آخر وصايا جورج حبش

12-02-2008

آخر وصايا جورج حبش

شاءت الصدف أن يصدر كتاب «الثوريون لا يموتون أبداً» عن دار «فايار» الباريسية، ويتضمن سلسلة أحاديث أجراها الصحافي جورج مالبرونو مع مؤسس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» جورج حبش قبل اسبوع من وفاته في عمان عن 81 سنة.

هذه الصدفة حولت الكتاب الذي تطلب إعداده حوالي مئة ساعة من الجلسات بين حبش ومالبرونو، من وثيقة مفصلة لحقبة كاملة من تاريخ فلسطين والمنطقة الى ما يمكن وصفه «برسالة من القبر» و «وصية».

وعبر صفحات الكتاب الذي اقتبس مالبرونو (يعمل في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية) عنوانه من عبارة مطبوعة على ملصق لتشي غيفارا شاهده في مكتب حبش، يستحضر الأخير المراحل المختلفة لسيرته النضالية وعبرها سيرة شعبه بدأ بالنكبة التي دفعت الفلسطينيين على درب الشتات واللجوء، وصولاً الى المرحلة الراهنة.

وبهدوء بالغ وثقة بالذات يتناول حبش نصف قرن من النضال والعمل العلني والسري من أجل قضية شعبه، بعيداً عن أي تشكيك أو إعادة نظر بالقرارات أو الخيارات التي أقدم عليها على رغم صعوبة بعضها.

وعلى رغم تمسكه بالعلمانية ورفضه استغلال الدين باعتباره حلاً للمشاكل السياسية والاقتصادية، فإن حبش مقتنع «بضرورة السير نحو الديموقراطية على رغم مخاطر المد الاسلامي»، وبأنه «لا بد من اعطاء هؤلاء فرصتهم ليتسنى للمواطنين الحكم على أعمالهم» فاختبارهم يشكل «أفضل السبل لإضعافهم».

ولا يشارك حبش الاسلاميين في مواقفهم الاجتماعية ويشكك في احترامهم للديموقراطية، كما لا يؤيد عملياتهم الانتحارية، لكنه لا ينكر عليهم أنهم اصحاب «مكون قومي».

وفوز «حماس» في الانتخابات في المناطق الفلسطينية شكل في رأيه «صفعة حقيقية لكل مؤيدي الديموقراطية في العالم العربي»، لكن هذا لا يحول دون قوله إن «الاسلاميين ليسوا أعداءنا» وانما «الغرب الذي لا يريد الديموقراطية إلا لنفسه».

والحسرة الوحيدة التي يتلمسها القارئ من خلال الحوارات مع حبش محورها وفاة شقيقته وهي على درب التهجير من مدينة اللد، مسقط رأس حبش، وظروف العيش غير الطبيعية التي فرضت على ابنتيه ميساء ولما، نتيجة السرية التي حرمتهما من الأجواء العائلية الاعتيادية.

ويظهر الكتاب ان حبش أو «الحكيم» كونه حائزاً على شهادة في الطب من الجامعة الأميركية في بيروت، نشأ وعاش ومات منسجماً مع نفسه وأن مرور السنين والتقلبات الشديدة التي حكمت سيرته بموازاة التطورات التي طرأت على ساحة النضال الفلسطيني لم تزعزع قناعاته.

لكن التمسك بالقناعات والالتزام بالمبادئ، لم يمنع حبش من الإقرار بالأخطاء، فهو يتناول بداية عمله السياسي في حركة القوميين العرب ومن ثم تأسيسه الجبهة الشعبية، ويتوقف عند عمليات خطف الطائرات التي نفذتها الجبهة وتولاها وديع حداد. فهذه العمليات برأيه كانت ضرورية في تلك الفترة، لجذب انتباه الرأي العام العالمي للقضية الفلسطينية، وأتاحت عملياً اخراج هذه القضية من المجهول «بفعل احتكار الصهيونية الإعلام الغربي».

أولى عمليات الخطف نظمت سنة 1968 وتولاها حداد، مثلها مثل العمليات اللاحقة، مجنداً في بعض الأحيان مناضلين يساريين من أميركا اللاتينية وأميركا الشمالية من بينهم ايليتش راميريز سانشيز الملقب بكارلوس، واستمرت حتى بداية السبعينات حين بدأت تفقد تأثيرها في الرأي العام الغربي.

ويقول حبش ان حداد «أراد مواصلة العمليات» التي اعتبرها «واعدة للقضية»، لكن المؤتمر الثالث للجبهة قرر وقفها، «فكنت معجباً بحداد» و «كانت لي علاقة خصوصية معه، لكن اللجنة المركزية قررت إبعاده، فانفصلنا موقتاً».

وعلى رغم هذا الانفصال، يبدي حبش مودة بالغة لحداد ويصفه «بأقرب وأقدم رفيق لي في النضال»، ويتمنى «على كل من وصفه بالإرهابي، لو أنه تعرف عليه، كان سيكتشف شخصاً استثنائياً».

ويستعرض حبش بالتفصيل نشاط الفصائل الفلسطينية ضد اسرائيل انطلاقاً من الأردن وما آلت إليه لاحقاً من معارك مع الجيش الأردني في اطار ما عرف بـ «ايلول الأسود»، والتي يأخذ خلالها على القوات السورية والعراقية عدم إقدامها على أي تحرك لمساندة الفلسطينيين.

ومن الأردن الى لبنان، الذي يقول حبش إن «اختياره للاقامة فرض نفسه» على الفلسطينيين، كون «النظام السوري لم يكن يسمح بعمليات ضد اسرائيل من الجولان»، في حين أن اتفاقية القاهرة الموقعة سنة 1969 تعطي الفدائيين الحق بمهاجمة اسرائيل من جنوب لبنان.

وفي موازاة هذا الانتقال ترسخت لدى حبش أهمية وحدة الفصائل الفلسطينية، وهو ما جعله يحمل الجبهة على الانضمام الى المجلس الوطني الفلسطيني على رغم شجبه مواقف رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في حينه ياسر عرفات حيال الأنظمة العربية والألاعيب التي كان يمارسها «لإبقاء الأنظار مسلطة عليه».

وتمحورت المشاكل مع عرفات حول «ازدواجيته فهو يعد بشيء ويفعل عكسه»، إذ أن «رهانه كان ديبلوماسياً، أما نحن فكنا نقول إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة».

لكن هذا التباين لم يحل دون إقرار حبش بأن خطاب عرفات أمام الأمم المتحدة «اعتراف مهم وجيد بالشعب الفلسطيني».

ويتوقف عند الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 بعد استعراض فترة الاستياء اللبناني من المقاومة التي بدأت تبرز منذ سنة 1973، فيقول إن هذه الحرب كانت «حرباً طائفية، ليست على صلة مباشرة بالفلسطينيين، بل بالهوة القائمة بين اللبنانيين أنفسهم». ويستحضر بالتفصيل كواليس الحرب والعلاقة مع الحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط، ويعبر عن استيائه لما تخلل تلك الفترة من تجاوزات «بشعة» ارتكبها الكتائب وأيضاً الحركة الوطنية، والمقاومة التي أسيئت سمعتها».

وبالتوقف عند التدخل السوري في الحرب سنة 1976، يذكر حبش ان الكتائب اتصلوا بالأميركيين طالبين المساعدة بعد أن بدأت الكفة تميل لمصلحة الحركة الوطنية والمقاومة، وأن هؤلاء (الاميركيين) اقنعوا السوريين بالتدخل بعد أن «تخوفوا من انتصار الحركة الوطنية والمقاومة» ومن تصاعد شعبية جنبلاط «صاحب الشخصية الكاريزماتية» الى جانب كونه من دعاة الديموقراطية، مما جعل سورية تعتبره تهديداً.

و «لولا سورية» يؤكد حبش «لكنا كسبنا المعركة» وكانت الحركة الوطنية بزعامة جنبلاط تولت الحكم في لبنان، «وهذا ما ثبت على رغم نفيهم المتكرر، عبر اغتيال جنبلاط سنة 1977».

وعلى رغم ارتيابه حيال النظام السوري، يؤكد حبش أن «علاقة متميزة» جمعته بالرئيس الراحل حافظ الاسد، الذي كان «يحترم كفاحي وصدقيتي». ويعتبر أن هذه العلاقة حالت دون طرده من سورية عند مقابلته الرئيس العراقي السابق صدام حسين مطلع التسعينات، لكنه لم يقابل «نجله الذي خلفه في الرئاسة» الرئيس بشار الاسد.

ويوضح حبش مجموعة العلاقات الدولية التي أقامتها الجبهة مع دول مثل الاتحاد السوفياتي في حينه وكوريا الشمالية والصين وكوبا، التي ارتبط بعلاقة صداقة ومودة وثيقة بزعيمها فيدل كاسترو، أثارت غيرة عرفات الذي لم يكن كاسترو يحبذ «تقاربه مع اسرائيل والولايات المتحدة».

ويتضمن الكتاب فصولاً حول الاجتياح الاسرائيلي للبنان سنة 1982 وإجلاء الفلسطينيين، واضطرارهم للجوء مجدداً، وايضاً الانتفاضة الفلسطينية الأولى وحرب الخليج الأولى ومن ثم مفاوضات أوسلو وادانته الاتفاقية التي انبثقت منها، كونها «لا تقدم للفلسطينيين الحد الأدنى لما يطالبون به»، وصولاً الى الوضع الراهن في الأراضي الفلسطينية وبروز التيارات الاسلامية في العالم العربي ومنها حركة «حماس».

ويختتم حبش كتابه بعرض تصوره للحل الوحيد الممكن في رأيه للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي ويقضي بإنشاء «دولة علمانية يتعايش فيها اليهود والفلسطينيون» قبل أن يعمل الغرب على «استغلال الشعب اليهودي، أرضاء لمصالحه».

ويشدّد على حق العودة، باعتباره من المسلمات التي لا يمكن التفريط بها، ويقول في الجملة الأخيرة من الكتاب «حتى آخر لحظة سأستمر في النضال لتحقيق» هذا الهدف.

قبل حوالي اسبوعين دفن حبش وكان سبقه الى ذلك عرفات ووديع حداد وسواهم من جيل مؤسسي الحركة الوطنية الفلسطينية، لكن ارتدادات الوضع الدولي على المنطقة كانت دفنت قبل ذلك حلم جيل عربي بأكمله بالتغيير نحو الأفضل.

آرليت خوري

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...