متحذلقات موليير في مخدع الحرب السورية

02-08-2016

متحذلقات موليير في مخدع الحرب السورية

سنوات طويلة مرّت على تلك اللحظة التي غادر فيها بسام كوسا (1963) المعهد العالي للفنون المسرحية، بعد رفضه من لجنة القبول في قسم التمثيل برئاسة الراحل فواز الساجر سبعينيات القرن الفائت. لم يعرف وقتها «الساجر» أن ذاك الشاب العنيد سيعود يوماً ليشرف، وللمرة الثانية، على مشروع تخرّج طلاب الأكاديمية الفنية الأعرق في البلاد. فبعد تجربته اللافتة مع طلاب التمثيل في العام 2013 بعرض «الكوميديا السوداء» عن نص للكاتب الإنكليزي بيتر شافر عاد كوسا لتقديم عرض «تكرار» (على خشبة سعد الله ونوس من 30 تموز إلى 4 آب) عن نص «المتحذلقات السخيفات» لموليير.
تعرية أزمنةمشهد من «تكرار» لبسام كوسا... انتقاد لوجوه الحرب
 العرض الذي جاهر عبر ثلاثة أزمنة بتعرية طبقة تجار الحرب ومحدثي النعمة، قدم ثلاث نسخ متتالية من رائعة الكاتب الفرنسي، مطلاً من خلالها على زمن النبلاء المزيفين في القرن السابع عشر، جنباً إلى جنب مع طبقة الباشاوات ورجال ونساء الصالونات الأدبية مطلع القرن العشرين في سوريا، وصولاً إلى الزمن الراهن للبلاد، حيث صاغ مخرج العرض مع تسعة من ممثليه ما يقارب ثلاثية تاريخية عن زيف الطبقات الصاعدة في أوقات الأزمات، معللاً بذلك مدخله إلى العرض بمونولوغ ألقته الممثلة فرح دبيات عن تشابه البشر وعدميتهم في كلّ الأزمنة، «فلا جديد تحت الشمس»، والبشر هم البشر، إذ إن ثمة «جرائم نرتكبها ولا يعاقب عليها القانون» جرائم تفتك بالروح والمعنى، وهي أشد انتهاكاً لإنسانيتنا من جنايات معروفة كالقتل والسرقة والاغتصاب.
من هنا جاءت معالجة كوسا» لنص «المتحذلقات» بالتعاون مع الدراما تورج شادي كيوان، لتنتقل بنا من صالونات باريس عصر النهضة، إلى بيوتات دمشق نهايات الاحتلال العثماني، لتصل هذا الماضي بنسخةٍ عن ممارسات متنفّعي الحرب السورية، وما آلت إليه البنية الاجتماعية من خراب بعد أكثر من خمس سنوات من الاقتتال الدائر. محاكمة تبدو طازجة بسخريتها وتهكمها على ما راكمته الأعوام المنصرمة من تشوهات أصابت العمود الفقري للمجتمع، ضاربةً عرض الحائط كل الاعتبارات الأخلاقية، ومجهزةً على الذائقة والجمال والألفة، فالزيف الاجتماعي تعدّى أدواره الاعتيادية ليكون بمثابة حالة طبيعية أنتجت الفساد الثقافي، كلاحقة لفساد اقتصاديٍ واجتماعي مزمن.
على مستوى آخر عمل مخرج العرض مع كل من علي صطوف (مخرج مساعد) ومنصور نصر (مساعد مخرج) على تقديم بيئة لونية لافتة على الخشبة، متكئين في ذلك على أزياء مارال دير أركيليان التي ساهمت هي الأخرى في إعطاء تمايز واضح بين الأزمنة المُقدّمة على الخشبة؛ فمن الباروكي الباذخ لحفلةٍ تنكرية، إلى الطرابيش التركية الحمراء والأحذية البيضاء والسوداء والأطقم الفضفاضة، لنخلص إلى نمط استهلاكي لأزياء معولمة. ديكور علي فاضل أضاف هو الآخر تنويع بارز على أجواء قصور العاصمة الفرنسية، ومناخ البيت الدمشقي، وصولاً إلى أجواء الشقق المعاصرة التي اختار لها فضاءً من القماش والأرائك الزرقاء، ليكون الجمهور على تماس مباشر مع سينوغرافيا متعددة حسب تنوع الزمن التي ترمز إليه أو تعمل على محاكاته فنياً.
ملهاة معاصرة
 من جهةٍ أخرى بقي أداء الممثلين في «تكرار» منصبّاً على تقديم مزيج اقترب من أسلوبي «الفودفيل» و «الفارس» وفق حشد من كاركتيرات، لعبها كل من: أديب رزوق، بلال مارتيني، سهير صالح، سيرينا المحمد، لمى بدور، مجدي المقبل، مروى الأطرش، مروان خلوف، ومعن حمزة، بحيث بدا أداء هؤلاء منكبّاً بكليته على رسم شخصيات نمطية أكثر منها علاقة فعلية بين «أنا الممثل الخالقة» و «أنا الشخصية»، وفق تعبير ستانسلافسكي؛ لتنعدم بذلك أجهزة البث الخاصة باستبطان العالم الداخلي للممثل على حساب تقديم ملهاة معاصرة، والتركيز أكثر فأكثر على مبالغات كرتونية ووقفات هزلية مباشرة، باعدت هي الأخرى ـ وفق الخيار الفني للعرض ـ بين الممثل وشخصيته.
انصبّت طاقة الممثلين في «تكرار» على التشنج العضلي والحركي في الأداء، والذي جاء هنا أيضاً بعيداً عن تمرين الذاكرة الانفعالية للممثل، وجعلها ذاكرة استعادية ذات بُعدٍ أُحادي في تصرفات حرصت على موائمة الأقوال بالأفعال، نحو خط فعلٍ متصل من ضحكات وقهقهات وقفزات لا تتوقف. براعة جسمانية بدت في رسم (ميزانسين) خطّه كوسا على موسيقى رعد خلف، أُهملت عبره الحياة النفسية التي يتوجب على طالب تمثيل يقف عند عتبة الاحتراف، أن يختبرها ويعيشها بكل سخونةٍ وصدق، من دون الانشغال تماماً بأداء برّاني نجح في تصدير انتقاده الصارخ لبرجوازيي الحرب، لكنه ظل ـ برغم مرحه وحيويته ـ مرهوناً بالكوميديا كنوع حتى النهاية، من غير إنجاز مواجهة جادة وحاسمة بين الدور كوظيفة والشخصية كثراء نفسيٍّ ووجدانيٍّ يتجلى فيه الصراع بشكلٍ داخلي مزمن.

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...