من سوريا إلى فرنسا وعود على بدء:الخيبات التي تتوالى على قدر الأحلام

07-10-2009

من سوريا إلى فرنسا وعود على بدء:الخيبات التي تتوالى على قدر الأحلام

دعونا نتحدث عن الخيبات اليوم. ما بيد الحكاية حيلة. كنّا نقف مع شبان أقلعت أحلامهم إلى فرنسا قبل طائرتهم. بالكاد استطاعوا إكمال شهر إجازتهم الأول في بلدهم سوريا، وهم الموفدون حديثا للدراسة خارجه. قبل الـ«باي باي» وقتها، أخذنا لهم صورة: ابتسامة أمام باب «المغادرين» في المطار. حدث ذلك قبل أربع سنوات، في هذا الملحق بالذات، ولسان حال النوايا كان يقول: «لن نعود». في كادر الصورة القديمة كانت هناك عوائق، ومبالغ تكسر الظهر يجب ردّها إلى دولة تنتظر المقابل (خدمتها بعدد سنوات الإيفاد)، والأقارب يكفلون. لكن: «لن نعود».
الآن، بعد أربع سنوات، اثنان من الشبان عادا، والثالث على الطريق. خذوا لنا صورة!
أحد العائدين، وإذا رغبت في نقل حديثه «اليومي» إلى جمهور عام، ستجد نفسك أمام معزوفة طويلة من «تزميرات» جهاز تشفير الشتائم (كما البرامج الأجنبية المترجمة). وثاني العائدين ربما لن يستطيع ردّ التحية عليك إذا صادفته ذات صباح، فقد يكون مقطوع الأنفاس في طريقه لإكمال سباق الضاحية. صاحبنا هذا يؤدي الجندية، أو للدقة «الإجباري» كما يسميها السوريون. صاحبنا الثالث انتهت مدة إيفاده ومددتها له الدولة ستة شهور. ولكي تعرف لماذا هو في طريقه إلى العودة، عليك أن تسمعه يختم حديثه عن الفرق بين الصورة القديمة (آب 2005) والآن بالقول: «المكان بالنسبة لي يبقى ديكور جمالي والقصة يمكن أن تدور في أي مكان من العالم... والنهاية واحدة».
ليس القصد تتبع حياة أحد، بقدر هي محاولة لالتقاط الزمن في صورتين، نقف أمامهما لنفهم كيف يتغير الناس. أو ربما هي فرصة لمتابعة أحداث الفيلم بعد ظهور شارة نهايته..
صورة «الوضوح» الفرنسي الذي ارتاح له خير سابقا، مقارنة بـ«ضبابية» و«ببندقة كل شيء» في بلده (كما قال قبل أربع سنوات)، تأخذ الآن أبعاداً معاكسة ومنفرة، ففي فرنسا «الحياة نمطية وواضحة... تعمل وتستهلك وتخرج عطلة في الصيف وتشتري ديكاً رومياً لرأس السنة». والمختصر: «الاستهلاك سيد الموقف».
لا يستحسن هذا الشاب، الذي يتحدث وهو لا يزال يتنفس هواء باريس، رؤية الأمر على أنهم كانوا كوّنوا (خلال حديث 2005) نظرة خاطئة عن المجتمع الفرنسي، بل يفضل القول إنها «نظرة إلى حد ما سطحية». النظرة القديمة كانت من وحي عيني وافد جديد يرى «البشر ودودين ويتحملون أخطاءك اللغوية ويسألونك عن البلد الجميل الذي أتيت منه». أما نظرة الآن فتنقلها عينا شخص صار يخرج «مع أصدقاء لا معارف»، ويناقش معهم مواضيع «أكثر عمقا من الطقس والسياحة». هنا يبدأ، كما يقول «الاختلاف» الذي كشف له أن «عدد الذين يحترمون اختلافك هنا ليس أكثر بكثير ممن يحترمون اختلافك هناك».
لكن ما تكشّف لعيني خير، يجنح إلى مماثلة «أطوار» بلده وأقرانه مع فرنسا. جنوح تتلمس فيه نزق المغالاة. يكاد يقول لا فرق، بل إن «نفس الشيء» هو تعبير يمكن أن تضعه في نهاية كل مماثلة يعقدها بين مكانين. لنستمع إلى متواليته هذه: «الحريّة سلعة فارغة من أي معنى... تكفير التنويريين في البلاد العربية يقابله في أوروبا تهمة العداء للسامية. السجون السياسية في البلاد العربية يقابلها تفريغ المعارضة إعلامياً من محتواها السياسي، وتحويل رموزها إلى مهرّجين، في أوروبا. تطوير الاقتصاد ودعم القوّة الشرائية تحل مكان الشعارات القومية». صاحبنا أعطى خيار عدم العودة سابقا عناوين «معيشية»، لكنه يعطي خيار عودته الآن عناوين «قضايا كبرى»، كما يرشح من سردياته.
ولأننا نتحدث عن الخيبات اليوم، فدعونا نستمع إلى خلدون الذي عاد منذ أشهر بعد انتهاء مدة إيفاده، وهو يعمل الآن في احد المستشفيات السورية. هكذا يفتتح: «في البداية كنت بصدد اكتشاف ما ينقصني هنا في سوريا وفي حياتي، ما أسميه: النظام. النظام في الأكل والملبس والعمل ومفهوم دولة القانون. كل هذا وجدته ولم أكن حتى بحاجة اللغة لألاحظه في فرنسا». وللأمانة، فإن أول ما أزعج هذا الطبيب خلال حديث 2005 هو مقابلته الفوضى «السورية» قبل أن يطأ بلده، منذ دخوله خطوط طيرانه. وبعد زوال «متعة بداية أي شيء» كما يقول الآن، يخبرنا كيف تختلف الصورة أو تنضج و«عندما تبدأ بفهم ما يقوله الفرنسيون تماما، وما يفعلونه مثل الابتسام في وجهك والسخرية منك في الخلف، أو الحديث عن العدالة والحرية والمساواة و(بعدها) التصويت لفاشيست مثل ساركوزي».
يقول إن الخيبة تأتي على قدر الأحلام، وأحلامه كانت كبيرة. كان قبل سفره عاشقاً للثقافة الفرنسية، ولكنه «سقط على وجهه»، كما يقول عندما اكتشف أن الفرنسيين «يحبون (سيارتهم) بيجو ولا يأبهون لسارتر». يضيف خلدون إلى ذلك ضيمه الذي كان يلازمه كطبيب مقيم، شارحاً عن «درجة من الوقاحة والكذب غريبة، فأنت جيد لكي تقوم بالعمل ولكن أنت سئ لكي تستحق راتب الطبيب الفرنسي». يحدثك انه ليضبط مقياس احترام بعض الفرنسيين، كان بحاجة إلى تذكيرهم انه طبيب موفد وليس «مهاجرا أتى في شختورة».
خلدون هو الشتّام. لا يوفر الفرنسيين ولا السوريين، وفي الأثناء يبث اعتقاده بأن «كثيرين لديهم خيبة الأمل المزدوجة من بلدانهم ومن فرنسا، خصوصا إذا لم يكن المال هو حافزهم الوحيد للسفر».
وعلي عاد أيضا. انه يهرول الآن في الجندية. لم يغلق أبواب السفر مجددا، لكنه كآثاري مختص بالفترة البيزنطية في بلاد الشام، يحتاج العمل على الأقل بضع سنوات في سوريا مؤسسا لحياه مهنية في أوروبا يوما ما. هكذا يخبر أصدقاءه.
خير تتربص به الحيرة. رغم انقلاب صورة فرنسا في رأسه، ورغم المعادلات الأخلاقية التي يرصف بها طريق العودة، فهو يغص عندما يتجول في أيام باريس المشمسة ويتمنى ألا يغادرها أبدا. تستغرب إزاء طبيعة غصته «الجمالية»، حديثه عن المكان كديكور فيلم. لكن هذه هي الحال، والصورة قديمة كانت أم جديدة، ليس بالضرورة أن تكون منسجمة تماما. هناك عائدان من فرنسا بصحبة زوجتين منها، والثالث أيضا على الطريق. خلدون كان يحاول في حديث 2005 تهدئة رومنسيته وأصدقائه: تذكروا كم امرأة حلمنا أن نمضي العمر معها وكم امرأة سنتزوجها فعلاً، وعندها «سنعرف كم موفدا سيتزوج فرنسا». ربما سيصحح الآن: ستتزوجه فرنسا.
صورتان، وخيبات. هل بوسعنا الحديث عن «استغراب»، طبعا بالإذن من ادوارد سعيد؟ الفيلم لم ينته بعد.

وسيم إبراهيم

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...