إحسان عباس في ذكراه الثالثة

08-08-2006

إحسان عباس في ذكراه الثالثة

تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة لرحيل الناقد الفلسطيني إحسان عباس (1920 ــ 2003) الذي تجاوز عدد الكتب التي ألفها أو حققها أو ترجمها المئة، حيث كرس الرجل حياته المديدة للمعرفة ملازماً مكتبه الجامعي في الخرطوم فبيروت فعمان، شاغلاً ليله ونهاره في الكتابة والتأليف والترجمة، متنقلاً بين الأدب العربي القديم والنقد الأدبي الغربي المعاصر، وصولاً إلى كتابة تاريخ بلاد الشام الذي ختم به حياته في الكتابة والإنجاز المعرفي.

لكن أهمية إحسان عباس بالنسبة للحياة الثقافية العربية تتمثل في كونه واحداً من عدد قليل من النقاد العرب، في النصف الثاني من القرن العشرين، الذين لم يتعصبوا لنظرية ولم يمنعهم إطلاعهم الواسع على التراث أن ينصتوا إلى دبيب التغير في الحياة الثقافية العربية، ويتحمسوا للجديد المتحول الذي بدأ يشق طريقه في نهاية أربعينات القرن الماضي. كما أن عمله الأكاديمي، في جامعات عربية عدة، لم يصرفه عن محاولة الوصول بالنقد العربي إلى زمانه الراهن، ملخصاً ومترجماً النظريات النقدية الغربية التي راجت في زمان تكونه ونضجه الثقافيين. لقد انطلق يؤصل للنقد في زمان العرب الحديث ويفتح أفق هذا النقد على اللحظة المعاصرة في العالم. وهو أنجز إلى جانب كتابه الكبير «تاريخ النقد العربي حتى القرن الرابع الهجري»، الذي نعود إليه كلما أردنا التعرف على تطور الفكر النقدي عند العرب وعلى اللحظات المتوهجة في ذلك المنجز النقدي، كتابيه «فن الشعر» و»فن السيرة»، اللذين يعيدان قراءة النظرية الرومانسية ونسلها من النظريات الغربية في ضوء ما استجد في خمسينات القرن الماضي حول مفهوم الشعر والكتابة. وقد استمر عباس يزاوج كتاباته النقدية بين معرفته العميقة بالتراث وتبصره بالرؤى النقدية المعاصرة في الغرب، مستنداً في ذلك إلى متابعة نشطة لما يصدر في الغرب من كتب نقدية وما يجدّ من كشوف نظرية.

يعد كتاب عباس «فن الشعر» من بين الكتب النقدية العربية القليلة التي درست النوع الشعري برؤية مفتوحة على التحولات التي أصابت مفهوم الشعر عبر العصور. إنه يدرس المحاكاة الأرسطية عارضاً تلك النظرية على نسلها من النظريات، منتقلاً منها إلى الرومانطيقية وموقفها من المحاكاة، ثم موقف كروتشه من المحاكاة، ضاربا أمثلة من الشعر العربي في عصوره المختلفة ليتوصل إلى أن بعض الملامح الرومانطيقية في أشعار المتصوفة وابن الفارض والشريف الرضي. لكن وعيه النقدي المعاصر، المتصل عميقاً بما كان يصدر من نقد غربي في زمنه، يدفعه إلى القول بأن الرومانطيقية العربية هي «صورة لرومانطيقية بليك ووردزورث وروسو» تفاعلت مع حاجات الشعراء العرب زمان الحرب الكونية الثانية، وصبغتها المذاهب الأدبية بألوان مختلفة، كما امتدت بتأثيرها إلى أعلام المدرسة الكلاسيكية الجديدة، من شوقي إلى الأخطل الصغير وأمين نخلة والمنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي ومي زيادة، وصولاً إلى توفيق الحكيم.

ما يهمنا في هذا السياق هو أن إحسان عباس يميز، في نقده المبكر، بين المذاهب الأدبية، والتصورات النظرية لحقبة معينة من تاريخ الآداب والأنواع، وإمكانية العثور على ملامح من تلك المذاهب في مراحل تاريخية سابقة. إن رؤيته النقدية المنفتحة، وعقله غير المذهبي، ورغبته في رؤية التحولات التي طرأت على معنى الشعر عبر العصور، وفي آداب الأمم المختلفة، جعلته يعيد النظر في تيارات الشعر العربي استنادا إلى التصورات النظرية في آداب أمم أخرى، ما جعله قادراً على استيعاب درس النقد المقارن الجديد، الذي يشدد على التعددية الثقافية وامتزاج الثقافات وقدرة النصوص على التفاعل بطرق لا حصر لها، وذلك في فترة زمنية مبكرة جداً من عمله النقدي. ونحن نعثر، في كتاب «فن الشعر»، على سرد لاهث لتحولات مفهوم «الشعر» ما بين أفلاطون وأرسطو , والرومانطيقيين وأصحاب المدرسة الواقعية وإليوت وباوند، وصولاً إلى الشكليين الروس الذين يتنبه لهم عباس في السنوات الأولى من خمسينات القرن الماضي معلقاً على كلام فكتور شكلوفسكي حول «واجب الشاعر في خلق الجديد والغريب» بأنه مبدأ «قديم يرجع إلى كولردج ووردورزث». وبغض النظر عن صحة استنتاج عباس أو خطئه، فيما يتعلق بوجود نوع من المطابقة بين تصورات الشكليين الروس والرومانطيقية الإنجليزية لمفهوم جدة العمل الأدبي، فإن عباس يتنبه في نهاية الفصل الذي يعقده حول «مشكلة الشكل والمضمون» إلى أن «العمل الفني يفقد مهمته الجمالية ثم يستعيدها بعد أن تزول الإلفة»، محيلاً ذلك التصور إلى واحد من أعلام الشكلية هو يان موكاروفسكي.

تدل هذه الإشارة المبكرة إلى عمل الشكليين الروس على قدرة إحسان عباس في رصد التيارات الثقافية الخفية التي ستتطور وتنتشر وتصبح أساسية عندما تزداد الحاجة إليها. لقد كانت معضلة الشكل والمضمون في خمسينات القرن الماضي ملحة في ضوء بروز تيار النقد الواقعي بتأثير من الماركسية. ولهذا يبدو إيراد تصور الشكليين الروس حول معنى الشكل وعلاقته بالمضمون، في تلك الفترة التي كان الشكلانيون فيها خافتي الصوت في الاتحاد السوفييتي وكذلك في الغرب، غريباً بعض الشيء. ويصعب تفسير تنبه عباس إلى ذلك التيار السري في النظرية الأدبية إلا في ضوء معرفتنا بتتبع ناقدنا الكبير لكل ما يجدّ في ميدان النقد والنظرية الأدبيين، أو من خلال ربط ذلك باقتراب نقد عباس، في تلك الفترة الزمنية المبكرة، من مدرسة النقد الجديد الأميركية التي كانت تربطها، بصورة ما، صلات نسب بالشكليين الروس وتلامذتهم في حلقة موسكو اللغوية ومدرسة براغ.

لكن عباس لا يتبنى نظرية الشكليين الروس حول مفهوم العمل الأدبي، وكذلك تفسيرهم علاقة الشكل بالمضمون، بل إنه، بعد إشارته السريعة المقتضبة إلى الشكلية الروسية، يعود الى الحديث عن الواقعية وهجومها على «التطرف نحو الشكل»، ووصمها ما يتعبد الشكل من الآداب بالبرجوازية». وهكذا تضيع في هذه الانعطافة، غير المتوقعة بالنسبة الينا في الوقت الراهن، أمثولة نقد الشكليين الروس الذين استطاعوا، بعد عشر سنوات تقريباً، أن يحدثوا تحولاً عميقاً في النقد والنظرية من خلال ترجمة أعمالهم الأساسية إلى اللغة الفرنسية على أيدي شبان قادمين من أوروبا الشرقية مثل تزفيتان تودوروف وجوليا كريستيفا. لكن التربة النقدية، والإبداعية العربية، لم تكن مهيأة لتقبل تصورات الشكليين الروس، فضاعت إشارة إحسان عباس أدراج الرياح، ولكن إلى حين.

لعل هذا الاتصال العميق بما يصدر من كتب نقدية في العالم الأنجلو ساكسوني هو الذي جعل إحسان عباس متفرداً بين العديدين من أبناء جيله من النقاد العرب، فهو لم يكتف بالترجمة والتعريف بالمدارس النقدية الحديثة بل صدر، في عدد من كتبه حول الشعر العربي المعاصر، عن رؤى تلك المدارس الجديدة في زمنه. ولعل كتابيه الأساسيين عن حركة الشعر العربي المعاصر، وهما الكتابان المرجعيان عن البياتي والسياب، هما ثمرة الاتصال بالنقد الغربي في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

فخري صالح

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...