نحو تأسيس معاصر لفكر عربي مسيحي

18-08-2007

نحو تأسيس معاصر لفكر عربي مسيحي

من أجل تـقعيـد خـطاب فـكري أو علم إنـساني، أي خـطاب أو أي عـلم كان، نجـد لـزاماً على المؤسس مـراعـاة جملة من الشروط يجـب اعـتـنـاقها وتطبيقها لتنـسكب تعبـيـراتـها وتنـسال في أطرها الصحيحة. نـذكر منها التحليل الموضوعي والنقدي، مراعاة واقـع الحـال، ربـط النـظر بالعمل، تـوافـر مقتضيات النهوض والتجديد والمعـاصـرة لاستـدامـة العلم وتزخيمه.

لكن هناك خصوصيات تُرفق بهذه الشروط – القواعد إذا ما كان هذا الخطاب أو العلم عقيدي المنحى، ديني الجذور والفروع والممارسات، مثلما هي حال ما يعرضه المؤلف في كتابه هذا. فهو يبتغي إعادة انتماء الفكر اللاهوتي المسيحي الى مرعاه التاريخي في المجتمع الشرقي بعد غربته النسبية عن أصوله المشرقية. كما وإنتاج مقولات دينية فكرية، ومصطلحات معبِّرة عن ماهيته، استُعملت ربما في الماضي جزئياً، لكنها أضحت بحاجة الى تحويل واستكمال واستنهاض وعصرنة.

يبين هنا هاجس المؤلف مشير باسيل عون لكتاب «الفكر العربي الديني المسيحي. مقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة»، (بيروت، دار الطليعة، 2007)، طرح الخطاب الديني المتجدد منخرطاً في الفكر الجماعي المجتمعي لتواكبه ورشة عمل فكرية تلتزم القواعد – الشروط معنى ولفظاً، شاءها منفتحة على الحوار الإسلامي – المسيحي. فيتبلور مشروعه في سياق تبادل الحضارات والأديان تجاربها المشتركة: بين تناغم قواعدها الإيمانية وتباعدها، وتقارب رؤاها الحياتية وتنافرها. همه الأول ألا نعود لنقع في المحظور، أو نكرر في لا وعينا تجارب الماضي الفاشلة والعبثية، إذ الهدف كما يقول «تدعيم أصول التوافق في تدبر مشاكل العيش المسيحي – الإسلامي المشترك» (ص 54).

يعترف المؤلف بموضوعية أنه يعرض حلاً ممكناً، وكل فرضية ممكنة الى أن يثبت العكس، كي يخرج الفكر المسيحي من مأزقه بين أزمة الواقع ورؤية الإيمان (عنوان الفصل الثالث)، بين نظر لاهوتي إيماني أمسى ينتمي الى الماضي وواقع ملحاح يطالب بالتطوير والنقد البنّاء لمراعاة واقع الحال. ويتخذ في هذا الصدد نموذج واقع المؤمن المسيحي اللبناني بخاصة والشرقي بعامة ليشرّح عشر معضلات تمزّق كيانه وهويته وشخصيته. غايته من كل هذا ترسيخ سبل متجددة من التفكير اللاهوتي المعاصر في لبنان والشرق العربي، يقوم على التجانس بين فحوى الإيمان وبنى المجتمع، بين العقيدة الذاتية والتعبيرات البنيوية الملائمة الى حد المقاربة والمواءمة والتآلف بين فكر عربي معاصر وفكر لاهوتي متجدد يناسبه.

ولا مناص من الاعتراف بأن الجماعة المسيحية تنتمي الى بيئتها وتتفاعل معها، في شكل دفع كبار روادها اللغويين والنهضويين الى وضع طروحات تبين مدى الحاجة الى الانخراط في واحة الشرق وهمومه، أبعاد كينونته وآفاقه.

وانسجاماً مع هذه اللحظة التاريخية التي نعيش في خضمها، ربط المؤلف أهدافه بوجودية مشروعه. فصحيح أن الفكر الديني المسيحي المعاصر له ذاتية جوهرية وهوية متمايزة،. ولكن حذار من الوقوع في التفرد والعزلة، المطلوب التقارب والتطابق مع الواقع نظراً الى أن هذا الفكر يكوّن جزءاً لا يتجزأ منه.

هنا بيت القصيد، إذ يجب ترسيخ فكر جامع، وحقول ومساحات مشتركة يتلاقى فيها التنوّع والتباين في بناء الصياغات اللاهوتية أينما وُجِدت. هناك وجه جدلي لكل علم عقيدي يجب أن نُظهره ونتبيّنه في خضم معركة التفاعل والتحاور والتبادل الإسلامي - المسيحي المثمر، وعزل كل محاولة إلغاء أو تجاهل الآخرين شركاء الحياة والوطن والأمة.

من أجـل تحقيـق هذا الغرض السامي وبلورته، أنهى المؤلّف كتابه بفصل خصّه لنحت لغوي قولبة لفكر عقيدي مسيحي ناطق باللسان العربي. وبيّن غـنى طاقـة اللفـظ العـربي وبـلاغـتـه وبيانيته، ملمحاً الى ضرورة بناء معجمي مصطلحي يسهل التعبير عن الغايات المرجوة. وفي الوقت نفسه يُلح على اجـراء تحـول نـوعـي لغـوي إذا ما شئـنـا ملاءمة مفرداتها واصطلاحاتها وتعابيرها كلغة لهذا الفكر اللاهوتي (من اشتقاق ونحت وسُبل تعريب).

إن هذه المحاولة الفكرية الدينية تشكل في نظرنا لبنة فكر مستقبلي جريء، يرمي الى الخروج من عقد الماضي لبناء وجودي ممكن بين ديانات وثقافات لا بد من أن تتلاقى سلمياً في نهاية المطاف وتتعايش.

إنها إشكالية الحرية بين ضرورة الالتزام وإمكان التحرر، تقليص المسافـات بيـن ثبات العقـائـد وحركيـة العقل، بين جمود الفـعل وتنامي السلوك. فهل تنجح محاولة كهذه وتثمر في مجتمعات أضحت صراعاتها المذهبية تُخفت صوت مفكريها الأحرار؟ يستأهل الطرح التمعّن في مراجعة الكتاب.

جيرار جيهامي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...