة : يوسف الشامي:
"يوماً سيتوجب رواية ما حدث فعلاً في جنيف 1.."هذه العبارة الغامضة التي أسرّ بها إلينا ديبلوماسي كبير أثناء قيامنا بتحقيقاتنا، تقول الشيء الكثير عن المرارة التي تغمر جميع أولئك الذين عملوا بإخلاص للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية. بين الخطابات الرسمية وكواليس هذا الاجتماع على ضفاف بحيرة ليمان Léman، سوف نكتشف بأن الأشياء لم تحصل تماماً كما تدّعي الخارجية الفرنسية اليوم. في الحقيقة، لقد لعبت فرنسا لعبة مزدوجة.
نحن في 30 حزيران 2012 في جنيف. لقد حل فرانسوا هولاند محل نيكولا ساركوزي في الاليزيه منذ عدة أسابيع ولوران فابيوس هو وزير الخارجية الجديد. المأساة السورية مستمرة منذ أكثر من سنة. بلغت حصيلة أعمال العنف قرابة 160000 قتيل. يحاول المجتمع الدولي للمرة الأولى إيجاد مخرج سياسي للأزمة يكون مقبولاً من نظام الرئيس بشار الأسد وكذلك من معارضيه السوريين بنفس الوقت.
تم تكليف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، بأن يجمع حول طاولة المفاوضات القوى الكبرى في مجلس الأمن (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا)، وبعض الدول الإقليمية مثل تركيا والعراق والكويت وقطر إضافة إلى الاتحاد الأوروبي. كان هذا الديبلوماسي الأممي قد اقترح قبل عدة أسابيع خطة من 6 نقاط سوف لن تطبق أبداً. يهدف هذا المؤتمر في سويسرا أن يعيد إنعاش هذه الخطة. مع اقتراب نهاية الاجتماع، يرسم نص، أطلق عليه اسم "بيان جنيف رقم 1"، ملامح خطة انتقال سياسي. ’تهيئ النقطة المركزية "لقيام جهاز حكومة انتقالية قادرة على إحلال جو من الحيادية يمكن من خلاله إحداث الانتقال. هذا يعني بأن جهاز الحكومة الانتقالية سيكون له كامل السلطات التنفيذية. سوف يمكنه أن يضم أعضاء من الحكومة الحالية ومن المعارضة كما من مجموعات أخرى، وسيتم إنشاؤه على قاعدة التوافق المتبادل".
تم التفاوض على كل كلمة بشكل مرير حتى الفاصلة والنقطة. النص محدد وبنفس الوقت ضبابي بشكل كافٍ كي يسمح لكل واحد بأن يجد مصلحته فيه. يكمن كل الفن الديبلوماسي في هذا الغموض الذي يتمناه أنان بناءً. مباشرة قبل الإعلان الرسمي عن بيان جنيف 1، عقد اجتماع أخير بين المشاركين لتحديد الأطر. كشف لنا ديبلوماسي من الاتحاد الأوروبي، كان حاضراً في القاعة لكنه طلب عدم الكشف عن اسمه، عما حصل فعلاً داخل الاجتماعات المغلقة في المباحثات. قبل أن ترفع الجلسة، مناف طلاس سأل كوفي أنان المشاركين للمرة الأخيرة إذا كانوا موافقين على النص الذي يستعد لنشره على العلن. يصر رئيس منظمة الأمم المتحدة،هذا المحنك في الديبلوماسية الدولية، لأن اللحظة مصيرية، فيما بعد سيكون الوقت متأخراً جداً للانطلاق على أسس أخرى: " بما أنني أنشأت مجموعة الاتصال هذه حول سوريا، يحدد كوفي أنان، فأنا أطلب أن تدعموني وأن يتعهد كل واحد بدعم هذا البيان." عندها، يطلب زعيم الديبلوماسية الروسية، سيرغي لافروف، الكلام مباشرة بعده. " كي نبدأ جيداً ولكي نبيّن بأننا جميعاً متفقون جيداً، يصرح لافروف، سيكون من الجيد القيام بشيئين يبدوان لي جوهريين. أولاً، بما أننا سنترجم اتفاقنا هذا ببيان من الأمم المتحدة، أنا لا أريد الفصل السابع، لأنني سوف لن استطيع أن أتبعكم فيه، إنه خط أحمر بالنسبة لي"، يقول مثبتاً نظره باتجاه الغربيين، أي هيلاري كلينتون الأميركية، ولوران فابيوس الفرنسي، و وليام هيغ البريطاني. ثم يلتفت سيرغي لافروف إلى لوران فابيوس، ويتوجه نحو الأخير مباشرة وعيناه تحدق في عينيه قائلاً: " أعتقد يالوران بأنك ستجمع في باريس خلال أسبوع (مجموعة أصدقاء سوريا). أرى أنه سيكون من المفيد تأجيل هذا اللقاء لمنح بعض الوقت كي نرى كيف ستأخذ خطة جنيف مسارها". كأنه عديم الإحساس، يبقى فابيوسزعيم الديبلوماسية الفرنسية صامتاً ولايجيب نظيره الروسي. بل إنه يغادر قبل نهاية المؤتمر ليستقل طائرته بنفس المساء. "أول شيء فعله فابيوس عند خروجه، يضيف شاهدنا، هو إعطاء تعليمات: تستمرون بمجموعة عمل أصدقاء سوريا، ونهدد باعتماد قرار يتضمن اللجوء إلى القوة ". في هذه الأثناء، يستمر لافروف وكلينتون بالتنقل ذهاباً وإياباً بين المشاركين. سيسرّ لنا أحد أعضاء الوفد الفرنسي بعد ذلك: "صحيح، لقد خرج لوران فابيوس قبل نهاية جنيف 1، لكنه كان يعرف ماذا سيجري. لقد قال لنا عند رحيله: سترون، نحن أمام نص غامض وسنخرج إذاً نحن لنقول شيئاً بينما سيخرج الروس ليقولوا شيئاً آخر." لايدعم لوران فابيوس بيان جنيف 1 لأنه في الحقيقة لا يؤمن به. " بالنسبة للروس، كمايقولون لنا الآن في مكتب لوران فابيوس ، لم تكن مشكلة الفصل السابع، لأنه قبل ذلك استخدمت موسكو الفيتو (حق النقض) ضد قرارين سابقين لم يندرجا تحت الفصل السابع." الكي دورسيه أيضاً لا يعتقد بوهم إمكانية خروج سياسي من الأزمة. "لقد سمعت كلاماً قاسياً بحق جنيف 1" يقر ديبلوماسي فرنسي آخر. ليس الفرنسيون وحدهم من يعتقدون بأن بيان جنيف 1 هو تمرين خالص للتعبير الديبلوماسي مخصص كي يبقى ميتاً. خلال اجتماع عقد في السفارة البريطانية في باريس، يقول جون ويكس John Wilks المكلف بالملف السوري في الخارجية البريطانية، لهيثم مناع رئيس هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي في سوريا CNCD بعد ذلك بعدة ايام: "جنيف 1؟ إنه للإعلام!".... مخالفاً رأي الروس، يبقي لوران فابيوس إذاً على اجتماع أصدقاء سوريا الذي يعقد في باريس بعد اسبوع من جنيف 1. لم يصدق ديبلوماسينا (أي الديبلوماسي الأوروبي الشاهد) أذنيه عند وصوله إلى قاعة المؤتمرات. "وصلت متأخراً قليلاً، وجدت نفسي في قاعة يحضّر الناس فيها النتائج الختامية للاجتماع، يتذكر الديبلوماسي. أستنتج وقتها بأن الحديث معاكس تماماً لبيان جنيف 1!"
"أكّد المجتمعون بشكل واضح بأن وجود من يمكنه أن يصيب مصداقية الانتقال يجب أن يوضع جانباً. من هذه الناحية أشاروا بتأكيد واضح أن على بشار الأسد أن يترك السلطة"، يمكننا قراءة النتائج المستخلصة من قبل 100 بلد. الترجمة: يجب على بشار ألا يشترك في المرحلة الانتقالية، تم الإقرار بأنه خارج اللعبة. الإعلان النهائي يدعو مجلس الأمن أن يتبنى قراراً بموجب الفصل السابع من قانون الأمم المتحدة.، أي مهدداً دمشق بعقوبات موسعة وباستعمال القول إذا عرقلت تطبيق خطة أنان من 6 نقاط. بيان جنيف 1 الأقل تطرفاً وصرامة بشأن مستقبل السلطة السورية يبدو كأنه غير موجود.... يأخذ الديبلوماسي عندها الكلام أمام المشاركين: " هناك شيء لا استطيع فهمه بما أنكم كنتم جميعاً في جنيف. ليس هذا أبداً مااتفقنا عليه... ..." ....يتفق كل المشاركين بأنه ليس من الضروري أخذ ملاحظات هذا الأخير بعين الاعتبار. يتحادث الديبلوماسي أثناء الاستراحة مع ايريك شوفالييه لوحدهما جانباً. "لكن لماذا تفعلون كل ذلك؟" يسأله غير مصدق. "لأن جنيف 1 هو كارثة، يجيب السفير الفرنسي السابق في دمشق. أصدقاؤنا في المعارضة قالوا لنا بأن هذا غير مقبول. إذاً نعتبر أن الأشياء لاتسير بالاتجاه الصحيح." "أنتم بصدد اتخاذ قرار كبير ستندمون عليه لأنكم لاتستطيعون أن تمارسوا فقط سياسة المعارضة!" يجيبه الديبلوماسي الأوروبي عاجزاً لكن بنظرة مستقبلية. "نعلم ماذا يجب علينا أن نفعل!" يختم واثقاً ايريك شوفالييه.
في القاهرة حيث يجتمع المعارضون من المجلس الوطني الذي تدعمه باريس، يصفون بيان جنيف واحد بالألعوبة رافضين اي حوار مع النظام ....
في نيويورك ينقل جيرار آرو مندوب فرنسا لدى الأمم المتحدة، هذا الموقف الشمولي في 11 تموز يوليو 2012، اي بعد حوالي 15 يوم من جنيف 1، وبموجب الخط المقرر من لوران فابيوس: "سنقدم مع شركائنا اقتراح مشروع قرار في الساعات القادمة يعطي للمجلس الوسائل كي يؤثر على الأرض، بفتحه إمكانية إقرار عقوبات حسب الفصل السابع بهدف تنفيذ بيان جنيف وخطة كوفي أنان من النقاط الست ."
ليس هناك داعٍ للقول بأن نص القرار الذي أعدته فرنسا كان نصيبه الفشل المدوي! كما كان متوقعاً استخدم الصينيون والروس حق الفيتو للمرة الثالثة ضد مشروع قرار غربي.
في نيويورك ينقل جيرار آرو مندوب فرنسا لدى الأمم المتحدة، هذا الموقف الشمولي في 11 تموز يوليو 2012، اي بعد حوالي 15 يوم من جنيف 1، وبموجب الخط المقرر من لوران فابيوس: "سنقدم مع شركائنا اقتراح مشروع قرار في الساعات القادمة يعطي للمجلس الوسائل اللازمة كي يؤثر على الأرض، بفتحه إمكانية إقرار عقوبات حسب الفصل السابع بهدف تنفيذ بيان جنيف وخطة كوفي أنان من النقاط الست ." ليس هناك داعٍ للقول بأن نص القرار الذي أعدته فرنسا كان نصيبه الفشل المدوي! كما كان متوقعاً استخدم الصينيون والروس حق الفيتو للمرة الثالثة.
كيف يمكن تفسير موقف فرنسا هذا، المصر على سلوك طريق ديبلوماسي تعرف مسبقاً بأنه مسدود؟
تبرهن التجربة بأنه لايمكن تمرير قرار بالقوة في مجلس الأمن ضد عضوين دائمين مثل الصين وروسيا، اللتين مازالتا مصعوقتين من قضية ليبيا(*). في الحقيقة ، أذا لم تعتقد فرنسا بإمكانية حل ديبلوماسي يمكن التباحث بشأنه، فلأنها تعتقد بشكل مستمر بأنها تكتشف إشارات ملموسة تدل على انهيار النظام. لم يتغير شيء من نيكولا ساركوزي إلى فرانسوا هولاند. يبدو التعليل منطقياً: لماذا إضاعة الوقت بالعمل على انتقال سياسي يتم التفاوض عليه في حين أن سقوط بشار الأسد مبرمج ليحدث قريباً؟ النظام يتساقط كأنه بيت من ورق كما يقدّر الكي دورسيه.
انشقاق العميد مناف طلاس نهاية حزيران يونيو هو أول إشارة طليعية لذلك. هو ابن وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، وكان صديقاً لباسل الذي مات بحادث سيارة في 1994. بمهنته العسكرية، يمكن النظر إلى طلاس على أنه جنرال استعراضات. معتاد أكثر على علب الليل من حقول المعركة، ’يقدّر عالياً السيجار الكبير وشرب الويسكي الذي يحتسيه عند منتصف الليل في وسط الشبيبة الذهبية في الأمكنة العصرية في دمشق. ليس لمناف طلاس وزن كبير داخل الآلة الأمنية-العسكرية مع أنه يقود اللواء 104 التابع للحرس الجمهوري وهي من وحدات النخبة للنظام. حتى إيريك شوفالييه الذي يعرفه منذ وصوله إلى دمشق، لايستطيع أن يمنع نفسه من إطلاق زفرة محبطة عندما تأتي سيرة شخصية مناف طلاس في الكي دورسيه. يقرر هذا الجنرال السني أن ينشق في نهاية حزيران 2012 واللجوء إلى باريس في بداية تموز يوليو، بفضل مساعدة جهاز المخابرات الخارجية الفرنسي DGSE ، الذي أخرجه بباخرة من لبنان حتى قبرص حيث كانت بانتظاره طائرة خاصة، استأجرتها أخته، الفائقة الثراء، ناهد طلاس المقيمة في باريس منذ زمن بعيد. كان لوصول الجنرال طلاس إلى العاصمة الفرنسية وقعاً مدوياً كالرعد. حَيّت السلطات الفرنسية والصحافة (**) بشكل موحد غنيمة حرب كبرى للمعارضة، والإشارة الأكثر بداهة بأن النظام يتشقق من الداخل. أمام المشاركين في مؤتمر أصدقاء سوريا المنعقد في نفس الوقت، يصرح لوران فابيوس بشكل احتفالي: "لدينا هنا الرئيس القادم للجمهورية السورية!" بدون أن يكون قد طلب شيئاً من مناف طلاس...الذي لم يرغب بأن يظهر علناً! في الحقيقة، "لقد تركه النظام السوري يرحل بدون أن يحتفظ به"، أكّد لنا أحد رجال الظل الفرنسيين. "إن أشخاصاً مثل مناف طلاس هم أفضل في الخارج منهم في سوريا"، يشير شخص مقرّب من بشار الاسد. تم ترتيب كل شيء في باريس لإعطاء مصداقية لنظرية "السمكة الكبيرة" التي تمكنت من الهروب عبر فتحات الشبكة. خلافاً لما تؤكدّه الصحافة، لم يحمل مناف طلاس معه أي سر (***). على الأكثر أفاده اسم عائلته المشهور بتأمين خروجه إلى المنفى. قبل عدة أشهر من رحيله قدّم له بشار الأسد سيارة مصفحة. جمع مناف طلاس وزوجته تالا كل اصدقائهم قبل هروبه، ليقدم لهم تحية الوداع لآخر مرة وليوزع عليهم مخزونهما من زجاجات الويسكي والسجادات الشرقية. فوجئ أصدقاؤهما بعض الشيء "لقد أردنا إفراغ سقيفتنا"، يجيب الزوجان. يفيدنا أحد أصدقاءهما >> أصبح مناف خارج اللعبة منذ عدة أشهر. لم يعد يخرج من بيته ولم يعد يقود لواءه في الحرس الجمهوري<<. لقد كان بحالة تقاعد إجباري. بالنظر قليلاً إلى الوراء، يمكن تشبيه انشقاقه المدهش، بذلك الذي قام به نائب الرئيس عبد الحليم خدام في 2005. وقتها، مثل 2012، كانت فرنسا جاك شيراك مقتنعة بأن النظام على وشك الانهيار. يمضي خدام وقته مكتئباً في فندق خاص في شارع فوش في باريس ، تملكه عائلة الحريري وقد تركه الجميع، بعد أن كان فيما مضى واحداً من أكثر الرجال قوة في الشرق الأوسط. مثل خدام، كان مناف طلاس يعتقد بأنه سيلعب دوراً في المعارضة، لكن المعارضين لم يرغبوا به. "حتى أن الفرنسيين أنفسهم قد أجبرونا على رؤيته! يؤكّد أحد أعضاء المجلس الوطني السوري. من أجل إقناعنا، كانوا يقولون: { يجب أن تجتمعوا بمناف، لديه أشياء مهمة يقولها، يجب أن تتناقشوا معه}. لقد كان ذلك خيالاً صافياً."
في 11 يوليو تموز يقوم السفير السوري في العراق، نواف الفارس، بدوره بالانشقاق. هو أول دبلوماسي على هذا المستوى ينضم لصفوف المعارضة. هنا أيضاً، حسب تحليلات السلطات الفرنسية، هو مؤشر جديد على الانهيار الوشيك للنظام (****). تحاول باريس أن تتسبب بانشقاقات ديبلوماسيين آخرين. إضافة لبشار الجعفري، المندوب السوري الدائم لدى الأمم المتحدة، يتقرب أحد كوادر الكي دورسيه من نمير غانم، السفير السوري في الجزائر، مقترحاً عليه أثناء غداء أن يقطع علاقته مع دمشق. يرفض هذا الفرنكوفوني (الناطق بالفرنسية) ، الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية في البرلمان السوري، مشدداً على أنه موجود لخدمة دولته وبلده. من ناحيتهم، وبفضل غناهم الفاحش، يحاول القطريون هم أيضاً أن يقنعوا ديبلوماسيين آخرين بمغادرة السفينة عارضين 5 ملايين دولار للسفراء و مليون دولار للديبلوماسيين الأقل رتبة إضافة إلى باسبور ديبلوماسي حديث. حاول سفير قطر في لندن عبثاً، أن يشتري نظيره السوري سامي الخيمي الذي بقي منيعاً أمام تلك الإغراءات.
هروب رئيس الوزراء رياض حجاب إلى الخارج في بداية آب عزز يقين باريس. إلا أن هذا الانشقاق، مثل مناف طلاس ونواف فارس من قبله، لن يوجع النظام مطلقاً الذي ينطوي على نواته الصلبة. "الانشقاقات الكبيرة توقفت في 2012، يلاحظ مصدر في المخابرات الفرنسية. منذ ذلك الوقت لم يعد هناك شيء على الإطلاق. بل إننا نلاحظ عدة عمليات عودة."
هنا أيضاً ترتكب باريس خطأ تحليلياً كبيراً. "في فرنسا يجنح كبار الموظفين الرسميين إلى التفكير والتعليل بطريقة تماثلية، يلاحظ أحد رجال المخابرات الفرنسية. نقارن بين المؤسسات السورية ونظيرتها الفرنسية. بالنسبة لهم، رئيس وزراء عندنا يعادل رئيس وزراء عندهم، نفس الشيء بالنسبة لوزير أو سفير. إلا أن هذا النوع من الوظائف في سوريا لايعني كثيراً....عندما ينشق وزير أو سفير فلن يكون لهذا أي أثر". ...
الانفجار الذي حصل في 18 يوليو تموز 2012، في مقر الأمن القومي لحظة اجتماع مسؤولين أمنيين كبار من بينهم آصف شوكت صهر الرئيس، يمكن اعتباره ضربة قاسية ضد النظام. بقي بشار الاسد مدة يوم كامل غائباً عن الظهور قبل أن يعاود الظهور من جديد على شاشات التلفزيون لتعيين وزير دفاع جديد. "بموت آصف شوكت، يتذكر أحد كوادر الكي دورسيه، قلنا لأنفسنا أن النظام قد بدأ حقاً بالتفكك. إذا نظرنا إلى الخلف الآن، كان هذا خطأ بالتفسير، لكن في تلك اللحظة، اعتقدت حقاً بهذا الأمر." خصوصاً أنه، قبل عدة أيام، كان المتمردون قد بدؤوا هجوماً على دمشق وسيفتحون جبهة حلب نهاية تموز يوليو. صدق ذلك أيضاً لوران فابيوس وزير الخارجية الجديد، غير المعتاد على قضايا الشرق الأوسط.
عندما حل محل آلان جوبيه في الكي دورسيه في مايو أيار 2012، لم يملك لوران فابيوس معرفة معمقة بالملفات الدولية. خلال مسيرته بقي اختصاصه هو السياسة الداخلية. في أول أيام وصوله، عندما أجرى جولة أفق عالمية أمام الديبلوماسيين في الكي دورسيه، يتحدث لوران فابيوس طواعية عن التحدي الذي تمثله الدول الصاعدة الجديدة. لايذكر سوريا بشكل عفوي. في الملف الفلسطيني، لوران فابيوس قريب من الطروحات الإسرائيلية، خصوصاً عن الدفاع عن أمن الدولة العبرية. بعد مرور زمن قصير على وصوله إلى الكي، يصيح فابيوس :"لقد سئمت من هذه الوزارة القريبة من الفلسطينيين!" أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية في ربيع 2012، كان قد قام بجولة في الشرق الأوسط كمبعوث من المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند. سيفيدنا أحد الديبلوماسيين بأنه خلال تلك الزيارة، أعرب لوران فابيوس عن قلقه من أن يقوم الإخوان المسلمون، الذين وصلوا للحكم في مصر، بإلغاء معاهدة السلام مع اسرائيل. كان هذا همه الرئيسي. فيما طمئن الديبلوماسي وزير الخارجية المستقبلي عن براغماتية (واقعية) الاخوان المسلمين. قبل عدة أيام من الاعتراف بفلسطين كدولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر تشرين الثاني، يتم إرسال فابيوس الى رام الله للقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. سيمضي معظم وقت المحادثات حول سؤال واحد: "هل سيفيد هذا الاعتراف حقاً مصالح الفلسطينيين؟" أخيراً، سيعطي فرانسوا هولاند الضوء الأخضر كي تصوت فرنسا لصالح حصول فلسطين على مقعد في الأمم المتحدة. في مكان أقرب إلينا، اثناء عملية الجيش الاسرائيلي "الجدار الواقي" في صيف 2014 في قطاع غزة، فإن الوزير "لم يقل كلمة واحدة عن اللذين قتلوا في الشجاعية ذلك الحي الذي حوله الجيش الاسرائيلي إلى رماد". فقط في 4 آب أغسطس، بعد مرور عدة ايام على حصول أول هدنة جدية، سيصلح وزير الخارجية الموقف بتصريحه: " إن تقاليد الصداقة بين اسرائيل وفرنسا قديمة وحق اسرائيل بالأمن هو كامل ، لكن هذا الحق لايبرر قتل أطفال وارتكاب مجازر بحق المدنيين." تتذكر ماري فرانسواز بيشتل Marie-Françoise Bechtel، النائبة عن منطقة الواز Oise سؤالها للوران فابيوس في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي)، بعد الهجوم الكيماوي في ضاحية دمشق نهاية آب 2013، وجواب هذا الأخير الذي يبين بشكل واضح موقفه المتحيز: "ما أزال اسمعه يقول لنا أمام المجموعة الاشتراكية في الجمعية الوطنية : ‘‘بالنسبة لسوريا يجب أن تكون ردة فعلنا مماثلة لمافعله ساركوزي في ليبيا فماذا ستقول الأجيال القادمة عن أفعالنا؟ ‘‘ عندها قاطعته بأسلوب غير لبق أمام زملائي: ‘‘ سيادة الوزير، ماذا ستقول الأجيال القادمة عما فعلناه في فلسطين، أوبالأحرى، عما تركنا فعله في فلسطين؟ إنه نفس المنطق!‘‘ لم يجبني لوران فابيوس وتفادى سؤالي منسحباً..."
في الكي دورسيه، يعرض لوران فابيوس شبكة رؤيته للعالم، المستوحاة من المحافظين الجدد الأميركيين. " بالنسبة للديبلوماسيين المحافظين الجدد في الكي، يحلل وزير سابق للخارجية، فإن قدوم لوران فابيوس هو مفاجأة إلهية، مع أنهم كانوا قد انسحروا سابقاً من الخط الذي اتبعه ساركوزي. إنهم أطلسيون. بالنسبة لهم يجب ألا تتبع فرنسا سياسة خارجية أصيلة، لأن ذلك يجعل كل شيء مضطرباً." هؤلاء التدخليين بكل شيء، الحاملين لنوع من الأمر الأميركي، يؤثرون اليوم بشكل كبير على رؤية العالم في الكي دورسيه.
عندما يأخذ لوران فابيوس الملف السوري بيده، فتتطور لديه ثلاثة هواجس يمكننا ملاحظتها أثناء الاجتماعات كما يقول لنا عدة ديبلوماسيين: روسيا وبشار الأسد وإيران. عن "محور الشر الفابيوسي" هذا، يقع نظام الملالي في أعلى الصورة. الطريق مغلق بشكل كامل. يكاد يكون غير عقلاني. "عندما كان يتحادث مع زملائه الأوروبيين، يروي لنا أحد الديبلوماسيين، كان يعبّر بطريقة توحي أننا سنقوم بالحرب على إيران. كان يرغب بإطلاق ضربات اقتصادية ليس فقط ضد القطاع النفطي لكن ضد كل الاقتصاد! كنا نحاول إرشاده لأن الجميع كان منهاراً أمام مثل هذا التموضع."
متأثراً بالخطاب الأمني الاسرائيلي، طوّر فابيوس نظرة مانيكائية (أي إما أبيض وإما أسود) عن إيران التي يعدها كقوة إقليمية مخلة بالتوازن ومضرة. نظر الاليزية وكذلك الكي دورسيه بعين الشك إلى انتخاب الرئيس حسن روحاني. لدرجة أنه سيتوجب إقناع لوران فابيوس بمصافحة يد الرئيس الايراني الجديد، أثناء اجتماع عقد على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر أيلول 2013! بالنسبة للمباحثات بشأن النووي، فإن زعيم الكي دورسيه سيكون معرقلاً دائماً، مغذيا لدى الصحافيين نظرة معادية لإيران. "مايجريه الايرانيون في المجال النووي لن يكون له اساس لو لم يكونوا مقررين تصنيع السلاح النووي، يشرح لوران فابيوس لأحد مؤلفي هذا الكتاب أثناء جولة في الشرق الأوسط في آب أغسطس 2012. إيران خطرة!" ولكن ألا يمكن لإيران أن تلعب دوراً في إطار مؤتمر دولي حول سوريا؟ مستحيل بالنسبة لفابيوس، لأنه "لا يمكننا إغراق الملف النووي في الأزمة السورية".
في المعادلة السورية، سيتجاهل لوران فابيوس الايرانيين والروس لدرجة استفزاز هؤلاء الأخيرين كما راينا سابقاً. بالتأكيد، نعلم أن الروس والإيرانيين ليسوا ملائكة والتعامل معهم أمر معقد. لكن كيف يمكن التأمل بحل المأساة السورية بدون إشراكهم بالعملية، في حين أنهم الداعمون الذين بدونهم لم يكن نظام دمشق ليصمد طويلاً؟ أما بالنسبة للسوريين، فلا يحملهم فابيوس في قلبه منذ زمن بعيد. بالنسبة لبشار الاسد، فإن لوران فابيوس لديه حقد لايوصف تجاه الرئيس السوري. بعد لقائه ممثلين عن مدينة اعزاز على الحدود السورية- التركية يصرح فابيوس: "....السيد بشار الاسد لايستحق أن يتواجد على الأرض!" .......يلاحظ وزير الخارجية الأسبق هيرفيه دوشاريت Hervé De Charette بأنه بعد مثل هذه التصريحات النهائية "لم يعد هناك مكان للديبلوماسية، الخيار الوحيد المتبقي هو الحرب". إلا أن فرنسا لايمكنها حتى أن تقوم بالحرب.. يتبع..

هوامش:
* تعتقد روسيا والصين بأنهما تعرضا لخديعة من قبل الغربيين الذين استخدموا قراراً يهدف " لحماية الشعب المدني الليبي"، كي يقوم هؤلاء بنتيجته بقلب نظام شرعي ومعترف به. في الحقيقة، فإن القرار 1973 الذي سمحت موسكو وبكين بإمراره بدون استخدام الفيتو، لم يكن يسمح ولا بأية لحظة، بتسليح متمردين أو بعملية عسكرية تحت قيادة الناتو لإسقاط العقيد القذافي.
** "انشقاق العميد مناف طلاس ضربة قاسية للنظام السوري" مقال لبنجامين بارت Benjamin Barthe نشر في جريدة لوموند بتاريخ 7 يوليو تموز 2012.
*** "الأسرار الكبيرة للهارب من دمشق" جريدة لونوفيل اوبسيرفاتور Le Nouvel Observateur بتاريخ 1 نوفمبر تشرين الثاني 2012.
**** في اللقاء الصحفي في الخارجية الفرنسية بتاريخ 13 تموز 2012، يصرح الناطق باسمها حول موضوع انشقاق السفير السوري في بغداد نواف الفارس، : " نلاحظ بأن الانشقاقات تتلاحق. إنها تشهد على العزلة المتنامية التي يغرق فيها نظام دمشق، الفاقد لأية شرعية".
شارع فوش Avenue Foch هو واحد من 12 شارع تتفرع من ساحة شارل ديغول في باريس، معروف أيضاً بشارع السفارات وسعر العقارات الموجودة فيه هو من الأغلى في العاصمة الفرنسية.


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...