الهندسة الوراثية بين الرفض والقبول

15-02-2010

الهندسة الوراثية بين الرفض والقبول

الجمل- يسرى السعيد:  إن الهندسة الوراثية بتطبيقاتها المختلفة من العلاج الجيني إلى التحكم بالمورثات إلى التشخيص المبكر للأمراض تطرح جملةً من المخاوف أو لنقل الإشكاليات الأخلاقية التي تستحق الوقوف عندها وبالتالي التحقق من جدوى تطبيقها على البشر والمدى الذي يجب أن يتاح لها، وان الخوف في حقيقته حالة نفسية تصيب الإنسان حين يجهل الأمر الذي يسبب له ذلك الشعور، فنحن نخاف في أكثر الأحيان مما نجهله، أو ربما نجهل حقيقته ولعل أكثر الرافضين لتطبيقات البيوتكنولوجيا هم أشدهم جهلاً بحقيقة هذا العلم، إضافة إلى ذلك فنحن نخشى المستقبل وآفاقه التي قد لا تحمل للإنسان ما يتمناه، بل قد تحرمه مما يملكه ويعتز بأنه له وحده، ولعل الأمر الأكثر طرافة في هذا الرفض هو أننا نتبنى في رفضنا آراء ومواقف الناس الذين ستطبق عليهم نتائج الهندسة الوراثية بعد عقود من السنين, في الوقت الذي قد توافق فيه تلك الفئات من الناس على تطبيقها وقد يكون لهم في ذلك مبرراتهم كما لما نحن الآن من المبررات ما هو كافٍ للتريث في التفاؤل أو البشرى بنتائج الهندسة الوراثية فالعلم في زمننا يعد مشروعاً جماهيرياً متكاملاً، وذلك لأن تأثير العلم أصبح عاماً، إذ يؤثرا لعلم في الوقت الحاضر على حياة الناس باختلاف فئاتهم,وبشكل مباشر,فلم يعد ممكنا وضع حواجز أو حدود بين التأثير الخاص للعلم وبين التأثير العام، أي أصبحنا عاجزين عن الفصل بين نظريات العلم ومقرراته من جهة وبين تطبيقاته التي تشمل المجتمع بأكمله من جهة ثانية . وتبدو الجماهير العامة أنها قلقة من عدة هواجس تسيطر عليها وهذا يبدو جلياً في جميع الاستطلاعات العالمية حيث يؤكد الجميع أن خوفهم منصباً حول عدة أمور يتصدرها النتائج التي يمكن أن نسميها غير ناجحة لهذا العلم والتي لا تظهر إلا بعد فوات الأوان وبعد أن تكون قد طبقت, وبالتالي فهذا الخوف مباح لأن الإنسان ليس حيوان مختبر يمكن أن نضحي به بسهولة إذ يبقى للحياة الإنسانية قدسيتها ومكانتها التي لا يمكن أن تستباح تحت ظل أي مبرر علمي، كما أن المشككين بنجاح الهندسة الوراثية أو فائدتها هم ممن يخشون من أن يتحكم بهذه التكنولوجيا علماء يكون لديهم نازعٍ يؤدي بهم لتسخير نتائج هذا العلم لأجل لأهداف لا تمت إلى الإنسانية بصلة بل تدمر البشرية جمعاء, وهذا ليس ببعيد فما جرى في هيروشيما ربما عجزت حتى أحلام المجانين عن إمكانية تحققه وها قد تحقق، ولم يحاكم أحد، ولم يحاسب أحد، ولا زال الإنسان الياباني إلى اليوم يحترق بلظى شظايا ذلك الانفجار المشئوم، وقد يحلم أحد العلماء بتصنيع كائن بشري نعجز عن التخلص منه أو السيطرة عليه، وربما أدت تجارب أحد العلماء إلى إيجاد جرثومة وبائية تقضي على البشرية بأكملها . ليس هذا فحسب بل إن الخوف الأكبر والذي كاد يكون هو الأقرب إلينا وإلى واقعنا هو  تسييس هذا العلم أي تسخيره من أجل أغراض ومصالح سياسية أي إن بعض الناس يخافون من أن تقع هذه التكنولوجيا في أيد ظالمة عدوانية تسعى للسيطرة على العالم فماذا »لو أننا تخيلنا أن العلم قد اكتسب قدرات كهذه في ظل الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة الحالية، فإن الاحتمالات تكون مخيفة حقاً. فمن الممكن أن تستغل الدول ذات الأنظمة العدوانية كشفاً علمياً كهذا لكي تزيد من قوة مواطنيها أو من قدراتهم على سحق خصومها بلا رحمة. ومن المؤكد أن مثل هذا الكشف لو ترك لسياسيين من النوع الذي اتخذ قرار استخدام القنبلة الذرية في هيروشيما لاستغلوه أبشع استغلال« . ومن المؤكد أن الحرب الجرثومية والكيماوية والنووية ما هي في النهاية إلا تجليات لتقدم العلم، وها نحن نذكر أن تطبيقاتها لم تكن لصالح البشرية بل والعكس تماماً فقد سخرت لأجل مصالح طغاة ومستبدين هدفهم تشويه معالم الحضارة الإنسانية التي بنتها أيدٍ نبيلة لم تشوه بأي نية سيئة للتدمير أو التخريب تلك المخاوف التي يبديها الرأي العام من تطبيق التكنولوجيا الوراثية كانت كما رأينا مبنية على هواجس قد تحدث وقد لا تحدث ويعتبر سيتفن تولمن  Stephen Toolmin  أن هذه الهواجس لا مبرر لها بل وينعتها بأنها مثيلة الخوف الذي أبداه الإنسان البدائي من الظواهر الطبيعية حيث يرى أن »علاقة الإنسان بهذه التكنولوجيا الحديثة، شبيهة بعلاقة الإنسان البدائي بالنار في بداية التاريخ، إذ كانت النار تعتبر شيئاً مخيفاً ومقدساً. فقد كان التقاء الإنسان بها عملية مخيفة في البداية. ولكن النار نفسها كانت ذات قيمة كبيرة، بحيث أصبح من الصعب فيما بعد الاستغناء عنها. ونحن الآن نسلك نفس السلوك بدون محاولة معرفة الفوائد التي يمكن أن نجنيها من هذه التكنولوجيا « وإذا حاولنا تحليل هذا القول لوجدنا في ثناياه الكثير من الحقيقة فما هو جديد يبقى غير مألوفاً من ناحية، ومخيفاً من ناحية أخرى، ولكل علم فائدته ولكل اكتشاف مزاياه، ويبقى الإنسان في المجتمع هو المسئول الأول والأخير عن تطبيق أو كيفية تطبيق هذا الاكتشاف والنفس البشرية تحمل في طياتها أبعاداً متناقضة قد تكون الفلسفة أقرب إلى توضيحها وبما أن الفلسفة لابد أن تكون المرشد لكل علم ونخص بذلك الفلسفة الأخلاقية فإننا نرى هنا أن فلسفة النفس الإنسانية تقودنا إلى حقيقة واحدة هي أن السيئ أو الحسن في أي علم إنما مرده إلى فهم هذه النفس له بالتالي تطبيقها وصور هذا التطبيق فقد استفاد الإنسان من النار إلى الحد الذي يعجز فيه اليوم الاستغناء عنها وعن فوائدها، وفي الوقت نفسه قد تقود النفس الأمارّة بالسوء إلى حريق يأكل الأخضر واليابس نتيجة أحقادٍ معينة تملأ هذه النفس وتدفعها للاستعانة بالنار كوسيلة لتحقيق مآربها وإشباع رغباتها وإذا كان لنا أن نتخذ موقفاً من الهندسة الوراثية فإننا سنقول بكل موضوعية إننا مع وضد في آن معاً, ولنا في ذلك العديد من المبررات فقد شرحنا سابقاً ضرورة الهندسة الوراثية وهذا أصبح مؤكداً، لكننا نذكر في الوقت نفسه جملة من الإشكاليات الأخلاقية التي تقف الفلسفة فيها موقف المحلل والناقد، ونخص بالذكر هنا الفلسفة التطبيقية أي Applied philosophy التي ظهرت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، من خلال المحاولات المختلفة الثقافية أو العالمية للتعامل مع أخلاقيات الحياة الفعلية والمشاكل الاجتماعية والسياسية التي درجت العادة الأكاديمية على تجاهلها في فترة ما بين الحربين العالميتين وقد كان التطبيق الأول للتفكير الأخلاقي بعد الحرب في فرنسا. فقد أصدرت الفيلسوفة سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir في سنة 1948 في جريدة (العصور الحديثة) التي تأسست حديثاً مقالة بعنوان »عين على عين« An Eye for an Eye دافعت فيها وبشكل قوي عن المشاعر والإجراءات العقابية ضد الغزاة النازيين لفرنسا أثناء الحرب ويمكن اعتبار هذه المقالة بمثابة الجدة المنسية أو المنبت الأصلي لكل الأعمال في الأخلاق التطبيقية. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد بدأت الفلسفة التطبيقية في الستينات في الفقرة الافتتاحية للمقالة الممثلة لريتشارد واسر ستروم Richard Wasserstrom «الحقوق وحقوق الإنسان والتفرقة العنصرية»
Rihts, Hvman Rights, and Racial Discrimi nation وقد نشرت سنة 1964 في حولية الفلسفة Journal of philosophy وقد لقي موضوع الحقوق الطبيعية أو الإنسانية الكثير من الاحترام الفكري والفلسفي, وربما اقتصر مجال الفلسفة التطبيقية على تلك القضايا التي يمكن تحليلها وتوظيف مفاهيم المساواة والعدالة والتفرقة العنصرية، لكن سرعان ما صاحب نقد التفرقة العنصرية هجمات ضد هذه التفرقة التي تقوم على أساس النوع والجنس والعرق والأصل، حتى أن هذه المناقشات شملت حقوق الذين لم يولدوا بعد وحقوق الموتى والضعفاء والمرضى المنتظرين، وكانت تلك علامة تشير إلى بزوغ فجر الأخلاقيات البيولوجية Bioethics [أخلاقيات علوم الحياة] الحديثة وفي السبعينات كتب الفلاسفة البريطانيون ومنهم ريتشارد هاري Richard Hare وبيترسينجر Petersinger الاسترالي الأصل وقد كانت كتاباتهم في جريدة الفلسفة والشؤون العامة philosophy and public Affairs وقد شملت كتاباتهم موضوعات ساخنة عن أخلاقيات الحرب والإجهاض وقضايا العصيان المدني والمساعدة الدولية والقتل الرحيم والتكاثر الصناعي وهندسة الجينات وقد تضمنت مقالاتهم جملة من الأسئلة:
ما الذي يعطي الحياة الإنسانية قيمتها ومتى تنتهي الحياة و…؟ لكن بعد ذلك انشغل الفلاسفة التطبيقيون عن نطاق الحياة الإنسانية بمسائل تتعلق برفاهية الحيوانات وحماية البيئة, ولعل المخاوف التي تخص مستقبل الفلسفة التطبيقية هي الأسئلة الفلسفية العميقة التي تتضمن في أخلاق علوم الحياة وأخطار الهندسة الوراثية التكنولوجيا الحيوية وتأثير الأمراض المعدية غير المعروفة حتى اليوم كمرض نقص المناعة المكتسبة أي الإيدز وأيضاً جملة من القضايا التي تتعلق بتطبيقات البيوتكنولوجيا ومن جملة هذه القضايا قيمة الحياة، معنى الوفاة والحرية، والمسؤولية، وأهم من ذلك ربما السؤال الرئيسي وهو إذا ما كانت الإنسانية أو البيئة تستحق الإنقاذ أم لا ؟!! وإذا كنا نركز على دور الفلسفة الأخلاقية التطبيقية فذلك أملاً منا أن يتدارك الفلاسفة الأخلاقيين خطأهم الأخلاقي بسلبية بل وبحيادية موقفهم الذي بدا في النصف الأول من القرن العشرين حيث لم يفعل الفلاسفة الأخلاقيين شيئاً من اجل البشرية, وقد سجن وقتل الملايين من البشر في تلك الفترة سواء في إيطاليا أو الاتحاد السوفيتي ,وفقد الملايين حياتهم في الحرب العالمية الثانية , واليوم تقع على عاتق فلاسفة الأخلاق مهام عظام تتمحور حول التطور اللافت للعلم وما قد يطيح بالكرامة  الإنسانية وها هي تطبيقات الهندسة الوراثية تضع أمامنا جملة من هذه المخاوف التي نجد أنفسنا معنيين بمناقشتها وتحليلها ونبدأ بقضية التشخيص الجنيني ومدى تأثير ذلك على الفرد والمجتمع,ونقصد بذلك تحليل يجريه المريض حيث  يشك الطبيب بأن مرضه قد يرجع إلى خلل وراثي معين، وبواسطة ذلك التحليل للمورثات تتم قراءة الحروف والكلمات التي تتشكل منها جينات المريض ويعرف الطبيب من خلال ذلك صحة أو خلل تسلسل حروف المورثات وإذا كان الخلل موجود في كتابة حروف المورثات فان هذا الخلل سيكون هو السبب في المرض الذي يشكو منه المريض لأن إدخال حرف جديد أو حذف حرف موجود في سلسلة مورثاتنا التي تتكون من ثلاث مليارات حرف ونصف قد يعرض الإنسان لمرض خطير قد يؤدي بحياته والطريف هنا هو أن كشف الطبيب لتسلسل مورثات المريض سيكشف أمراض الشخص وأسرته أيضاً بمعنى أن أسرار العائلة بأكملها سيوضع أمام الطبيب من خلال خريطة تسلسل حروف مورثاته، وهذا التشخيص الجيني أو قراءة صفحات الكتاب التي تتألف منه الذخيرة الوراثية Genome التي تميز كل فرد يمكن القيام به في مراحل مختلفة من حياة أي شخص إذ يمكن ان نجري في مرحلة الحمل على الجنين Prenatal Diagnosis أو حتى بعد الموت وهي طريقة تستغرق ساعات قصيرة والسؤال المطروح هو: ما مدى فائدة هذا التشخيص وما هي الجوانب المتعلقة بحقوق الفرد وكرامته  ومن ثم ما هي آثار معرفة أسرار هذا الشخص؟ في الحقيقة إن معرفة الخريطة الكاملة لمورثات الشخص أو كما تسمى ـ كتاب الحياة ـ سيؤثر بشكل سلبي على علاقة ذلك الفرد بجميع من هم حوله من عائلة أو جيران أو محيط اجتماعي فهذا سيجعل الفرد محاطاً بإشارات كثيرة لنقاط ضعفه أو قوته وربما يكون هذا الشخص ممن لا يريدون كشف أوراقه أمام الآخرين، وليس هذا إلا جزءاً من حقوقه عداك عن الإحباط الشديد الذي يصيب هذا الفرد من جراء معرفته لجملة الأمراض التي قد تصيبه، فهناك العديد من الأمراض التي ستتكشف أمام هذا الشخص وقد يصاب بها فعلاً أو يكون مجرد حامل لموروثاتها.
كما أن هناك أمراض لا تظهر عند الشخص إلا بعد الأربعين من عمره وهي أمراض خطيرة تؤدي بحياة الإنسان نذكر منها مرض هنتيغتون  وهو مرض عصبي يظهر بعد سن الأربعين ويصيب الدماغ وقبل سن الأربعين لا يظهر على الشخص أي عرض ويعيش الإنسان حياة عادية إن لم تكن سعيدة أيضاً، لكن حين ظهور الأعراض على الفرد فإنها تبدأ من الإحساس بعدم التوازن في الحركة وبعض الهيجان اللاإرادي excitation بالإضافة إلى الهلوسة والهذيان Halhcination ثم تكون لهذا المرض نتائج وخيمة تؤدي إلى وفاة الشخص خلال خمس إلى عشر سنوات بعد ظهور الأعراض وأغلب المرضى بهذا الألم في الغرب يموتون انتحاراً، ونقول هنا كيف سيتقبل أي شخص إخباره بأنه سيصاب بمرض  هنتيغتون بعد عشرين عام، وكيف سيحيا هذه العشرين سنة من حياته؟ وهو منتظراً لأسوأ الأقدار بل وأخطرها، فليس لهذا المرض من علاج ومن ثم كيف سيستقبل المحيط العائلي والأصدقاء وهذا الخبر؟ وما هو موقف المجتمع من هذا الشخص؟ وإن كان الذي سيصاب بهذا المرض ذكر فهل سيوافق أحد على تزويجه؟ ومن ثم هل سترضى أي مؤسسة حكومية أن يعمل هذا الشخص لديها إن هي عرفت أنه سيترك عمله في الأربعين من عمره؟ ولعلنا هنا نركز على أكثر هذه الأسئلة إثارة وهو: من هو المالك الحقيقي لتلك المعلومات الوراثية، وما هي عقوبة من سينشرها بدون إذن صاحبها و … و… و…؟ وكما هو واضح فإن البعد الفلسفي والأخلاقي يفرض نفسه بقوة للإسهاب في تحليل كل هذه الأمور والقضايا وهذا كله لن يدفعنا للتخلي عن مواكبة العلم، بل ما نحن بحاجة إليه هو إيجاد ضوابط أخلاقية وقانونية لتطبيق تلك النتائج العلمية على الإنسان فهناك جملة من المواقف الأخلاقية والقانونية التي تظهر عند تطبيق تلك النتائج ويجب علينا التريث أثناء الرفض أو القبول فما من شك أن التشخيص الجيني سيضع مثلاً أمام الأهل خياراً قاسياً بإجهاض جنينهم الذي تكشف خريطته الوراثية انه بمصاب بمرض أو تشوه خطير وهذا بدوره يطرح قضية قانونية بحاجة للكثير من التفصيل، لكن في نفس الوقت ما هو شعور الأهل الذين يعلمون أن المرض الذي قتل جنينهم  الأول قد تم اكتشاف دواء له وهذا يعني سلامة جنينهم المقبل ,ففي الوقت الذي تطرح فيه مسألة التشخيص الجيني جملة من الإشكالات الأخلاقية والفلسفية والقانونية إلا أن العلماء يبشرون بأنه خلال عشر سنوات وربما «أقل سيحصل كل طفل على تحديد كامل لتتابع الأسس في مادته الوراثية وسيعطى والداه قرصاً مدمجاً قبل مغادرة المشفى ولا شك أنه من الرائع أن أملك شيفرتي الوراثية، لأنه في كل أسبوع يوجد موضوع جديد يصف الروابط بين الشيفرة الوراثية والأمراض وهذا بحد ذاته سيمكننا من ممارسة بعض الطب الوقائي استناداً إلى الأمراض التي نحن معرّضون للإصابة بها»  وبناء على ذلك فإن حجب تطبيقات الهندسة الوراثية لن يكون لصالح الإنسانية بل يبدو الحل الأكثر معقولية هو فهم تلك الآلية وأيضاً ضبطها قانونياً وأخلاقياً وكنا قد تحدثنا عن العلاج الجيني وأثره الكبير في الشفاء من العديد من الأمراض التي كانت تشكل ذعراً حقيقياً للبشر لكن في نفس الوقت نشير إلى أن هذا العلاج سيخلق معه أجواء جديدة وتغيرات واسعة في كل المفاهيم السائدة في مجتمعنا فقد اكتشف العلماء مثلاً أن بالإمكان الآن استخدام الجراحة الجينية لعلاج الأمراض النفسية، إذ بينت الأبحاث العلمية وجود طفرة مسئولة عن إنتاج الأنزيم Monoamine A وهذه الطفرة موجودة في مورثه موجودة على الصبغي الجنسي الأنثوي، وإن وجود الطفرة في داخل الدماغ سيؤدي إلى فقدان الأنزيم الذي سيؤثر في مستوى هرمون Noradrenaline وserotoning والمعروف أن اضطراب تلك المواد الهرمونية سيدفع الشخص المصاب بها إلى أعمال إجرامية يحاسب عليها القانون، ويثبت العلماء أن تصليح الطفرة بواسطة الجراحة الجينية سيعيد الشخص لحالته الصحية. وهل يستطيع الفلاسفة والساسة ورجال الدين أن يعطونا إجابات شافية على مثل هذه القضايا، ورأى الجمل أن«الهندسة الوراثية هي أهم علوم العصر الجديدة وأخطرها، وسيغير هذا العلم وجه الحياة في القرن القادم، وأنا اعني هذا حرفياً لقد بدأت آثاره تبين بالمجتمعات الغربية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعقائدياً وفلسفيا، وستمتد آثاره لتغمر كل ركن من أركان حياتنا وحياة كل كائن على هذه الأرض وهو يمضي بعجله متسارعة  فنحن اليوم على أعتاب مجتمع جديد تسود فيه قيم جديدة ومعتقدات وقوانين جديدة فقد أصبح العلماء قادرين على التحكم بهيئة الإنسان ووراثته حتى أن العلماء قادرين على استبدال هيئة وجنس وربما مزاج وذاكرة الإنسان، وحتى أن العلماء قد توصلوا إلى اكتشاف طريق يؤكد وجود جينات تشفر لتكوين مواد معينة تكون هي الأخرى مجالات كهرومغناطيسية حول مخ الإنسان فيحدث الحب عندما تتوافق المجالات وهناك أيضاً جينات كراهية وبغضاء وهكذا  فان الهندسة الوراثية تطرح نفسها كموجه لعواطفنا فما الذي يبقى لنا وما الذي نختاره وأين هي إرادتنا، وهل يبقى الحب حباً إذا وجهنا إليه، ؟؟ فالهندسة الوراثية إذن هي مؤشر لمجيء الإنسان الجديد، حتى أن العقل نفسه قد يكتسب حياة جديدة، فيحتفظ المعمر بالذاكرة والقدرة على التصرف، حتى أن الاكتشافات الجديدة للعلماء تتوقع إضافة خمسين سنة أخرى إلى عمر الإنسان  وبهذا فإننا نسأل أنفسنا ما هو شكل المجتمع الجديد وهل ستكون صورته هي صورة شارع مليء بالوجوه المصنعة أو لنقل وجوه حسب الطلب وفي الطرف الثاني في غرفة صغيرة يجلس مهندس وراثي وأمامه جملة من الأزرار يضغط منها ما يشاء فيزرع الحب في قلب رجل والتسامح في قلب آخر ويغير لون وجه آخر وهكذا في أفضل الاحتمالات فما الذي سيحدث بهذا الشارع إن أصيب هذا المهندس بجنون ما وقلب الطاولة على رؤوس أصحابها، تلك الصورة المريبة للمجتمع لا يستبعد العلماء حدوثها قبل عام 2030 مستبعدين بذلك كل دور للبيئة أو العائلة أو الأسرة.

التعليقات

تعيد الهندسة الوراثية كتابة التاريخ الانساني من بداية جديدة. حيث سيبحث الانسان عن أدبيات جديدةناظمة لحياته. و لكن قبل كل شيء علينا ان نعترف ان خوفنا يجب أن يحد منه حقيقة اننا لن نعيش الى زمن التحولات الوراثية الكبرى. فالانسان يعيش معنوياً أبعد من حياته البيولوجية و هذا يولد عنده ضغوطاً يمكن ان تكون أقل لو انه أدرك امتداده البيولوجي. فالانسان خلال التاريخ لو وقف عند لحظات الخوف - و كان لها حتماً ما يبررها- لما وصل الى هنا . و الإنسان ليس فرد يمتد عبر التاريخ و لكنه جنس و هذا الجنس قابل للتكيف و انتاج آليات بقائه التي لا يحكمها العقل وحده بالمعنى الكلاسيكي و إنما تحكمه الحاجة الطبيعية المطلقة التي تحكم أي نبتة او متعضية صغرى. و ليس هذا موضوع الحديث و إن كان فيه الكثير للوقوف عنده لاحقاً حول حقيقة الذاكرة البيولوجية و آليات التكيف. إن العقل خديعة كبرى بسبب تفوقه يسرق الأضواء و سنحتاج فترة لنتحرر منه. .. بالعودة الى الهندسة الوراثية ستكون هي الخلاص المطلق للرأسمالية العالمية. فكما كانت التطبيقات البرمجية و الافتراضية عالم استطاعت الرأسمالية ان تتجاوز أزماتها من خلال القفز فيه بحيث استطاع امتصاص الأزمات الفتاكة التي ألمت بالرأسمالية ,ليس فقط بل سمح لها بالتملص من الحتمية التاريخية الماركسية الى زمن غير معلوم. و اليوم تأتي الهندسة الجينية لتمنح الكون اتساع أبعد من الحجم الذي قدمه العالم الافتراضي لبرمجيات الحواسب و الانترنيت. في الحقيقة سيعاد تشكيل الهرم الكوني و العالم من جديد. و كأن آدم نزل لأول مرة في الأرض. شيء يشبه كثيراً قصة الخلق الأولى و تحريم الرب الأكل من شجرة المعرفة و معصيته التي قادت الى العالم الأرضي. يمكن لنا ان نفكر بالعلاقة السلطوية و التي كانت تمتد أفقياً أي أن يسيطر الأبيض على الأسود , و الشمالي على الجنوبي و الإقطاعي على الفلاح. لكن السيطرة في عصر الهندسة الوراثية ستكون عامودية- ليس كهرم فقط- و لكن عمودياً بالمعنى الزمني. و هذا سيتسبب بخسارة نصف منظومة الأخلاق القائمة على مفهوم الحظ و القدر و الارادة الالهية او الطبيعية : فعندما يتحكم الجيل السابق بمواصفات الجيل اللاحق فإنه يقف أمام سلة خيارات يمكن تعقبها و قراءتها. و بالتالي فكل فلسفة الأخلاق ستكتب من منظور آخر. و هذا التحكم لا يعني بالضرورة الإمتلاك. فقد يكون المسبب أو الذريعة و لكنه قد لا يستطيع ان يبقى المالك. السلطة العابرة للأجيال ليس بالضرورة ان تكون خطية باتجاه واحد. ستختلف مفاهيم مثل الجمال و الرياضة. فما معنى السباق الرياضي عندما تعمل الهندسة الوراثية على انتاج السوبرمان ؟ و ما الذي ستقف عليه الانسانية عندما تتم صناعة الانسان شديد الغباء الذي يقوم بأعمال محددة لا تتطلب ذكاء و لا يحتاج هو نفسه الى ما يحتاج اليه الانسان الذكي : كرامة, سعادة, رفاه. حتى هذه الكلمات لن تكون ذات معنى عندما تكون كلها مجرد تقنيات. و لكن ثمة مكان آخر للبحث العلمي سيكون ذو أهمية ليست أقل و هو الهايبر مان. فمع الأبحاث التي تقوم بالقرءة و بالتحكم و مع تطور البرمجيات سيكون بالامكان أن نصل الى الرجل نصف الآلي. و هذه تنمو بالتوازي مع الهندسة الجينية. و يكفي ان تراقب طفل اليوم لتكتشف أن آليات التعلم تتجاوز الفعل الميكانيكي القائم على التلقين ,بل تذهب باتجاه التشفير, حيث يبدو الأطفال اليوم و كأنهم منظومات فك شفرة فائقة الذكاء. فمن جمل معلوماتية بسيطة يعمل الطفل اليوم على توليد بنى معرفية متكاملة. هذا إذا مزجته مع التقنيات المخبرية سيفضي بنا الى ما كنا نقرأه في كتب الخيال العلمي عن حب الفهم و الذكاء. و قد تكون الرقاقات الالكترونية حلاً طبياً مكان الحلول الكيمائية باعتبار الجسم قادر على توليد الملايين من الاحتمالات الكيميائية. في كل الأحوال لا يمكن ان ننظر الى الموضوع من وجهة نظر اليوم لأن اناس المستقبل سيجدون آليات بقائهم بأنفسهم. و لكن ما يمكننا النظر اليه اليوم و نحن متأكدين منه هو ان الرأسمالية اليوم تراهن يكل قونها على هذه البطاقة الذهبية التي ستساعدها في التخلص من كل اعدائها. و بالرغم من ان العلم قد يعطي الحياة فرص كثيرة لحل الكثير من مشاكل الانسانية إلا اننا حتى نصل الى تلك المرحلة التي يمكن خلق انسان يصنع اليخضور من الطاقة الشمسية و لا يقتل و لا يحزن , علينا ان نعرف ان الرأسمالية ترى الأبواب مفتوحة لتهرب من كل تبعات العنف الذي تمارسه على البشرية , و فهم هذه الامكانيات يساعدنا على فهم واقعنا اليوم. فلا مكان للإصلاح و فرص الابادة الجماعية أكثر من فرص السلم. و أي مساس بالرأسمالية هو مساس بالمستقبل لأنها احتكرته. و عليه قبل قراءة المستقبل بعد 100 عام نستطيع اليوم ان نقرأ مستقبلنا الحاضر. نستطيع القول أن تحرير فلسطين وهم, و ان التنمية في بلادنا وهم اكبر. و ما يحدث اليوم في سوريا ليس اكثر من تشكيل الناس ليشكلوا وفق آليات الحصاد الكبرى لللصوص الدوليين. و يمكن القول لمن يعتقد ان الرأسمالية وصلت الى حائط مسدود انه مخطىء. و لمن يعتقد اننا قلعة صمود فإننا لسنا سوى بقرات حليب و متى سنكلف الدولة اكثر مما ندفع لها ستطلق النار علينا و بكل سرور,لأن المجرمين يعرفون ان لا حساب في هذه الحياة.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...