كتاب جديد عن هنري ميللر

11-11-2006

كتاب جديد عن هنري ميللر

"عندما ينتصب واقفاً، كنت أجده أقصر بقليل مما هو عليه العملاق ميللر في خيالي". هكذا يتحدّث الكاتب والناشر الفرنسي كريستيان دو بارتيا عن لقائه مع الكاتب الأميركي الشهير هنري ميللر في دارته في بيغ سور على شاطئ كاليفورنيا. سيصف دو بارتيا في ما بعد، في مؤلفه الحواري الطويل "اعترافات في الثمانين"، ميللر العجوز كالآتي: "إنه شبيه جنكيز خان وقد تحوّل إلى بوذا".
الكتاب الصادر حديثاً بالعربية لدى دار "التوباد" التونسية، ترجمة خالد النجار، لا يقل أهمية عن كتب ميللر الأخرى مثل "مدار الجدي" و"مدار السرطان" و"عملاق ماروسي" وغيرها، طالما أننا إزاء شخص استمر يصوّر نفسه طوال حياته، ويكتب أوتوبورتريه هو سيرة كل إنسان، سيرة الإله والشيطان في آن واحد.
الممتع في هذا الحوار، ذاك النوع من الاختراق النفسي المتبادل بين المتحاورين: دو بارتيا شخص ذهني بالكامل، يذهب إلى عملاقه مسلّحاً باستفزازيته وبإتقانه اقتفاء الأثر، سيبدو لنا في أحيان كثيرة أكثر "ميللرية" من ميللر نفسه، وسيجعل الأخير يتساءل مرات: هل أنا قلت ذلك حقاً؟
لكن ميللر في النهاية كان سعيداً به، أو بالهالة النبوية التي أضفاها عليه ولا سيما حين سأله عن "الرسالة الميللرية" أو "فتّاحة العلب الكونية". في الواقع، أتقن دو بارتيا إيجاد المخارج له، أعاد صوغ أفكاره بأناقة فرنسية، ولم يكن من "كاتب الطبقة المتوسطة" إلا التواطؤ، طالما أنه في مصلحته هنا. هكذا، استهلّ دو بارتيا الحوار باعتباره "لحظة إلهية"، وأنهاه ميللر بإطلاق صفة "المأخوذ بالإله" على نفسه بدلاً من الرسول أو الساحر. المأخوذ بالإله هو "ذاك الذي يعرف أن يضحك وأن يُضحك الإله نفسه"، يشرح دو بارتيا. "إنه إنسان حر، ويستفيد من حريته ليفعل ما هو جيد، وينشر الفرح من حوله، وهو إنسان بلا خطيئة، بلا أحزان، يدفع إلى الضحك، بحيث أنه أداة بين يدي الإله"، يردف ميللر.
سيتقاذف الاثنان الكرة على ثلاث مجموعات من الأسئلة والأجوبة: طفولة هنري ميللر التي تحدّث عنها كثيراً وبما لا يكفي، طفولة الفيلسوف لا الكاتب التي تعني طفولة كل أطفال العالم أو كل بدايات البشر، رحلة عبر كتبه ووقائع حياته بحسب تسلسلها الزمني، وأخيراً الرسالة الميللرية، الرسالة الطبيعية أو رسالة الإنسانية التي تسير على درب انهيارها على قول ميللر.
الجزء الأول من الحوار يحمل عنوان "نظرة على الطفولة" ويقدّم موجزاً لمرحلة طبعت حياة ميللر إلى الأبد، فهو عاش السعادة حتى سن التاسعة قبل أن يقع في النقيض. عملياً، لم يكتفِ ميللر بتسعة أشهر بل مدد حياته "الرحمية" إلى سن التاسعة. عرف ميللر طفولة "أبولونية" بمعنى ما، سرعان ما تحوّلت "ديونيزوسية" (نسبة إلى الإله الإغريقي ديونيزوس حارس القوى الحسيّة لدى البشر)، والعودة إليها هنا تشبه العودة إلى شارع قريب من البيت الأبوي يحمل اسم "الرحم" بدلاً من العودة إلى الرحم نفسها: إنها عودة صورية وإسمية فحسب. على أي حال، الرحم أو المكان الأول تلائم تفكير ميللر المتبطّل، فيقول: "يحلو لي دائماً أن أتصوّر نفسي وقد عدت إلى الرحم، حيث أدخّن السيجار، هناك لدينا صور لبيكاسو على الجدران. إن المشهد في الداخل عجائبي، إنه الفردوس: فأنت محاط بالعناية الكاملة، لا مسؤوليات لك، وليس لديك ما تفعله". الرحم ليست التيمة الوحيدة في محور الطفولة، ثمة أيضاً "المرأة التي تصوغ الكائن" أو الأم، وعلاقة ميللر بوالدته وبالنساء الثلاث الأوائل اللواتي عرفهن في حياته (الأم والأخت والخالة) كانت كارثية: أم لا يحبها، وأخت بلهاء، وخالة مختبلة. هذا ما سينعكس على علاقاته المقبلة، فيختار العيش مع نساء مختلفات، سيّدات مجتمع غالباً، قبل أن يتزوّج من امرأة بولونية تشبه أمّه، باستثناء كونها أكثر ثقافة منها. وكما كره أمه السيئة في منحه حريته الكاملة في يفاعه، سيعود ليدافع راشداً وبكل قواه عن تلك الحرية.
لقاء الكاتب بالموت كان أثناء طفولته أيضاً، لكنه لم يكن لقاءً حزيناً بل هزلياً، لأن موت جدّه كان موتاً على الطريقة الألمانية: يدفن الأقارب الميت، ثم يجتمعون في حانة للترويح عن أنفسهم. وإذا كان العالم بأسره - بكل جنونه وانحلاله وأمراضه - اجتمع في عائلة ميللر، فقد شكّل الشارع أرضه الخصبة التي استقى منها شخصياته وحوادث كتبه: كان الشارع بمعنى ما رحمه الحقيقية.
في الجزء الثاني يطلق دو بارتيا لقب "الرواية الأوتوبيوغرافية" على أعمال ميللر، رواية السيرة أو الترجمة الذاتية، المقابلة لرواية مسرح عالم البشر الدوستويفسكية. من المعروف أن ميللر بدأ بالكتابة في سن الثالثة والثلاثين أو سن صلب المسيح، وعن ذلك يعلّق: "نحن نكتشف أنفسنا حقيقة حيث نُصلب". إنجيل هذا الصلب سيكون "مدار السرطان" الذي كتبه ميللر عام 1932، وكان "أول عدو له نحو المطلق"، بل "تهجّؤه الإلهي الأول"، الذي سيكتمل مع ظهور توأمه "مدار الجدي" أو ناطحة السحاب المضادة لأميركا. علاقة ميللر بالكتب مرتبطة بعلاقته بالأماكن: باريس التي استمرّ في تخيّلها رافضاً صورتها الواقعية حتى بعد عيشه فيها، اليونان حيث وجد صفاءه الروحي بسبب تمازج الآلهة مع البشر بدلاً من تعاليها عليهم، ثم الولايات المتحدة أرض الميعاد المكروهة التي عاد إليها مجبراً.
أما الجزء الثالث فمخصص للرسالة الميللرية، المرتبطة بعبارات مثل: "المفارقة الحيّة"، "افتحوا بوابات العالم كلها"، و"المستحيل ممكن". هذه الرسالة الذي يركّز دو بارتيا على شموليتها، يعود ميللر الى التشديد على خصوصيتها: لكل منا درب خلاصه الخاص، ليس ثمة مخلّص للبشرية، إذاً كل منّا مخلّص نفسه. وهو بذلك يتنصّل من مسؤولية كهنوتية أدبية حاول دو بارتيا توريطه فيها، معتبراً أن الحكمة الحقيقية تعني العودة إلى الطفولة، ومشدداً على كون فلسفته مرحة، أي متسامحة، لأن جوهر الفلسفة هو الجنون المحض: أن نرى العدم أو نفكّر داخله يعني أن نمزّق الحجاب الأخير الذي هو أنفسنا. ويبدو ميللر مؤمناً بفكرة التقمّص، مقسّماً الكون عوالم ثلاثة: عالم الرحم، وعالم الحياة، وعالم ما بعد الموت، البرزخ، أو "درفهام" بحسب التسمية الهندية، حيث يعيد الأموات حساباتهم استعداداً لحياة أخرى.
نكتشف الكثير عن ميللر في هذا الكتاب، عن ذلك الشيطان داخل الجنة. نكتشف تحديداً كابوسه الخاص: ذات يوم وأثناء حلاقة ذقنه، يفاجأ بأن الوجه الذي تعكسه المرآة ليس وجهه، وحينذاك فقط يوقن أنه أصبح مجنوناً. هل يحتاج واحد من أكثر كتّاب الجنس البشري جاذبيةً إلى كابوس كهذا للإعلان رسمياً عن جنونه؟

زينب عساف

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...