المتخيَّل العربي والبداوة ، المدينة بوصفها سردية بديلة

09-03-2012

المتخيَّل العربي والبداوة ، المدينة بوصفها سردية بديلة

-1-

تزخر كتب الأدب العربي القديم بعدد وافر من الشواهد الشعرية والنثرية والأخبار والمأثورات التي تكشف لنا عن المعايير التي كان يوازن من خلالها الشعراء والأدباء بين قيم البداوة وقيم الحضارة عبر المخيال العربي، وكما عبّرت عن ذلك نصوصهم نثرا وشعرا. من ذلك، ما يُروى من أخبار عن «ميسون بنت بحدل الكلبية» التي تزوَّج منها الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، وهي نجدية المنشأ، فقام بنقلها إلى دمشق (الحاضرة آنذاك)، حيث هيّأ لها قصرا تعجّ جنباته بالمياه والخضرة والرياحين. لكنها لم تتحمل سوى أيام معدودات، وأعلنت تبرّمها ورغبتها في العودة إلى البادية، فلم يكن من معاوية إلا أن طلّقها، وعادت إلى نجد، وقالت في ذلك أبياتا معروفة نوردها كاملة لطرافتها:
لَبَيْتٌ تخفق الأرواح فيه/أحبُّ إليَّ من قصر منيف/ولبس عباءة وتقرّ عيني/أحب إلي من لبس الشفوف/وأكل كسيرة في كسر بيتي / أحب إلي من أكل الرغيف/وأصوات الرياح بكل فجّ /أحب إلي من نقر الدفوف/وكلب ينبح الطرّاقَ دوني أحب إلي من قط أليف/وبكر يتبع الأظعان صعب أحب إلي من بعل زفوف/وخرق من بني عمي نحيف أحب إلي من علج عنوف/خشونة عيشتي في البدو أشهى/ إلى نفسي من العيش الطريف/فما أبغي سوى وطني بديلا /وما أبهاه من وطن شريف
وليس بعيدا عن ذلك قول المتنبي في بيته الشهير في المعنى ذاته:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية/ وفي البداوة حسن غير مجلوب
ومن يتتبع أمثال هذه الأخبار فسوف يجد منها الكثير، لكننا نقصد إلى التأكيد على ارتباط بعض أنماط البشر بحياة البادية وطقوسها ورحابتها وانفتاح فضائها، وكل ما يتصل بهذا العالم السحري، الغرائبي، من قيم ومواضعات وأعراف وتقاليد قد تتعارض وقيم المدينة أو الحاضرة.
وترتبط هذه الصورة اليوتوبية للبادية التي جسّدتها نصوص الشعر القديم بالثقافة والمخيال العربي فحسب، فقد غذّاها وساهم في صنعها ـ لاحقا - روافد استشراقية واضحة تقاطعت مع التصور العربي القديم القائم على استلهام مفاهيم تمتاح من معين العالم الأول، الآدمي، كـ «الأصالة» و«البرّيّة» و«العذرية»، وهو ما عبّرت عنه ببلاغة لوحات زيتية رسمها فنانون فرنسيون على شاكلة يوجين ديلاكروا Eugene Delacroix (1798-1863) وزملائه ممن بحثوا في الشرق عن صورة «النبيل» أو «التراجيدي» أو «التاريخي» أو «الأسطوري» أو «الرمزي» أو البيكاريسك» أو الجروتسك» أو «الأرابيسك» أو «الفولكلوري»،.. إلى آخر ذلك من موتيفات استلهمها هؤلاء الفنّانون الذين شكّل «الشرق Orient» بالنسبة إليهم أرضية خصبة لإشباع النزوع الرومانسي نحو التلوين والتجسيد، كما شكّلت رؤيتهم الرومانسية للشرق، في تلك الحقبة، مرحلةً مفصليةً انتقل فيها الاستشراق Orientalism من كونه متخيّلا غربيا نظريا بالأساس قائما على تصورات دينية وعرقية ميتافيزيقية إلى استشراق استعماري إخضاعي موجّه نحو «الشرق»، تواترت حدّته مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ أي منذ دخول الاستعمار منطقة الشرق الإسلامي: (راجع كتاب زينات بيطار: «الاستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 157، يناير 1992م. وهنا يمكن مراجعة عدد كبير من اللوحات الزيتية، منها: ماريلا: قافلة الصحراء، دوزا: منظر من الجزائر، فرير: منظر القدس من الشمال، فرير: قافلة الصحراء، فرومنتان: صياد صقور عربي، ..وغيرها).
من جهة مقابلة، فإن هناك بعض الباحثين والشعراء الغربيين الذين قالوا بجوهر فكرة البداوة ذاتها؛ من ذلك ما أورده الشاعر الأمريكي بيتر لامبورن ويلسون Peter Lamborn Wilson (1945- ) الذي كان يوقّع كتاباته باسم مستعار هو حكيم بك أو Hakim Bey . ففي أحد نصوصه الذي يحمل عنوان «المنطقة المحظورة، الفوضى الوجودية، الإرهاب الشعري The Temporary Autonomous Zone, Ontological Anarchy, Poetic Terrorism»، وتحديدا في النص الأول من كتابه الذي يقسّمه إلى أربعة فصول (كفصول السنة) - وهو شبيه في بنيته الرباعية بالكتاب الشهير لنورثروب فراي «تشريح النقد The Anatomy of Criticism» - يوائم حكيم بك بين روح اليوتوبيا الكامنة في أعماق ذواتنا ومسايرتنا التزامات الحياة العصرية اللاهثة التي تتمحور دورتها اليومية غالباً حول وظيفة شهرية وراتب نتقاضاه بانتظام كل ثلاثين يوما؛ وذلك عبر إعادة تفسيره فكرة «الانتجاع transhumance» القديمة التي تقول بضرورة مغادرة سكّان المدن لأماكن إقامتهم في فصل الربيع أو الصيف والعيش في الغابات والمناطق المفتوحة. ولا يتعلق الأمر بمفهومَي التصييف أو التخييم اللذين يعتبرهما الشاعر حكيم بك نسخة باهتة من يوتوبيا الانتجاع، بل بالرغبة العارمة في استعادة نزعة البداوة بداخلنا، تلك النزعة التي تمنحنا فرصة البقاء في وضعية اتصال دائم وحيوي مع مفردات الطبيعة البِكْر، خشية الوقوع الأبدي في براثن الرأسمالية وغواية التكنولوجيا ومخايلة التشيّؤ.
وعلى الرغم من وجاهة المثالين (العربي والغربي) اللذين أوردناهما أعلاه، في ما يتصل بقيم البداوة، فإنها ـ أي البداوة - قد لا ترتبط بالضرورة بحياة الصحراء أو المجتمعات القبلية، الرعوية، أو مجتمعات الحوافّ فحسب، بل تتصل في جوهرها بنظرة الإنسان للكون ورؤيته للعالم. فقد يحيا الإنسان في المدن والحواضر، لكنه يسلك فيها سلوكا أكثر بداوة، وبدائية أيضا، من سكان البادية. البداوة، إذاً، سلوك بشري، اختياري، أكثر منها نمطا من العيش المقترن بالبيئة والتضاريس الجغرافية.
في الوقت الذي تستدعي البداوة قيما بعينها، كما ذكرنا آنفا، من قبيل الغرابة والترحال والرعوية والرغبوية والعذرية والأصالة والنقاء والشفاهية، فإن التمدين أو التحضّر سوف يستلهم قيما مقابلة بالتبعية مثل الألفة والاستقرار (سواء بالزراعة أو الصناعة أو التجارة) والعقلانية والتثييب -من الثّيِّب- والهجنة والكتابية.. إلخ. وقد يزداد الأمر تعقيداً عندما يتحول قطاع ما من قطاعات المجتمع الزراعي إلى مجتمع المدينة، بحيث ينتقل أفراده من البادية إلى الحاضرة، ويحافظون على اتصالهم دائم بقبائلهم وبواديهم وقراهم؛ لأن انتماء البدوي لا يكون إلا إلى قبيلته، بينما يكون انتماء الحضري إلى الدولة ممثلةً في مؤسساتها وهيئاتها، فتتشكّل بذلك هُجْنة المدينة وتعدّدية أجناس قاطنيها وألسنتهم وألوانهم ومعتقداتهم.

-2-

إن المبدأ الذي يتّكئ عليه مؤرّخو الأدب في التأصيل لنشأة فن الرواية هو «الاستنارة» التي هي ابنة «المدينة»، الكوزموبوليتانية، التي تجمع بين المتناقضات دون تنافر، كالمقدّس والمدنّس، النيّئ والمطبوخ، الشعري (الحوليّ، السامي) والنثري (اليومي، المبتذل)، .. إلخ. ولذا، يمكن القول إن الكتابة الحديثة تعتمد المبدأ نفسه الذي اعتمدته الفلسفة من «وقاحة» التي هي شبيهة بوقاحة «البداوة»، دون أن نقصد بالوقاحة هنا أي شكل من أشكال الأحكام القيمية أو الأخلاقية، بل الجرأة في وضع كل شيء موضع المساءلة الدقيقة، لا المواربة والالتفاف. ربما كان ذلك يذكّرنا بما طرحه محمد عابد الجابري عن علاقة الفلسفة بالمدينة في مقدمة كتابه «قضايا في الفكر المعاصر»:
«فالفلسفة تفرض القول بأن إطلاق سراحها يقتضي تحمّل خطابها حول المدينة، فهي شرط وجودها والغاية التي تجري إليها في آن واحد. كما أن صراحة الفلسفة تقتضي القول إن المجتمع المدني لا معنى له بدون المدينة. والمدينة بدون الفلسفة مجرد تجمّع سكاني لا روح له... الفلسفة مزعجة، ومصدر الإزعاج فيها أنها تبدأ بالسؤال».
ففي الوقت الذي تنهض مدينة الجابري على قيم التسامح والعدل والديمقراطية والعودة إلى الأخلاق التي هي أسس نهضة المجتمع المدني كما يقول، فإن كتابة الحداثة - وهي ابنة المدينة أيضا، برحابتها، وتنوّعها المخيف، وسماحة قاطنيها، وتباينهم في اللسان واللون والجنس والمعتقد - تلجأ إلى «الوقاحة الفلسفية»؛ أقصد إلى الجرأة في طرح الأسئلة الكبرى التي تدفع بالكتابة إلى أن تكون قلقا إنسانيا وأرقا وجوديا، وإلا سوف يكون مصيرنا هو «الطوفان المحقق» الذي مثّل له الجابري بأسطورة دوكاليون الذي استثناه زيوس من الغرق هو وزوجته، نتيجة عدالتهما، ثم أرسل لهما هرمس ليحقق لهما أمنيتهما بنزع الوحشة من عالمهما الخاوي. فكانا يُلقيان بعظام (أحجار) جدّتهما الأرض وراءهما. كانت أحجار دوكاليون تتحول إلى رجال، وأحجار زوجته تتحول إلى نساء، حتى انحدر من نسل دوكاليون وزورجته الفاتحون الذين شيَّدوا بلاد اليونان وأعادوا بناء الحضارة واخترعوا الفنون والصناعات التي تجعل الحياة ميسورة ومحبوبة، واتجهوا بأنظارهم إلى نظام المدينة فسنّوا القوانين ونظموا الروابط لجمع الشمل، وهي العملية التي أطلقوا عليها اسم «الحكمة» لاحقا.
إن علاقة الرواية بالمدينة هي علاقة تقوم على فرضية بعينها تتمثل في كون الرواية هي التمثيل الحقيقي لقيم الحداثة التي هي ابنة المدينة العربية المتحولة، مدينة الاستنارة، كالقاهرة أو بيروت أو حلب أو دمشق أو غيرها من المدن العربية في القرن التاسع عشر. وليست الرواية منفردة في هذا الجانب؛ لأن قيم الحداثة أو قيم المدينة الحديثة لم تكن عاملا على إحداث نهضة فنية وجمالية جذرية في كتابة الرواية وحدها، بل في سرديات الحداثة جميعا، أو لنقل: «سرديات المدينة»، بما ينطوي عليه الاصطلاح من فنون الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية وقصيدة النثر والسينما والنصوص المفتوحة العابرة للأنواع.. إلخ.
لقد كان عصر النهضة العربي باعثا قويا أفضى إلى تولّد الوعي المديني (وهو الوعي بحدود الجنس الأدبي وتقاليده الكتابية المعروفة في الأدب العالمي) الذي يمتاح من فكر المدينة المتحولة بواسطة عمليات التحديث modernization التي تفضي إلى تغيير علاقات الثقافة وأدوات إنتاج المعرفة في المجتمع؛ وهو الأمر الذي يؤدي إلى تشكّل رؤية مدنية واعدة لعالم صاعد ترمز إليه المدينة بوصفها وعاء سياسيا واجتماعياً وثقافياً وإبداعياً ينطوي بالضرورة على قيم الاختلاف وتعدد الأجناس والأعراق والطبقات والمعتقدات والثقافات وأنواع الإبداع المختلفة، بحيث تصبح تمثيلات المدينة، أو صور المدينة، في أذهان ساكنيها تأكيداً لدورها في صياغة هذه الأذهان أو العقول وكذلك صياغة وعيها. ولذلك يصل الوعي المديني بين مخرجات التغيّر في التركيب السكاني والتخطيط العمراني والتشكيل المعماري, كما يصل بينها وغيرها من مظاهر التغيّر الإيكولوجي المرتبط بعمليات تحديث المدينة التي سرعان ما ينتج عنه نزوع حداثي يغدو سمة للوعي المديني وعلامة عليه.

-3-

في عام 1967، كان رولان بارت يتحدث ـ في مقال له بعنوان «Semiology and Urbanism» أو «السيمياء والتمدين» - عن علم علامات المدينة، أو سيميوطيقا المدينة؛ أقصد إلى التعامل مع المدينة بشوارعها وحاراتها وبوليفاراتها ومعمارها وخططها التوفيقية (بلغة علي مبارك)، من حيث كونها تنطوي على رموز وعلامات وأنساق وظيفية تشبه إلى حد بعيد أنساق النصوص الأدبية وطرائقها الجمالية في التشكّل والتشكيل؛ الأمر الذي تغدو معها المدن ذات تأثير حادّ في وعي أهلها -كما هي البوادي بالطبع- وفي تشكيل مفردات خطابهم اليومي والأدبي. لقد استوحي بارت كتابة فيكتور هوجو كنموذج على الوعي بمدى توتّر العلاقة بين المدن وساكنيها خصوصا إذا كانوا من فصيل الكتّاب والفنانين، حيث نبّه بارت إلى ذلك الحدس الذي أشار إليه هوجو بقوله:
«المدينة كتاب. ونحن أمام المدينة نشبه، إلى حد بعيد، القارئ لمئة مليون قصيدة».
في هذا السياق، يمكن أن نتامل عددا كبيرا من نصوص الرواية العربية الحديثة بصفة عامة، ومن كتّاب الستينيات بصفة خاصة، فيما يتصل بثنائية «الرواية والمدينة»؛ أقصد إلى بحث العلاقة بين فن الرواية ومعمار المدينة في نتاج عدد كبير من كتاب الستينيات في مصر، منهم جمال الغيطاني، بهاء طاهر، محمد البساطي، إبراهيم أصلان (عليه رحمة الله)، جميل عطية إبراهيم، وغيرهم.
ترتبط نشأة الرواية العربية، إذن، بالمدينة في مقابل ارتباط نشأة الشعر العربي والسير الشعبية والمأثورات الشفاهية بالبوادي والمناطق المحظورة أو المؤقّتة إذا استخدمنا لغة حكيم بك. وهي رؤية «وضعية Positivism» تذكّرنا بما كانت تراه مدام دي ستال Madame de Stael (1766- 1817) من مدى «تأثير الدين والعادات والقوانين على الأدب وتأثير الأدب على الدين والعادات والقوانين»، فضلا عن رؤيتها ـ مثلا- أن الرواية كجنس أدبي لم يتطور إلا في المجتمعات التي كان للمرأة فيها مكانة مرموقة محترمة من جانب الأفراد والجماعات. لذا، فإن الإيطاليين، في زمنها، لم يكونوا يكتبون الروايات لأنهم كانوا مسرفين في التحرر وعدم الالتزام بالقواعد، ولم يكونوا يكنّون للمرأة سوى قدر ضئيل من الاحترام، على عكس الوضع في إنجلترا آنذاك. باختصار، كانت تغلب على الإيطاليين الأوائل مسحة البداوة كما العرب المتقدّمون أيضا. وهذا ما قد يفسّر لنا عدم ظهور الرواية العربية بمعناها الفنّي إلا مع «زينب» (1914) لمحمد حسين هيكل على أغلب الآراء، وعدم ازدهارها ونضجها الجمالي إلا مع النصف الثاني من القرن العشرين. ففي عام 1912م، عندما عاد محمد حسين هيكل من باريس بعد رحلته في دراسة القانون، كان يحمل مسوَّدة روايته التي لم يستطع نشرها والمغامرة بسمعته كمحامٍ. وظل عامين متردّدا حتى قرَّر أخيرا دفعها للنشر تحت عنوان «مناظر وأخلاق ريفية. بقلم فلاح مصري». لقد كانت «زينب» أحد أوجه الصراع القائم بين قيم البداوة والحضارة، الريف والمدينة، في مسار السردية العربية الحديثة.

محمد الشحات

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...