عرابي يستعيد دمشق ومعلا يفتح أبواب الجحيم

15-11-2007

عرابي يستعيد دمشق ومعلا يفتح أبواب الجحيم

- أسعد عرابي يرسم دمشق الأعماقImage removed.

بحثاً عن الزمن الضائع... في أحضان الحبيب الأوّل

عاد الفنّان السوري يبحث عن مدينته الفاضلة بين خرائب الروح، حيث المكان المشتهى لا ينفصل عن كائناته الغائمة وأشباحه. موعدكم، في «غاليري أيّام»، مع معرض ضخم لأعماله التي تشكّل وثيقة احتجاج بصرية ضدّ هذا الزمن المزيّف

بعد تجوال طويل بين دمشق وبيروت وباريس، قاده إلى تجارب وتيارات مختلفة، تراوح بين التعبيرية والتجريد وصولاً إلى التشخيصية المحدثة، يعود أسعد عرابي إلى منطقته التشكيلية الأثيرة في معرض ضخم تستضيفه حالياً «غاليري أيام» في دمشق تحت عنوان «شاميات».
التشكيلي والناقد السوري البارز ذو الهويات المتعددة، يستعيد مدينته الأولى دمشق بحواريها وأزقّتها وبشرها، لا من منطلق احتفالي ونوستالجي صرف، كما يوحي عنوان المعرض، بل من موقع إدانة واستغاثة ربما، لما أصاب المدينة العريقة من دمار روحي وقبح عمراني. تنسحب هنا الجماليات الجاهزة التي وسمت معظم تجارب المحترف السوري في تناول المدينة العريقة، لمصلحة سرد بصري آخر. سرد تدميري يضاهي ما كتبه زكريا تامر في «دمشق الحرائق» لجهة فضح ما وراء الأبواب المغلقة، وهتك شبحيّتها وأساطيرها، فاللوحة هنا بقدر ما ترصد المدينة لونياً وتعبيرياً، تضيء حوار الداخل وحميمياته وجوّانيته. وإذا بالمشهد ينفتح على وجد وندم في آن واحد، يناوش اليومي والمقيم ويصوغ سيرة مضمرة لبيوت وبشر وأسرار العتبات. هذا الشغف بالمدينة الأولى لا يلغي حال الهجاء لمصابها الأليم والمحزن، لكنّه من جهة أخرى محاولة لترميم الحلم المعطوب وعزله عن كابوسية اللحظة الراهنة وتأليف طبقات حلمية هي في نهاية المطاف، النص المشتهى والمؤجل والآفل.
أسعد عرابي الذي غادر دمشق منتصف سبعينيات القرن المنصرم إلى مغتربه الباريسي، وجد في عودته المتأخرة إلى «اسطنبول الشرق» مدينةً أخرى يكاد لا يعرفها لفرط تدمير نسيجها العمراني وحداثتها العرجاء. كأنها مدينة تتخلّى عن ذاكرتها عمداً لتتحول مكاناً سياحياً ينبذ خصوصيتها المعمارية وروحها الشرقية. المعرض إذاً في واحد من وجوهه، وثيقة احتجاج بصرية ضد وجع مدينة فقدت زينتها وحليّها وأقواسها وبيوتها الطينية، وهو من جهة ثانية محاولة حثيثة لإزاحة القشور الطارئة عن ملامحها الضائعة، واكتشاف مكمن الجمال النائم وراء الأصبغة العصرية المزيّفة والتحديث العشوائي.
يصف عرابي مدينته الأولى بـ«المدينة السلحفاة»، بأخاديدها وأقواسها المخفية ومشربياتها. تحتَ الدرع الصلب، تختفي خصائص ومقامات لونية وصوفية تصل إلى مستوى الوجد والغبطة اللونية، ما يعني أن مقاصد هذا المصوّر اللافت في المحترف التشكيلي العربي، تتجاوز الطللية الفولكلورية لتؤكد مثالاً على«التدمير الإيكولوجي (البيئي) الشمولي الذي لحق بدمشق وعناصرها الجمالية».
لا تنفصل دمشق عرابي عن كائناتها ذات الأشكال الغائمة والشبحية، في حوار محتدم في اللون والخط لتوليف مشهدية باهرة، تستحضر «ألف ليلة وليلة» على الطريقة الدمشقية، تشتبك في ظلالها الذاكرة وخيال الظل والمنمنمات الإسلامية، لكن بعد إطاحة منظورها الهندسي في تجوال طليق للريشة، ما يحوّل المعنى إلى إشارة أو رمز لذاكرة جمعية بأقصى حالات الزهد والتقشف. هكذا، تستدعي اللوحة أكثر من سطح للتوغّل إلى عوالم سرّية تستبطن روح الأشياء والكائنات، من خلال زعزعة النظرة التقليدية وبناء ذاكرة بصرية تستمد خطوطها ومنظورها من مخزون حكائي في الدرجة الأولى. ذلك عبر استدعاء خريطة لونية صادمة ومدهشة ومتفلتة من المعايير التقليدية، نحو حساسية تعمل على الحدس والنشوة والهدم. وإذا بتكوينات هذا المصوّر تتكشف عن مقامات وتوقيعات شرقية بإحالات ما بعد حداثية، هي نتاج مخزونه في المحترف الباريسي، وخصوصاً لجهة تعويم الأشكال في فضاء لوني لا يتوقف عند حدود، بل يتجاوز إطار اللوحة إلى مرجعيات حكائية وميثولوجية وموسيقية. الخراب الروحي الذي تقترحه أعمال عرابي، تقابله ذاكرة مستعادة هي بمثابة نداء استغاثة لوقف نزف المدينة القديمة بعمائرها الطينية الغاربة، وتذكُّر صبواتها وبيئتها الأصلية بوصفها مدينة الحلم والأسطورة. تختزل رباعية «ليلة الدخلة» مشاغل عرابي السردية في تناوبها بين الشبقي والمحرّم. نساء بملاءات سوداء، وعروس بكامل زينتها ووشوشات وراء الشبابيك. فيما تتماهى الجدران المائلة مع ديناميكية الحدث وعبثيته في لعبة مرايا متضادة ما بين الداخل والخارج، وإزاحة البنى الهندسية للمكان بشطحات لونية متجاورة على شكل وحدات نغمية متصاعدة هي في المآل الأخير ترجيع لانفعالات سردية. انفعالات تنتهي إلى كتل لولبية تمزج ما هو متنافر بإقصاء التفاصيل والعناصر الثانوية والزوائد، في مغامرة لونية صريحة، تضع المتلقي في مهب الدهشة. إذ يحرث عرابي في سطوح مغايرة، تسبر فضاء اللوحة شاقولياً، من دون نقطة ارتكاز أو بؤرة ضوء. فالنور يتسلل من زوايا متعددة بنظرة ارتدادية وجامحة، كمحصلة لتشريح الفراغ، أو لعلها «محاولة حثيثة في استرجاع براءة التواصل مع نواظم الكون والغرائز التشكيلية الأولى في التصوير».
لا تنفصل شخوص هذا الفنان عن محيطها الميثولوجي إذاً، إذ تحتمي أسرارها تحت الأقواس والعتبات والأبواب في علاقات متواشجة وقدرية لجهة الاستلاب والعزلة والصمت. هكذا، تصير ذاكرة المكان صدى ترجيعياً لجملة مقولات فكرية تقترحها اللوحة على شكل تعويذات وأشباح وشبق مكبوت، ضمن توليفات متحوّلة ومحتدمة في عناق وجودي ساحر.
يقول أسعد عرابي، موضحاً خياراته الجديدة، «يحتل الباب دوراً أساسياً في تخطيط الفراغ، داعياً المشاهد إلى عبور عتبة المرئي إلى مساحة الأسطورة والحلم. وتنزلق هذه السياحة عبر ثلاثة أبواب: باب سور المدينة، باب الحارة وباب الدار. إذ يعتلي السلّم درجات الفلك الأعلى كأنه يعتلي ذاته، متجاوزاً الباب إلى قبة السماء، ثم يتطهر الإثنان (الباب والسلم) من وظائفهما المعمارية وينقلبان إلى إشارات معراجية».
معرض «شاميات» مرثية حارّة وشهادة علنية على همجية المدن الهجينة التي تقتلع تاريخها وذاكرتها لتقف في العراء، من دون أن تحصل على نسختها الحداثية. وإذا بها صورة مسخية وعرجاء للعولمة الطارئة والتدمير المنهجي للذاكرة. فهل يكفي الحنين وحده لإنقاذ مدن الحلم؟

«معرض شاميات» / أسعد عرابي، حتى 29 ت2/ نوفمبر الحالي، «غاليري أيام» ـــــ دمشق: 00963116131088

 

- جداريّات أحمد معلا فصل في الجحيممن جدارية لمعلا هذا ليس الطوفان!.
انتبه، فما تراه في لوحات أحمد معلا الجديدة، ليس مسرحاً إغريقياً... وهذه الأجساد المتلاصقة والمتجاورة بأقنعتها ورعبها وفزعها، ليست فصلاً من جحيم دانتي أو كابوس إبادة جماعية. على بعد خطوات، هناك من يتمسك بخشبة خلاص وسط أمواج بحر متلاطم. هؤلاء ربما خرجوا من أوديسة هوميروس، بعد رحلة تيه مضنية. ولكن ماذا يجري تماماً في جداريات أحمد معلا في معرضه الجديد في صالة «آرت هاوس» الدمشقية؟
حشود بشرية في لجّة العاصفة، كما لو أنّها هاربة من حريق أو زلزال أو لعنة إلهية. نساء مسربلات بالألم والفجيعة في مسرح كوني، ورجال بلا ملامح يكتبون مراثي الحياة في حركة لولبية مستمرة ومحتدمة بالتحولات. فهذا الملوّن لا يقف في منطقة تشكيليّة صريحة، فهو ليس تعبيرياً صرفاً أو واقعياً، ولا حتى تشخيصياً. تجربته مغامرة مستمرة تستمد موضوعاتها من مرجعيات متعددة.
ألم يصغ قبل سنوات، نص سعد الله ونوس «طقوس الإشارات والتحولات»، بالأبيض والأسود بكل فجائعيته وانكساراته، وإذا به يصبغ الجدران بالأسود، ويفرش أرضية الصالة بالزفت ليدخلك في مهب الرعب. وكذلك رسم ملصقاً صارخاً عن «النساء والحرب»، ورؤية تشكيلية لنص ونوس الإشكالي «مغامرة رأس المملوك
جابر»؟.
هذا فنان يسعى إلى تفجير الأسئلة الغريزية الأولى بكل طاقته وتمرده وفوضاه، أسئلة الجسد والعقل، الخصب والفناء، الأمل والعدم، بضربات ريشة نزقة تطيح التفاصيل والملامح، لتحيل الكتل إلى مسوخ أو ملائكة. فينشئ مسرحاً افتراضياً في سينوغرافيا تضيء حركة المجاميع في حركيتها التراجيدية نحو قدرها المحتوم ومصائرها
الغامضة.
تحتشد السطوح بمناخات مشحونة بغنى حركي ودرامي، يشي بكارثة أو مأتم أو عرس، على خلفية غرافيكية صارمة، في نزهة لونية تتناوبها طقوس الألم والفرح، وتكوينات طربية يتحكم بها الضوء والظل من منظور جمالي مغاير، يبرر رحابة المساحة. هذا التعبير المشهدي ينسحب على كل مقترحات معلا الجديدة. حتى تلك التي تختزل المجاميع إلى ثنائيات متجاورة أو متنافرة، بقسوتها وشفافيتها، وتوترها وتمردها، وحوارياتها المضمرة.
لكن هذه العجائن في شكلها النهائي تخضع لتصورات ميتافيزيقية عن الحياة والموت، ما يكشف عن حيرة وجودية لدى هذا الفنان، وخصوصاً حين يمنح بعض أشكاله المتطاولة ملامح حسيّة، ورغبات في تجاوز برزخ الجحيم إلى مطهّر دنيوي للتمرّد على أقدارها.
في جداريته البحرية الغارقة في الأخضر، تتجاذب عشرات الأجساد أرواحها من غرق محتّم، كما لو أنّها في سفينة نوح تواجه الطوفان. وهنا على وجه التحديد، تتوضح قدرة معلا على التحكّم بخطوطه وألوانه ومشهدياته الضخمة، ما يحيل مرة أخرى إلى محاولته المزج بين ما هو ذهني ميتافيزيقي وحسي دنيوي، في ملامح تزيينية تراوده خلال اللمسات اللونية المبهجة.
ولعل اللافت في أعمال معلا الجديدة، تلك الخلائط اللونية الداكنة، وخصوصاً البنّي المحروق، ما يمنح المتلقّي ذاكرة أخرى تحيله إلى أجواء مختبر عصر النهضة الأوروبية، وكأنه بإعادة الأسئلة القديمة، يسعى إلى تحقيق رغبة دفينة في التلاعب على تاريخية الفن، وتجاوز الحدود الصارمة بين حقبه المتعاقبة، وخلخلة إيقاعه العمودي، ووضعه في وعاء واحد تبعاً لتطلعاته وهواجسه الشخصية... وفوضاه في رسم خريطة تمزج التضاريس على سطح واحد. هذه التطلعات، ليست جديدة، على أي حال، في تجربة هذا الفنان، فهي بشكل ما، استمرار لمشاغل قديمة، وتجارب تخفت وتحتدم بين عمل وآخر، من دون إهمال مغامرته في التجريب المستمر، سواء لجهة الموضوعات، أم لجهة الخلائط والأصباغ التي يركبها في مختبره اللوني. وهي في الغالب مواد محلية خاصة. كما علينا أن نتذكر هيمنة اختصاص أحمد معلا في الاتصالات البصرية، على مشاغله الجمالية والغرافيكية، ما يقود لوحته بالضرورة إلى صبغة إعلانية، على رغم محاولته محو الأثر في مرثياته وشهواته التجريبية ورهاناته على قوة الضوء في ختم رؤاه
البصرية.
يدرك هذا الملوّن السوري أن القلق والخراب الذي يحيق بشخوصه، لن يكون باباً للنجاة الفردية، فيزج بهذه الشخوص في حمأة الجحيم العام ليكشف حجم المأساة التي يواجهها إنسان العصر، إذ ليس هناك ضوء في نهاية النفق، ولا إشارة تدلّ على الخلاص.

www.arthousedamascus.com
غاليري آرتهاوس ـــ دمشق : 00963116628112

خليل صويلح

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...