في الذكرى الحادية والستين للنكبة: فلسطينيات مجهولة في التجربة الرحبانية

28-05-2009

في الذكرى الحادية والستين للنكبة: فلسطينيات مجهولة في التجربة الرحبانية

بعد واحد وستين عاماً على نكبة فلسطين لم تزل الأغنية الرحبانية، هي الأكثر التصاقاً بنبض القضية، والأكثر عمقاً وشمولاً في التعبير عن فصولها وعن مكانتها في الوجدان العربي... ولم يزل الاهتمام باكتشاف أعمال جديدة لامست هذه القضية، يدفع العديد من الباحثين والمهتمين بالتراث الرحباني للتنقيب في التسجيلات القديمة، والسعي لتأويل مضامينها التي تحفل بالكثير من الرسائل المنسية اليوم.
وقد سبق لنا أن تحدثنا عن الأعمال الشهيرة التي قدمها الأخوان رحباني والسيدة فيروز، والتي تذاع وتستعاد بكثرة في كل مناسبة، والتي كانت درة تاجها أغنية (زهرة المدائن) التي قدمت عقب سقوط القدس الشرقية بيد الاحتلال عام 1967... أما في هذه الدراسة، فنلقي الضوء على أعمال بعضها شبه مجهول، وبعضها لم يأخذ حقه من الدراسة والاهتمام الكافيين في سياق ما كتب عن فلسطينيات الأخوين رحباني والسيدة فيروز... وبعضها ربما كان ضحية شهرة أعمال أخرى لفيروز والأخوين رحباني أيضاً!

عام 1954 أصدر الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد ديوانه الأول (مع الغرباء) الذي صدر عن رابطة الأدب الحديث في القاهرة بتقديم الناقد الدكتور عبد المنعم خفاجي.. وقد كتب على الغلاف أنه من تأليف: (شاعر فلسطين القومي) وعندما زار الأخوين رحباني القاهرة عام 1955 بدعوة من إذاعة صوت العرب في القاهرة، وعرض عليهم تقديم أغنيات عن فلسطين، اختارا لهارون هاشم رشيد قصيدة (سنرجع يوماً) التي اشتهرت وذاعت، وصارت من كلاسيكيات الرحابنة الشهيرة في سياق الغناء لفلسطين... إلا أن هناك عملاً بات شبه منسي اليوم للشاعر هارون هاشم رشيد أيضاً، قدمه الرحابنة بصوت فيروز، وكان عنوانه: (الغرباء) وهو من القصائد الأولى التي كتبها الشاعر، ونشرها في ديوانه الأول.
العمل ليس قصيدة بل هو مغناة شعرية، تنطوي على بنية درامية فيها تعدد أصوات... وتقوم على حوار بين فتاة فلسطينية تدعى (ليلى) وبين والدها العجوز الذي يعيش مع أسرته مرارة حياة اللجوء... ومن أجوائه:
أتت ليلى لوالدها وفي أحداقها ألم
وفي أحشائها نارٌ من الأشواق تضطرم
وقد غامت بعينيها طيوف هزها سقم
وقد نام البهيج أسى فلا صوت ولا نغم
أتت ليلى لوالدها وقد أهوى به الهرم
وقالت وهي من لهف بها الآلام تحتدم
لماذا نحن يا أبتي لماذا نحن أغراب
أليس لنا بهذا الكون أصحاب وأحباب
أليس لنا أخلاء أليس أحباء
لماذا نحن يا أبتي لماذا نحن أغراب؟!
وتنتقل هذه المغناة بين مناخات درامية عدة، لتصور حياة الخير والعطاء التي كان يحياها الفلسطيني في حمى وطنه، ولتعبر برؤية رومانسية عن التماهي مع جمال الطبيعة باعتبارها الذكرى الأجمل لصورة الوطن السليب، ثم لتطرح أسئلة مبهمة عن انقلاب تلك الحياة الهانئة، وتشرد الأسرة، واختفاء الأخ في رحلة غياب طويلة:
سألتك أمس عن أمي التي ذهبت ولم ترجع
سألتك وخافقي يشكو.. سألت ومقلتي تدمع
وأنت مغلغل في الصمت لا تحكي ولا تسمع
ويمعن يا أبي صمتك ولا ينفذ لي صوتك
فأصرخ... يا أبي قل لي لماذا نحن أغراب
سألتك منذ أيام... سألتك عن أخي أحمد
وكدت تزيح عن عيني ذاك الخاطر الأسود
وكدت تقول لي قد مات يا ليلى.. قد استشهد
ولكنك لم تفعل
لماذا نحن يا أبتي.. لماذا نحن أغراب؟
إلا أن هذه الحوارية، لا تبقى أسيرة هذه النبرة الميلودرامية الحزينة، وهي لا تنتهي إلى الندب والصراخ، بل تبشر أخيراً بالنصر وحلم الرجوع، واستعادة الوطن الصليب، حيث ينطلق صوت الأب، ليجيب على كل تلك التساؤلات والأحزان:
وترعد صرخة ابنته وتطرق في الدجى سمعه
فيصرخ سوف نرجعه سنرجع ذلك الوطنا
فلن نرضى له بدلا ولن نرضى له ثمنا
ولن يعتلنا جوع ولن يرهقنا فقر
لنا أمل سيدفعنا إذا ما لوح الثأر
وصبرا.. يا ابنتي صبرا
غداة غد لنا النصر

وللشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي الشهير بأبي سلمى (طولكرم 1909- دمشق 1980)، اختار الأخوان رحباني من ديوانه (المشرّد) الصادر في دمشق عام 1953، قصيدة بعنوان: (داري) لتغنيها فيروز... ضمن ما غنته لصالح إذاعة دمشق في خمسينيات القرن العشرين.
القصيدة رغم شهرتها الأدبية (درست في المقررات المدرسية في عدد من الدول العربية)، تبدو مجهولة في سياق الحديث عن قصائد القضية الفلسطينية التي قدمها الرحابنة والسيدة فيروز، وفيها يتحدث الشاعر عن الوطن السليب، باعتباره الدار والملاذ والآمن، وموئل الأحباب والسمار... وفي هذا تعبير عن الرؤية التي كان ينشدها الأخوين رحباني، أي الحديث عن الوطن بخصوصيته الذاتية، وبما يعينه في السجل الذاتي لكل فرد من أبنائه، قبل أن يكون شعاراً أو قضية كبرى وحسب... يقول أبو سلمى في مطلع قصيدة (داري):
هل تسألينَ النجمَ عن داري
وأين أحبابي وسُمّاري
داري التي أغفتْ على ربوة
حالمة بالمجد والغار
تفتّح الزهرُ على خدها
فعطرتْ أيام آذار
وقد غنت فيروز ستة عشر بيتاً من أبيات القصيدة البالغة ثلاثين بيتاً، وقد حفلت القصيدة بالطبع بمشاعر الحنين، وآلام البعد عن الموطن وذكريات الطفولة، إلا أنها ختمت على نبرة الأمل واليقين بالعودة واللقاء تحت راية موكب الأحرار:
داري التي توشـــحت بالسـنى
فيــه لظى قلبٍ وأفكار
ما خطر الجبار في ساحها
إلا صرعنا ألفَ جبار
ما خفقتْ عند اللقا رايـةٌ
إلا على موكب أحرار
بيارتنا زرعناها
ومن تسجيلات إذاعة دمشق، التي كانت الحضن الدافئ للتجربة الرحبانية في الخمسينيات، نعثر على عمل غنائي مؤلف من مجموعة مقاطع وأغنيات مكرسة لفلسطين، كانت قد قدمته السيدة فيروز على مسرح معرض دمشق الدولي عام 1959
العمل بمجمله يرسم صورة شعرية احتفالية للحياة الفلسطينية بطقوسها وأعيادها المترعة بالبهجة والخصب... ولذلك نجد فاتحته استحضار صورة العيد بصوت الكورس الذي ينشد بروح جماعية آسرة:
عيد.. عيد أرضنا عيد
أرضنا خصب وعناقيد
تهلّ غصون وتعلو
تضيء وعودٌ وتحلو
يد في التلالِ تهز الدوالي
تلمّ قطاف الجمال
واللحن هنا يتقاطع بشكل واضح مع لحن الأغنية الرحبانية الشهيرة: (أنا وبلادي صفاء)... إلا أن صورة أخرى لتلك البلاد التي صدح فيها الحب، تقدمها الأغنية التالية: (بلادي أغنية العصافير) والتي تنشدها السيدة فيروز، وكأنها تأتي استكمالا للصورة الاحتفالية التي افتتح بها الكورس:
بلادي أغنية العصافير وزهرة الأزاهير
تلال الرياح الشوادي
بلادي مطارح المجدّين بالشمس والمغنين
صباح الجني والحصاد
أنا قصيدة ورد وغنوة مجد ملء روابيها
أنا وجيعة قلب وزهرة درب على ملاهيها
ويستكمل الرحابنة رسم الصورة الرومانسية المستحضرة من دفتر الطبيعة الفلسطيني، بخصوصية مفرداته، حين ينشدون للبيارات في أغنية (بيارتنا زرعناها) والمعروف أن (البيارة) تعبير يطلق على حقول البرتقال والحمضيات في فلسطين كما ترسخ في الذاكرة العربية، المشرقية على الأقل... تقول أغنية: (بيارتنا زرعناها)
بيّارتنا زرعناها مدّ العين فرشناها
سيّجناها حميناها بيّارتنا زرعناها
ويستمر نشيد الطبيعة والجمال، ليهتف بمشاعر الحنين الذي يهتف بالقلوب والأسماع، وخصوصاً حين يسري عبر صوت فيروز... حاملا معه اليقين الراسخ بالرجوع:
في البال بيّارة تلوح وراء الروابي،
كمن هي في ضباب،
وأشجارها زكية يهاجر منها يمام،
يجيء يرفّ علينا... يقول حنّت إلينا
ويبكي ويهدي السلام
سنرجع كل التراب، ونهدم تلك الضبابة
ويوم نعود ونحيا نغني على كل دنيا
بيّارتنا زرعناها، مدّ العين فرشناها
سيّجناها حميناها، بيّارتنا زرعناها

ومن التسجيلات النادرة التي نعثر عليها في أرشيف إذاعة دمشق ايضاً، مغناة (حصاد ورماح) التي قدمها الأخوان رحباني عام 1963، وفي هذه المغناة، يمزج الرحابنة بين الصورة العمل الأحب في دورة الطبيعة والإنسان: (الحصاد) الذي كان نواة أول أعمالهم الغنائية في الخمسينيات... والذي كان محور الكثير من أغنياتهم اللاحقة عن الضيعة اللبنانية... يمزجون هذه الصورة مع أجواء الكفاح، والساعد الذي يشرع السلاح، من دون أن ينسوا بالطبع، أن يستحضروا رمز فلسطين المقدس: شجرة الزيتون... ويبدؤونها على النحو التالي:
قصّتنا الحصاد والسهر والقمح والرياح والرماح
فساعدٌ يستنبتُ الثمر وساعدٌ يشرِّع السلاح
قصّتنا الأبطال والزيتون وقرية تضحك للسماء
تحرس خطّ الشوك والفداء
وفي مغناة يمتزج الحب بالفداء... بالبقاء في الأرض... بالصلاة على ذرى القدس، ليشكل لوحة درامية غنية بالرموز والدلالات:
لمحتُه حبيبي عند شريط الشوك والفداء
مهلّلاً في ساعة الفداء
أغنيتي إليك، على ذرى القدس أنا أصلّي
يا ربّي تذكر وطني وأهلي
وأدمعي تذْكرني لديك
لم يذكر الرحابنة اسم فلسطين أو أسماء مدنها في كل ما قدموا من قصائد وأغنيات عن القضية الفلسطينية... ذلك أن نتاجهم القومي هذا، جاء منسجماً تماماً مع تقاليد المدرسة الرومانسية التي جسدوها في تجربتهم الغنائية أبرع تجسيد... ولذا نجد العديد من الأعمال، التي لا تتحدث صراحة عن فلسطين، لكنها بالتأكيد تحمل إشارات واضحة عن الحنين إليها، وحلم العودة إلى أرضها... ومن هذه الأعمال قصيدة (لا تنسني) التي تتخذ من فصل الربيع، موئلا للذكرى... ذكرى الحبيب البعيد، وذكرى الوطن الذي صار أبعد:
لا تنسني عاد الربيع... تلالنا الزواهي
لحن هني وفي الربى طير وجيع
يحكي عن الدواهي في موطني
ويستمر الحديث عن البعد لتصبح الغربة (هناك) خارج الوطن... ويغدو الوطن هو قصة الحب التي كانت في الأيام السعيدة، وهو الذكرى التي يجب ألا تنسى:
لا تنسني أنا هناك والزهرة البعيدة
تسألني إذا حكيت عن هواك
حكاية سعيدة.... لا تنسني

(القرى) أيضاّ عمل يندرج في سياق الأعمال التعبيرية الأخاذة عن فلسطين... والمعروف أن (القرية) هي المكان الأمثل الذي يختصر ذاكرة فلسطين وجغرافيتها... وقد اختار الرحابنة تعبير (القرى) لمحاكاة الطبيعة الفلسطينية. يقول الأخوين رحباني في (القرى):
تلك القرى يا سحرها نغم على شفة الجمال
وقلائـــــد بيض معلقـة بأعناق الجبال
يغفو شعاع الشمس في واحاتها الخضر الظلال
وتمُوج في الأبعاد دامعة النوافذ كاللآلئ
تلك القرى حيث الضباب يرف مطلوق الجنـاح
وترتل الأحراج والغابات ألحان الرياح
ويطل وجه الذكريات الحلو من كل النـــــواحي
ألعيد والأجداد والزمن الغفي على الســـــــماح
إن الحديث عن الذكريات التي يطل وجها في هتاف الحنين، ليس حديثا رومانسياً وحسب، بل هو جزء من تراجيديا اللجوء، وصورة من صور تغير الزمن الذي شرد الأهل... ولذلك ينطلق صوت الانتماء، والاعتزاز بالأرض التي نروي عنها، كي لا ننساها، وكي لا تغيب عن البال:
أنا من هناك من القرى أقبلتُ مرتفع الجبين
أروي لمن ألقاه عن أرضي أناشيد الفتون
بي كبرياء جبالها وتواضع السهل الأمين
بي من نياسمها أهازيجٌ تموّجُ بالحنين
ويستخدم الرحابنة، في هذه القصيدة أيضاً، تعبيراً طالما اشتهر في مغناة (راجعون) ألا وهو (الدروب السمر) وهي كناية شعرية عن الطرقات الترابية، التي تميز درب الوصول إلى القرية، ليكون جزءاً من تولهات ذاكرة تعشق ذلك التراب، مهما طال زمن البعاد:
أهوى الدروب السمر حيث تمر أطياف الصبايا
أهوى القرى المتعرجـات النائمات على الحنايا
وأحب ذياك التراب وصمته عند العشـايا
أنا منـه ما طال البعاد، وما نأت عنه خطايا

إن هذه الأعمال وسواها، تكشف المكانة الأثيرة التي احتلتها قضية فلسطين في التجربة الرحبانية على مر عقود، أثمرت عشرات الأعمال والقصائد الغنائية الهامة... ولعل العودة إلى دراستها اليوم، لا تشكل بحثاً في دفاتر الماضي العتيقة، بل هي عودة ضرورية وهامة، لأنها تقدم صورة من صور خلود العمل الفني، وقدرته على إثارة الاهتمام باستمرار، حين يولد على قدر كبير من الصدق... صدق الموهبة... وصدق الإيمان بالقضية.

محمد منصور

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...