منتديات الضجر الوطني

26-06-2006

منتديات الضجر الوطني

لاأظن أنّ أحداً من الرجال لم تقده قدماه الى أحد المقاهي في فترة من عمره هي من شبابه، ولاأظن أن أحداً منا لم يجلس وراء الطاولة للعب الورق «الشدة» تعلّماً مع من هم في عمره، أو طاولة الزهر، ويبدو أنّ كلّ من بدأ اللعب استمر زمناً طويلاً لأنّ هذه اللعبة تشبّه بمسبحة الشيطان التي لا تنتهي لساعات طوال لا يشعر فيها المرء إلا وخيوط الصباح تلوح وتنبه الساهرين الى أن الوقت حان للراحة أو للنوم، وأعرف أنّ الكثيرين أدمنوا هذا اللعب وقد يكون هذا بداية التحوّل الى الميسر والقمار ويعرف من يدخل أحد هذه المقاهي الشكل الذي يؤول إليه هذا المقهى، أصوات اللاعبين تختلط بالمجموعات الصوتية كلـها، والعجيب أنّ الجميع يعلو صوته، ولكنه لايتأثر إلا بأصوات المجموعة التي يلعب معها، كما لايتـأثر بقرقعة أحجار طاولة الزهر التي تحيط به بل إنّ لاعبي الشطرنج على قلّتهم في زاوية من المقهى لايأخذ تفكيرهم أي صوت من تلك الأصوت، هذا غير أنهم يُنظر اليهم نظرات العجب والاستغراب وتقول لهم ليس هنا مكانكم!!
وأمّا مايوحّد جميع اللاعبين فذاك الجوّ الذي يختلف حسب فصول السنة وعيناك لاتريان ماذاك المشهد الشتوي، عبوقٌ ودخاخين، لأنّ معظم اللاعبين إن لم يكن كلّهم ممن يدخن بل يدمن التدخين، فترى أعقاب السجائر تتهادى حوالي منافض(كلمة فصيحة) السجائر، وترى بقايا التبغ ومخلفاته على ثياب اللاعبين، وبعضها يتطاير ليستقرّ في فناجين القهوة وكاسات الشاي التي صار لها طعم واحد مُعتّق يوحّد الجميع أيضاًً، لأن السيجارة لاتطيب إلّا مع بعض الساخن من المشروب!! وإذا كانت النرجيلة نصيب القلة القليلة من مرتادي هذه المقاهي، فإنها صارت للكثرة الكثيرة مع انحسار السيجارة مقابل من يستمتع بالنرجيلة فثمة من يخدمها وصاحبها!! وليتخيّل الواحد منّا الجو الشتوي لأحد هذه المقاهي، دخان يصنع حجاباً وستاراً سميكاً يمنع النظر من اختراق زجاج المقهى ليتعشّق الثياب فيصبح صاحبها قطعة من المقهى..أما إذا حلّ الصيف فالجو لن يختلف كثيراً، إلّا أن النوافذ تُشرّع لتخترق نظرات مَن في الداخل النوافذ الى من هم في الشارع، هذا إذا لم تخترق بعض الكراسي والطاولات الجدران لتستقر على الرصيف!!
وإذا كانت المقاهي تغلق أبوابها في ساعات الليل الأخيرة إلّا أنّها لم تعد على هذا المنوال، فأبوابها كشوارع المدينة مفتوحة ومُشرّعة لكل القادمين الذين يرون في ساعات الصباح الأولى بداية يوم، أو نهاية يوم، ولايتبدّل فيها إلا العاملون الذين يسلّم الواحد الآخر مهمّته التي ربّما ملَّ منها لكنها السبيل الوحيد أو لقمة العيش الوحيدة التي حصل عليها.. ويبدو أن الأبواب التي ظلت مفتوحة ستستقبل بعض الزوار، وهل يزور المقاهي أحد في الصباح أم أنّ الزوار يبدؤون من فترة مابعد الظهر؟! إنّ زائر المقهى صباحاً غالباً مايكون قارئ جريدة يريد أن يعرف ما حوله علماً بأنه عرف إذا نام على نشرات الأخبار، لكن هي عادة يقلّ أصحابها يوماً بعد يوم، أن يقرأ بعضهم الجريدة في المقهى، وهذه الجريدة ليست جريدة نزار قباني وماجدة الرومي.. ترى الواحد منهم يأخذ ركناً من المقهى ينظر  إليه باستغراب واستهجان، ونادراً ماترى اثنين على طاولة واحدة تجمع بينهما صحيفة واحدة أو رأي واحد!! ومن ينظر الى هؤلاء باستغراب يلخصون نظرتهم بعبارة ألم يجدوا غير هذا المكان ليتثقفوا؟!
وهذه العبارة ترنّ في أذن كثيرين مازالوا يظنون أنّ المقهى الوحيد في دمشق مازال للأدباء!!
إنّ هذا النوع من المقاهي مازال يحتلّ أمكنة في المدن، ومكاناً في النفوس، لكنْ صار له منافسون كثُر، منها المقاهي التي أخذت تسميات أجنبية، وأشكالاً حديثة اختلف فيها طعم الشاي والقهوة عن تلك التي تُقدّم في المقاهي التي وصفت بالشعبية، بل زِيد عليها أنواع أخرى من المشروبات الساخنة ترفضها المقاهي الشعبية لتحافظ على تقاليدها وروادها، ويبدو أنّ هذا بداية الاختلاف بين هذين النوعين وهو اختلاف صريح وواضح يبدأ من رواد المقاهي الحديثة الذين صار معظمهم من النسوة، بل الفتيات اللواتي كثرن كثرة الأراكيل التي صارت الوجبة الرئيسية أو الطلب المقدّم على غيره من الطلبات لمن يرتاد المقهى الحديث.. ويلاحظ أنّ جزءاً من كل المطاعم صار مقهى حديثاً، لأنّ أرباحه تفوق أرباح بقية الأجزاء..
وكما كانت المقاهي الحديثة منافساً قوياً للمقاهي الشعبية كانت بعض المقاهي المتنقلة تنافس النوعين معاً، أو لنقل كان كل نوع من نوعي المتنقل ينافس نوعاً من نوعي الثابت الرّاكن..إنّ من ينظر في شوارعنا وهو يتنقل بين شارع وشارع صار يلفت نظره مقاهٍ متنقّلة، ليس لها رأسمال كبير، ولاعمال، بل دراجة هوائية عليها بعض الأواني الحافظة للمياه وعددٌ من الكاسات البلاستيكية يحملها زُبُنٌ هم في الغالب سائقو سيارات الأجرة والسرفيس، إمّا على الماشي ثم ترمى البقية على الناس كيفما كان، وإمّا يستريح عددُ من السائقين جانباً آكلين نصف الطريق، تاركين عليه البقية.. وهذه تلاحظها في المناطق الشعبية، وربما وجدتها على أبواب المشافي وهذا الأسوأ، هذا النوع ينافس المقاهي الشعبية، أمّا ماينافس المقاهي الحديثة فهو أكثر تطوراً !! سيارة صغيرة فيها كل مايقدّم في تلك المقاهي، ألوانها جذّابة، كاساتها ملوّنة، لكنّ مخلّفاتها واحدة، ومكان رميها واحد هو الطريق أو الرصيف، ولايبعد عن هذا النوع سيارات الإعلانات لبعض المشروبات التي تفرش حولها وإلى أبعد منها قليلاً كاساتها دعاية لمنتج، وهذا هو الهدف والواجب أن نوقف المقاهي المتنقلة، وليس هنا قطع أرزاق لأنها دخلت أماكن يُفترض أنّ لها حرمةً كالجامعة والمشافي وأبواب المدارس كي لاتتطور ويتطور معها المواطنون.

 

شوقي المعري

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...