ما بعد البابا شنودة

07-12-2006

ما بعد البابا شنودة

الحديث هذه الأيام يتصاعد حول صحة البابا شنودة، وهل اقترب من النهاية؟ ومع أن الأعمار بيد الله تعالى, فإن القدر المتيقن هو أن هناك تدهورا في قدرات البابا شنودة الصحية، وأن هذا يؤثر على قدرته على الإمساك بكل خيوط المسؤولية داخل الكنيسة المصرية، وهو أمر جديد على الكنيسة في ظل البابا شنودة.

فقد اعتاد الرجل على أن يمسك بكل خيوط الأمور، واستطاع أن يحقق كاريزما قبطية متميزة وأن يفرض نفسه على الشأن القبطي المصري داخل الكنيسة وخارجها.

أجري البابا شنودة عملية جراحية لإزالة غضروف من العمود الفقري في أحد المستشفيات الأميركية وقد نجحت تلك العملية، وكانت هذه فرصة للحديث عمن يخلف البابا شنودة في حالة موته، لأنه من المعروف أن منصب البابا يظل مرتبطا بالشخص الذي تم اختياره حتى يموت، ولا يمكن تغييره بقرار سياسي أو كنسي.

وحتى الرئيس المصري محمد أنور السادات عندما أراد الإطاحة بالبابا شنودة عام 1981 في إطار ما يسمى بقرارات سبتمبر/أيلول 1981 لم يجد طريقه إلى ذلك إلا شلحه عن كرسي البابوية فقط لا عزله وتعيين كاهن آخر مكانه.

وعلى أي حال فإن البابا شنودة شخصية قوية تتمتع بكاريزما كبيرة وقد ظل بطريركا للكنيسة المصرية "بطريرك الكرازة المرقصية" أي كنيسة القديس مرقص الأرثوذكسية التي تضم المسيحيين الأرثوذكس الشرقيين خاصة في مصر وأفريقيا وبعض بلاد المهجر، منذ اعتلائه المنصب عام 1971 خلفا للبابا كيرلس السادس.

والبابا شنودة هو البطريرك رقم 711 في تاريخ الكنيسة المصرية، ولا شك أن فترة رئاسته للكنيسة شهدت العديد من التطورات الإيجابية والسلبية.

وكانت السمة الرئيسية لتلك الفترة هي الارتباط القوي بشخصية البابا، حيث استطاع أن يمسك بكل الخيوط ويربط الكنيسة بشخصه بصورة واضحة، كما لا شك في أن فترة رئاسة البابا شنودة للكنيسة اختلفت اختلافا نوعيا عن الفترة السابقة فترة البابا كيرلس.

- ويرجع هذا الاختلاف إلى عاملين أساسيين هما شخصية البابا شنودة القوية، واختلاف الظرف السياسي والاجتماعي المصري والعربي والدولي في فترة حكم البابا شنودة.

فقد شهدت تلك الفترة تطورا داخليا مصريا باتجاه الانفتاح الاقتصادي، ثم التحالف المصري الأميركي، وتوقيع اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني عام 1978 والصدام مع الدول العربية، ثم نهاية عصر السادات وصعود الرئيس حسني مبارك إلى السلطة، ثم تتابع انفراط الصمود العربي باتجاه التطبيع السري أو العلني مع الكيان الصهيوني، وسقوط الاتحاد السوفياتي السابق، وانفراد أميركا بالهيمنة على العالم.

وترجمة ذلك بالنسبة للأرثوذكس في مصر هي تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي وضعف قبضة الدولة وخاصة في المجال الفكري، ومن ثم أصبحت هناك أفكار تعادي سياسة الدولة أو لا ترتبط بها.

ومن ثم وجود ولاءات دينية أو طائفية عابرة للدولة، وكذا تقلص مساحة الطبقة الوسطى المصرية، ووجود عامل خارجي يمكنه أن يلعب على الوتر الطائفي، أو يمكن القوى الطائفية أن تستفيد منه في تعظيم قيمتها ومكاسبها داخليا.

ويمكن أن نقول إن هناك عددا من الميزات ارتبطت بالبابا شنودة وفترة رئاسته للكنيسة على النحو التالي:
ـ زيادة ارتباط المسيحيين الأرثوذكس بالكنيسة، لغياب أو ضعف الدور السياسي للدولة، أو لشخصية البابا نفسه أو لوجود ظروف دولية تدفع في هذا الاتجاه.

ـ ظهور أحداث فتنة طائفية متكررة، بل يمكن أن نقول إن الفتنة الطائفية تحولت من ظاهرة عابرة إلى أزمة بنيوية.
ـ تدخل البابا شنودة شخصيا في الشأن السياسي العام والخاص، بمعنى أنه خالف تقاليد الكنيسة المصرية التاريخية التي تميز بها بصورة خاصة البابا كيرلس في عدم التدخل في السياسة، والاهتمام بالشأن الروحي المسيحي الأرثوذكسي فقط.

وكانت لذلك آثار كبيرة على الشأن المصري إذ أصبح المراقبون ينظرون إلى الكنيسة كحزب سياسي يضم كل الأرثوذكس بقيادة البابا شنودة.

ـ زيادة نفوذ في ما يسمى بأقباط المهجر، نظرا لاتساع أهمية الإعلام والتداخل الدولي وكون العالم أصبح قرية إلكترونية صغيرة وكذا نظرا للنفوذ المالي لهؤلاء، ولتلقيهم الدعم المباشر وغير المباشر من منظمات أميركية وأوروبية وأحيانا صهيونية.

وهكذا فنحن أمام شخصية قوية، حكمت الكنيسة لمدة طويلة -حتى الآن 35 عاما- أحدثت تغييرات قوية في البنيان الكنسي التقليدي، وشهدت تغييرات درامية على الصعيد المصري والعربي والعالمي.

ومن ثم فإن غياب مثل هذه الشخصية سوف يكون له تأثير كبير على الواقع الكنسي المصري وربما الواقع الاجتماعي والسياسي المصري.

وبديهي أن الشخصيات القوية عندما تحكم مؤسسات معينة لمدة طويلة فإن غيابها يحدث نوعا من الهزة وأحيانا التفكيك في تلك المؤسسة، وهذه حقيقة يعترف بها علم الاجتماع السياسي، ولكن لكل حقيقة بالطبع استثناءات.

وعلى كل حال فإن من المتوقع حدوث هزة كبيرة في الكنيسة المصرية بغياب البابا شنودة، لأنه من الصعب أولا أن تخلف البابا شخصية قوية قادرة على فرض طاعتها السرية والعلنية على كل أتباع الكنيسة مثل البابا شنودة، وثانيا لأن هناك قوى وتيارات وأحوالا استجدّت وكلها تتربص للإمساك بأكبر قدر من خيوط الأمور ومن ثم الاستفادة منها.

- يبلغ المسيحيون المصريون عموما حوالي 6% من سكان مصر وفقا للإحصاءات الرسمية، ولكن هناك من يقول إن النسبة أقل من ذلك، وهناك آخرون يقولون -خاصة داخل أوساط الكنيسة- إن النسبة تبلغ 10%.

ولكن النظرة العلمية تقول إن النسبة الرسمية المعلنة من أجهزة الإحصاء المصرية صحيحة إلى حد كبير، لأن التعدادات السابقة حتى في عصر الاحتلال الإنجليزي كانت تقترب من ذلك.

وبديهي أن النسبة تقل باطراد بسبب الهجرة، ولأسباب تتصل بارتفاع سن الزواج وعدم تعدد زوجات عند المسيحيين ... إلخ.

ويبلغ الأرثوذكس من مجموع المسيحيين النسبة الأكبر (حوالي 90% من المسيحيين المصريين)، ويبلغ عدد الكنائس في مصر 1683 كنيسة رسمية، بالإضافة إلى 717 كنيسة ينتظر حصولها على الترخيص، أي أن العدد الكلي حوالي 2400 كنيسة.

ووفقا لتقاليد الكنيسة المصرية فإن انتخاب البابا يكون عن طريق القانون الصادر عام 1975 الذي تم على أساسه انتخاب البابوين الأخيرين كيرلس وشنودة.

وتنص لائحة ذلك القانون على أن يصوت على المرشحين للمنصب أعضاء المجمع المقدس المكون من الأساقفة في الداخل والمهجر، وكذا وجهاء الأقباط في كل مدينة تقع فيها مطرانية، ويقدر البعض عدد من لهم حق التصويت على البابا حاليا بحوالي 2000 شخص.

ويتم اختيار أعلى ثلاثة من المرشحين حصولاً على الأصوات، ثم يكتب اسم كل واحد منهم في ورقة ثم توضع في صندوق صغير في غرفة مظلمة، ثم يقوم طفل بسحب ورقة واحدة من الصندوق.

ومن يخرج اسمه بهذه الطريقة يكون هو البابا، ويصدر رئيس الجمهورية قرارا بترسيمه بابا للكنيسة، ولا يحق له عزله بعد ذلك.

ويمكننا أن نرصد ثلاثة اتجاهات تتصارع للفوز بمنصب البابوية وإن كانت هناك تداخلات وتقاطعات داخل هذه الاتجاهات.

وبعيدا عن الخوض في أسماء من يمثلون تلك الاتجاهات أو من سيقع عليهم الاختيار داخل كل اتجاه للترشيح لمنصب البابوية، فإن تلك الاتجاهات تتمثل في: مرشح مجموعة البابا نفسه، وهي تملك الكثير من الصلاحيات والأصوات بحكم سيطرتها على الكرسي لمدة طويلة.

وهناك اتجاه يتمثل في التيار المنفتح على أميركا والمهجر، وهو أيضا يتمتع بنفوذ كبير نظرا للدعم المالي والسياسي الذي يتلقاه من المهجر، وهذا الاتجاه سيدفع الكنيسة بالطبع في اتجاه العولمة والأمركة وعدم معارضة إسرائيل، وهو اتجاه خطير ولكنه حتى الآن لا يملك فرصة للنجاح، اللهم إلا إذا تم ضخ أموال وإحداث نوع من الاختراق في أصحاب الأصوات الذين من حقهم التصويت على المرشحين.

وهناك اتجاه ثالث يرى ضرورة عودة الكنيسة إلى سابق عهدها في الاقتصار على الأمور الروحية وعدم ممارسة السياسة، وأن سلوك البابا شنودة السياسي قاد الكنيسة والمسيحيين الأرثوذكس إلى مجموعة من الأزمات بلا داع ولا ضرورة.

ويرى هذا الاتجاه أن من الخطر المراهنة على المشروع الأميركي، بل إنه يجب الانحياز إلى المشروع الوطني والانفتاح على القوى السياسية المصرية، حكومة ومعارضة.

وهذا الاتجاه بالطبع يحظى برضا المؤسسات السيادية المصرية، وهذي بلا شك لا تملك أصواتا داخل المجمع الانتخابي الأرثوذكسي، ولكنها تملك نفوذا غير منظور يمكن أن يؤثر تأثيرا كبيرا على العملية الانتخابية.

ويمكننا أن نتوقع صراعا ساخنا علنيا ومستترا بين تلك التيارات والاتجاهات، وبين اتجاهات أخرى قد تبرز لإحداث نوع من التوازن أو حدوث انشقاقات تغير طبيعة المعركة، من معركة بين اتجاهات سياسية وفكرية إلى اتجاهات تمثل جهات أو مناطق أو أجيالا داخل الكنيسة.

ونتيجة لذلك الصراع سوف تتحدد الكثير من الأمور والقضايا، وسوف يكون لها تأثير كبير على مستقبل الكنيسة المصرية، وعلى شكل الحياة السياسية في مصر لفترة قادمة غير قصيرة.

محمد مورو

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...