«حياة محمد»لألفونس دو لا مارتين

02-12-2006

«حياة محمد»لألفونس دو لا مارتين

كتاب «حياة محمد» للأديب والشاعر الرومانسي الفرنسي «الفونس دو لا مارتين» هو من الأعمال غير المعروفة لهذا الشاعر الشهير، والسبب هو التعتيم نتيجة الحملة العدائية التي تعرض لها في زمانه من طرف الكثير من المثقفين والمفكرين الفرنسيين، نظراً الى ما تضمنه الكتاب من آراء مدافعة عن الإسلام ونبيّه.

ويمثل هذا الكتاب المجلد الأول من كتابه «تاريخ تركيا» الذي يشتمل على ستة مجلدات، وخصصه لامارتين من أجل الحديث عن نبي الإسلام وعن السيرة النبوية وسيرة الصحابة. وكانت غايته من الكتابة عن تاريخ تركيا التعريف بالأصول الدينية والفكرية لامبراطوريتها العثمانية، وكذلك تقريب الديانة الإسلامية إلى أذهان عامة الفرنسيين.

وتأتي ترجمة أجزاء من هذا الكتاب تحت عنوان «مختارات من حياة محمد» إلى اللغة العربية في إطار الاستعدادات للدورة العاشرة التي تعتزم عقدها جائزة عبدالعزيز البابطين للإبداع الشعري في باريس في الفترة ما بين الحادي والثلاثين من تشرين الأول (اكتوبر) الماضي إلى الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث أصدرت المؤسسة سلسلة من الكتب تحت عنوان «الفونس دو لامارتين وأحمد شوقي»، وهو عنوان الدورة المقبلة نفسها. والهدف من ذلك رغبة المؤسسة «في التواصل مرة أخرى مع الغرب ومحاورته حضارياً». وقد ترجم الكتاب محمد قوبلة وراجعه أحمد درويش، كما أصدرت المؤسسة مختارات من شعر لامارتين.

ولا شك في أن هذا الكتاب من الأعمال الفكرية الكبرى التي تؤسس لدعائم التقارب والتفاهم ما بين الأديان، ويكتسي أهميته من هذا الظرف الذي تكثر فيه محاولات العديد من المغرضين، خصوصاً في وسائل الإعلام الأوروبية للإساءة، ليس فقط إلى الإسلام والمجتمعات الإسلامية، بل وإلى الجاليات العربية والإسلامية الموجودة في أوروبا وأميركا، والتي أصبحت تشكل عنصراً بشرياً هاماً في تكوين المجتمعات الأوروبية ذاتها، على رغم أن التشكيل المقبل للثقافة الغربية في ضوء هذا الوجود الإسلامي الغربي من المواطنين الغربيين المسلمين في الغرب هو من الأشياء الحتمية لضرورة الأخذ في الاعتبار قيم وثقافات هؤلاء المسلمين في أوروبا.

وفي أيامنا هذه، وبعد انقضاء خمس سنوات على أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن، ما زالت أجهزة الإعلام الأوروبية تحفل بأنباء الصراعات والحروب التي يسوّقها الساسة الأميركيون والأوروبيون، ويدعي فاعلوها أنهم يتحدثون باسم الإسلام، فيما يجهد الكثير من المفكرين والمثقفين أنفسهم لتأكيد تنظيراتهم لما يسمونه التصادم بين الحضارات والصراع بين الديانات والثقافات، حتى بات العربي والمسلم في موقع لا يحسد عليه، إذ يجد نفسه فرداً ملاحقاً بنظرات الآخرين وكراهيتهم، وبوصفهم مختلفين عنه ولا يمكنهم العيش معه في سلام دائم.

من هنا تأتي أهمية كتاب لامارتين الذي يقدم كثيراً من الوضوح في تيسير مهمة التفاهم الحضاري والتعايش الثقافي، كونه جاء بقلم أحد كبار الشعراء والمفكرين الأوروبيين. وهذا لا يقلل من جهود المفكرين العرب والمسلمين حين يحاولون توضيح وتقريب الإسلام للإنسان الغربي، لكن تأويل الإسلام وتقريبه من قلب الحضارة الأوروبية نفسها على يد أقلام كبرى من داخلها مثل لامارتين و «غوته» يكتسي أهمية كبرى في عصرنا الراهن، وحسبنا أن نتذكر في هذا السياق مقولة الشاعر والفيلسوف الألماني «غوته» في ديوانه الشعري المسمى بالديوان الشرقي: «إذا كان الإسلام يعني التسليم لله، فعلى الإسلام نعيش ونموت جميعاً».

ويبدأ لامارتين كتابه زاعماً أن أصوله العائلية ترجع إلى الدولة الأندلسية، بمعنى أنه كان يبحث في شكل أو آخر لنفسه عن جذور عربية إسلامية، الأمر الذي يدعم القول بأن دراسة الإسلام لديه ما هي إلا محاولة للتعريف بأصوله الذاتية، لذا نجده يبدأ بتفكيك اسم عائلته إلى «اللامارتيين»، ويترجمه إلى «الخاضعين لأمر الله أو خدام الله». ولا يتوانى في سياق كتابه عن توظيف الكثير من التعابير والمفاهيم المسيحية من أجل تقريب الديانة الإسلامية إلى أذهان المسيحيين في أوروبا عامة وفرنسا على وجه الخصوص. فعلى سبيل المثال، حين يتحدث عن الإسلام متوجهاً إلى الكاتب والشاعر الفرنسي» ألفريد دو فيني» يقول له: «إن الإسلام هو المسيحية المطهرة». ثم يؤكد المقولة ذاتها من خلال العودة إلى تفاصيل الهجرة الأولى للمسلمين نحو الحبشة، مستشهدا بقول النجاشي في معرض تعليقه على الحوار بين كفار مكة والمسلمين، قائلاً للمسلمين: «ليس هنالك فرق بين ما تقولونه عن المسيح عليه السلام وبين ما تقوله الديانة المسيحية». وهنا يعلق لامارتين على هذه الواقعة بالقول: «من الواضح أن القرآن في حرفه وروحه هو الثمرة التي أينعت في الصحراء بعد بذرة الإنجيل».

ولد «ألفونس دو لا مارتين» في 21 اكتوبر من عام 1790 بـ «ماكون» إحدى بلدات مقاطعة الإلوار في فرنسا، وقام في مقتبل عمره برحلة إلى إيطاليا، محج الفنانين وقلب الثّقافة النّابض في أوروبا في ذلك الوقت، ثم التحق مبكّراً بخدمة الملك لويس الثّامن، وتزامن ذلك مع بداية تفتّق موهبته كشاعر. وحاز ديوانه الأول «تأمّلات شعرية» على نجاح منقطع النّظير، وهو بحقّ أول مجموعة أعمال رومانسية في تاريخ الأدب الفرنسي، ثم حظي بعد سلسلة من الأعمال الشعرية بلقب رائد الرومانسية.

استأثرت الموضوعات الدينية بأهمية كبرى في شعر لامارتين، وهو أمر يستشعره القارئ بقوّةٍ في مجموعته «تناغمات شعرية دينية»(1830)، لكن موت ابنة الشّاعر جوليا، سنة 1832، وانخراطه المتنامي في العمل السياسي كان لهما عميق الأثر في فكره وقناعاته الدّينية، حيث أصبح يُعرف بحماسه الزّائد في الدَّعوة إلى تصوُّر أكثر تحرُّراً وعدالة للمسيحيّة.

بلغ التّأثير السياسي لـ «لامارتين» ذروته في سنة 1898 إبّان تعيينه وزيراً للخارجية الفرنسية. ثم جاء الانقلاب الذي قاده نابليون الثّالث عام 1851 لينهي طموحات لامارتين ويجبره على الانسحاب من المشهد السياسي. واضطر الشّاعر الكبير، بعد أن حاصرته الديون الكثيرة، إلى أن ينجز مُكرَهاً أعمالا أدبية لم تكن تعني له الشّيء الكثير. وتوفي لامارتين في 28 شباط (فبراير) من عام 1869 في مدينة باريس، وسط قسوة ولا مبالاة الجمهور الأدبي والثقافي الفرنسي.

عمر كوش

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...