ملف غياب جوزف سماحة (4)

02-03-2007

ملف غياب جوزف سماحة (4)

يُصلّى على جثمانه الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الأحد 4 آذار 2007 في مطرانية بيروت للروم الكاثوليك ــ طريق الشام ـــ بيروت.
تقبل التعازي قبل الصلاة في صالون المطرانية ابتداءً من الساعة الثانية عشرة ظهراً. ويومي الاثنين والثلاثاء 5 و6 الجاري في صالون المطرانية من الحادية عشرة قبل الظهر وحتى السادسة مساءً.

ساحر الكلمات .. دليلنا السياسي... رحل: حسين نصر الله

ابداً هذا الذهول الذي لا تفسير له, وهذا الخوف الشجي الذي يجعل الكائنات مستسلمة لشرود بلا عقل.
نحن في حضرة السكون الموحش, وملامح وجوهنا تعلن النبأ مثل مكبرات الصوت.
لقد مات جوزف سماحة, لكن على الرغم من هذا لرحيل المدوي, ابصرته واستحضرته في مرايا الدموع. منذ زمن لم ابك هذا البكاء الصامت, ولم تثخن روحي الغصات بهذا القدر. فمثلي اعتاد الموت والفقد وعرف باكراً ان الانسان لا مجد له.
رحل جوزف سماحة كمثل الاسرار, لندرك هذه المرة اكثر من اي يوم مضى معنى الخسارة وحجمها, ولنكتشف ان الصحافة فقدت شيئا من عبقها وعطرها المهني.
لقد اشتهر سماحة بأنه من المثقفين, وكتب كثيرا وناقش كثيرا, لكن مقالاته السياسية ظلت تمت الى العمل والنضال, وحين نقرأ له لا نستطيع إلا ان نتصور مناضلا عنيدا. صحيح انه كان يحب اصالة الفكر, ولكن المثقفين يحبون اصالة الفكر لذاتها, لكن جوزف سماحة لم يكن يحبها إلا وهي تعمل, وهو بهذا المعنى اعطى الكلمة المكتوبة صوتها وجعل لها وجودا محسوسا. لقد آمن منذ علاقته الاولى مع الحبر انه بإمكان الشباب ان يحققوا احلامهم من خلال الفتوحات الفكرية بدل اللجوء الى السلاح, ولذلك عقد صداقة متينة مع الكتاب وتعامل مع القراءة والمطالعة مثل ما يتعامل المؤمن مع الصلاة. فهذا الصحفي اللامع الذي ظل يعمل بدوام كامل, كان يجد الوقت دائما لرفقة حميمة مع الرواية والقصيدة وكتب السياسة والتاريخ. تماما مثل ما كان يجد فسحة لتبادل الحوارات مع ندماء الليل. وإذا كانت الماركسية التي آمن بها مقرونة بالمادية التاريخية, فإن جوزف سماحة لا يمكننا استحضاره إلا مقرونا بالكتابة والمانشيت وصحيفة «الصباح».
انني اراه الآن تماما كما رأيته قبل اكثر من عقدين في «جريدة الوطن» التي اصدرتها الحركة الوطنية ايام شبابها يده مضمومة على القلم بل حانية عليه, كي ينسكب الحبر دافئا, وكي يكون للنبأ معناه الواضح.
انني اراه متحدا مع القلم كما يتحد الليل والنهار ليكون هناك فجر, ولكن غيابه يعلمنا انه ليس للموت فجر عند الانسان.
انني اراه بابتسامته المتألقة يمشي الى جريدته بالخطى الثابتة لمن اكتشف ميدانه, فكل شيء يصدر عنه يعكس نبرة التجربة الحاسمة والراعشة, فهو من بين قلة عرف كيف يحول التجربة الى وعي. ذلك اننا عندما نقرأ له نتخيل انه يكتب بحياته, وأنه يعيش تبعا لفكرته عن هذه الحياة. فكتاباته تحمل الينا ابعد بكثير من مجرد التعبير عن حدث ما, وهي بقدر ما تضيء امامنا مكان الاحداث وأسبابها وما يمكن ان ينتج منها, تكشف ايضا عن شخصية تتحد مع ما تحمل اليها الحياة وما تحصل عليه كذلك من هذه الحياة.
نعم قليلة هي الكتابات المشابهة لمقالات سماحة, مقالات متقنة, متناسقة, لامعة, لها من الالق وقوة التأثير, ما يجعل منها ملحمة سياسية اذا جاز التعبير.
مقالات يمكن الاهتداء الى صاحبها من دون توقيعه. انها اسلوبه وفكره و«مزاجه», تكشف عن شخصية ادركت وعانت في مكان الاحداث وفي نيران التجربة, مقالات تقودنا الى صنف من الكتاب يتحد فيهم مذهل العمل والثقافة وصفاء التحليل مع المعيوش الآن وفي المستقبل.
جوزف سماحة «المفعم شمسا» هو ايضا من بين قلة من رفاق دربه لم يصب بلوثة «الندم الايديولوجي», ولم يذهب الى بيت اليمين, حين تخلعت ابواب اليسار, فقد ظل مدافعا عن افكاره وأمينا لها وملتصقا بها على نحو نادر, وبينما تخبط رفاق النضال في اوحال الماضي الوطني محولين موضوع الديمقراطية الى «نضال شرس» ضد القيم الاشتراكية, رفض جوزف سماحة الاحساس بـ«راحة الضمير» هذه التي منحت غالبية «المناضلين السياسيين» وسيلة للهرب عبر مجموعة من الكليشيهات الغربية. وظل سماحة رجل اليقين الذي يملك الجرأة لقول الحقائق «المكروهة نخبويا». وبينما كان يصرخ البعض انه ينبغي على لبنان ان يتطهر من الصراع مع العدو الاسرائيلي, ليصبح «بلدا عاديا», رأى جوزف سماحة في تجربة المقاومة اللبنانية علامة فارقة في تاريخ العرب المهزوم, ورأى ان حرب تموز قلبت المعادلات والمسلمات وفتحت نافذة مضيئة في العتمة التاريخية العربية الداكنة.
مات جوزف سماحة ففقدت صحافة لبنان بوصلتها وحاديها, تماما مثلما فقد قارئ جوزف سماحة دليله السياسي, نعم لقد اضفى جوزف سماحة على صحافة لبنان شيئا من سماته, وتعرفنا معه الى لغة طازجة ومبتكرة, ومنذ اليوم سوف يتغير شكل الصفحة في الزميلة «الاخبار» ذلك ان قلم جوزف الذي عرف الزميل والصديق اميل منعم كيف يموضعه داخل الصفحة, جعل من «الاخبار» قرينة مقال سماحة, بل اننا قد نتوه عنها اذا لم يكن مقال سماحة في صدرها.
انه ساحر الكلمات والخبير في انتقاء المفردات, لكن سحر كتابته لا يوقعنا في الوهم والغموض بقدر ما يقودنا الى صباحات المعاني. ولعل اكثر ما تميزت به مقالاته, هي قدرتها على اسرنا حتى السطر الاخير, ذلك ان اسلوب سماحة الذي يستحق بامتياز ان نطلق عليه اسلوب «السهل الممتنع» يجذبنا اليه, بحيث لا نعود نستطيع فكاكا من شرك الكلمات, ولذلك فإن من يقرأ سماحة, سوف يرافق عباراته على طول الصفحة, هذه الميزة جعلت من كتاباته محط اهتمام الجميع, بحيث ان غالبية قراء الصحافة اللبنانية, سيكون لهم موعد كل صباح مع ما سطره سماحة في افتتاحيته.
رحل جوزف سماحة في ليل الموت, فاستقبلنا صباحات الجنازة على ايقاع حبر المآتم. والآن حين نحدق في وجوهنا ندرك كم كان هذا الاعلامي قادرا على نسج العلاقات والصداقات. لكن في حالة سماحة ليس لزاما ان تتعرف الى شخصه كي تكون صديقا له, يكفي ان تقرأ مقالاته حتى تنحاز اليه وتصبح من المدمنين على متابعة ما يخطه يوميا.
رحل جوزف سماحة, فألفينا انفسنا في سماء بلا نجوم, وفي صباح بلا ضوء, رحل جوزف سماحة فوضعنا الحياة موضع سؤال وعدنا الى الواقع لنرى البيت من دون اهله, ولنسمع ضجة الابواب المخلعة بفعل قوة رياح الغياب, رحل جوزف سماحة, ولم نعد نعرف هل هو القدر الذي انتصر على الانسان, ام ان الاخير استسلم لحتميات القدر. غير ان الحياة علمتنا انه مذ ولد الانسان ادرك ان عليه ان يموت, وأن البقاء لا يقاس بالمدة, فوحده الموت ينجو من الزمن.
رحل جوزف سماحة فحزن عليه حتى ألد خصومه في السياسة... لكن هل ينفع الحزن لاسترداد ما خسرناه؟

جوزف وسماحه!!: عادل محمود

يكفي موت الطائفة والطائفية في فم القلم الذي يحمله أي كاتب, خصوصاً في لبنان, لكي يتقدم الكاتب, المثقف, الصحفي, صف المعرفة الابتدائية, والسياسية والوطنية الأرضية... ويصبح أكثر كفاءة من كل العائلات السياسية المغمورة بوراثة المصالح, وأكثر اتساعاً من مساحة الضواحي السياسية لأي فكرة. وعندما يموت يرن, في الفضاء, جرسُ الخسارة!!
سينظر الجميع, وعلى حق, الى جوزف سماحة من زوايا مختلفة, ومتعددة. وسوف نكتشف معاً اجماعاً, لا بأس به, على أن الرجل الراحل مبكراً جداً كان طوال الوقت في حقل الانحياز الوطني الشامل الواسع, القومي والعصري... المدني والحديث, ولم يكن في خندق الضاحية السياسية والطائفة والفكرة الفقيرة قليلة الدوام, والتي طال الزمان أو قصر, ستذهب الى العدم.
لا يمكن الحديث عن جوزف سماحة, بوصفه صحفياً, ذا قلم يسيل منه, عندما يفكك معرفة الحدث, نوع خاص من المرشد الصحفي العام لاتجاه الغامض من الأخبار... وانها ينبغي الانتباه, خصوصاً بعد رحيله, الى كونه فرداً معرفياً متحمساً, في هدوء, لأفق. وشخصاً يضع نفسه في تصرف الايمان بأن التفاهة زائلة لا محالة!
وفي الوقت نفسه يلفت النظر الى تلك الكفاءة المهنية التي تشبه, الى حد بعيد, الحماس غير المحتاج الى الكفاءة, بل الأصالة, لقضايا التقدم والرقي والعدالة والحق. وتلك صفات عاش فيها ومن خلالها جيل من الحالمين وثوار المعرفة والمتحمسين والآملين, بعد ركام أي حرب, النهوض من بين الأنقاض.
جوزف سماحة لم يكن قلماً في جريدة, وجريدة في بلد, وكاتب رسائل يومية الى جهات السياسة. وانما كان ابن عصر يمتحن الجغرافيا, ان كانت ستصمد في وجه التاريخ؟ وصاحب ورشة, خفية في قلمه, وظاهرة في كتاباته, تتوجه دائماً الى التأثير في الرأي العام, وتصحيح أخطائه الساذجة الآتية من مضخة الاعلام, واستثمارات السياسة, وقلة الحيلة!!
وفيما كان يعيش سجالاً مع المثقفين والساسة وأصدقاء الرأي والمواقع... لم يخطط لأن يكون قائداً أو أميناً عاماً لأي شيء... بل كان شخصاً معجوناً بنفسه, التي هي المزيج البسيط من حطام الأحلام وأمراض الأمل. شخص مدرك, في وضوح مؤلم, بنوع الضرر الفادح, بمعناه الريفي العميق. ونوع الانحطاط الفادح, بمعناه المديني. الأمر الذي يجعل من تحليل الاحداث, وقراءة الأخبار, والاستماع الى الهراء وسذاجة الآراء... نوعاً من النبش في الركام والبقايا... «هل سنبقى, هكذا, أمة من انجاز الاخطاء برأس مرفوع في احتفالات الصواب؟».
ليس من السهل قراءة الدموع في الفواجع ولكن من السهل التعرف, بعد همود الحزن, على مدى ونوع الخسارة في فقدان هؤلاء الكوكبة واحداً وراء الآخر. «كم دمعة يلزمنا لنبني بيت احزاننا الجديد­ احمد بزون­السفير».
ثمة فتاة­ صحفية شابة قالت: «لأقنع أحداً بعبد الناصر كنت اختصر وأقول له: جوزف سماحة يحب عبد الناصر».
وثمة كثيرون سيواصلون, في كلام يحاول الخروج من الحزن الى جوهره: وصف هذا الرجل الذي كان محباً بجسارة وحزيناً في ما بين السطور!!

 الكفاح العربي

لأوّل مرّة... أشعر بالهزيمة: رنا نجّار

معرفتي بكَ ضئيلة. لكنّني لا أنسى ذاك المشهد في مكتبك المتواضع، يوم كنت أتدرّب في جريدة «السفير». تقول لضحى شمس: «أشعر أنني اليوم جاهل... لم أقرأ ما فيه الكفاية في فترة بعد الظهر». انبهرتْ. سألتُ نفسي أيُعقل أنّ رجلاً مثلك يصف نفسه بالجاهل، وأمام تلميذة ما زالت تتدرّب في الأقسام التي ترأسها؟
معرفتي الشخصية بك، ضئيلة. لكنني تعلّمت من مقالاتك العميقة أكثر مما درست وحفظت وقرأت في حياتي. وحده أسلوبك السهل الممتنع جذبني إلى قراءة المقالات السياسية. هو ليس الأسلوب وحده، بل المعلومات الغزيرة المبسّطة، التي تفكّك شيفرتها، لتسهّل علينا فهمها وترسيخها في عقولنا كحقيقة عامة.
لقد علّمتني الفرق بين اليمين واليسار، وأنا على مقاعد الدراسة. نبّهتني إلى خطر التنين أميركا. عرّفتني، كغيري من القراء، إلى أهم الكُتّاب والمثقفين في العالم. أشعلتَ في داخلي حبّ المعرفة والبحث عن كتب ومصطلحات وقضايا... فتّحت عينيّ على فهم المعرفة. أيقظتَ روح المواطنية في داخلي، التي لم تنجح الحكومات اللبنانية متتاليةً، ولا المدارس ولا المناهج الجديدة، ولا حتى كتب التاريخ المزيّف، في إيقاظها أو تغذيتها.
سأفتقدك كل صباح، كما افتقدت صباح الإثنين في 26 شباط، عندما نقرت عبر الإنترنت على موقع «الأخبار» الإلكتروني، لأجد أنّ جزءاً يومياً وحقيقياً قد فُقد من حياتي. «صلاة صباحية» هي مقالتك، على ما يقول هيغل.
أشعر بالسخافة وأنا أكتب هذه الكلمات عند الفجر، لكنها الطريقة المثلى التي قد تفرّج عن تلك «الخنقة» التي تقبض على رقبتي، والغصّة العالقة في مكان ما في سقف حلقي.
معرفتي الشخصية بك ضئيلة، لكنّ وجهك الحامل هموم البلد، لا يفارق عيني! ابتسامتك، تهذيبك وخُلُقكَ المميّزان، أناقتك الصباحية وأنت تفتح لي باب المصعد في مدخل جريدة «السفير»، هناك حيث تعلّمت أصول الصحافة والمهنة منك. هناك حيث فتحت لي مكتبك لأستعمل جهاز الكمبيوتر خاصتك، وأنا ما زلت في مخاض تجربة المهنة والتدريب. هناك في الطابق الرابع حيث “عزمتني” على “كباية” شاي. وأنا كنت خجولة ومندهشة. أولاً، لأنني لم أرَ شخصاً بتواضعك. ولم أكن أحلم أن أجلس معك على الطاولة نفسها. لا بل تقرضني كمبيوترك الشخصي حيث ملفّاتك وبريدك الإلكتروني... هناك في ذاك المكتب النظيف، المرتّب، البسيط، غير المتكلّف، لا تكسو جدرانه اللوحات الثمينة، ولا الصور مع القادة والزعماء والسياسيين المزيّفين، إلا عبد الناصر.
أفتقدك، ليس وحدي، أنا وزملائي القرّاء، وأهلي وإخوتي في البيت، حيث نجتمع في العشية، نناقش ما كتبت ونرسل إلى بعضنا بعضاً مقالاتك عبر البريد الإلكتروني. أخاف على والدي، لقد قاطع الأكل مذ عرف بالخبر «الهزيمة» على حد قوله.
أفتقدك لأنك المحلّل الذي أثق به وبفكره وبحبره، لأنك المثقف بالمعنى السارتري الشاهد على عصره، ضمير الجماعة، منارتها وصوتها. المثقف الملتزم المنخرط في قضايا عصره ومجتمعه، الناطق باسم المضطهدين. الصحافي في المواقع الأمامية في المواجهة مع السلطة وسياسات الاستغلال. جوزف في الطليعة دائماً، على صفحات الجريدة، وفي حياتك وفي حياتنا اليومية. أفتقدك، لكنني كنت واثقة أنّ الانسحاب لا يليق برجل مثلك، ولا الاستقالة ولا حتى التقاعد، كما فعل أبناء جيلك، ممّن عايشوا خيبات سياسية متلاحقة، إقليمية ومحلية، ولا هذه الصفات من صفاتك. أنت مقدام كما عهدناك، وكما يقول لي والدي، أنت موسوعة، أنت المعلّم، كما نناديك نحن جيل الشباب في الصحافة. لم تحتوك السلطة ولم تبتلعك طائفتك، ولم تبع نفسك «لشيطان الأوضاع القائمة».
هذه ليست شهادتي فقط. إنها شهادة والدي، ذاك المدمن على قراءة مقالاتك، ذاك الذي بكى كطفل حين ارتميتُ في أحضانه ساعة الخبر «الهزيمة»، إنها شهادة والدي رفيقك في منظمة العمل.
جوزف سماحة، نفتقدك. بِنون الجمع.

لا تضيّعوا جدل جوزف: موسى برهومة

لئن وقع عليّ نبأ غياب الرفيق جوزف سماحة كصاعقة أيقظت دمعاً متحجّراً في العيون منذ زمن بعيد، ولئن ضاعف دمعي وجعله يهطل مدراراً صوتُ الصديق بيار أبي صعب أكثر أحبة جوزف وأشدهم قرباً إلى نفسه، فقد هالني ما كتبه الفنان الكبير زياد الرحباني في مقالتيه “باسم الحفنة” (الاثنين 26 شباط) و “ما العمل” (عدد الأربعاء 28 شباط).
ومصدر استغرابي ممّا كتبه زياد (الذي يتعين أن يكون جامعاً لا مفرقاً) آتٍ من الحزمة الهائلة من الافتراضات التي قدّمها لما ظنّ أنّه يدور في أذهان أولئك الأغيار الذين كانوا سعيدين بغياب جوزف سماحة، كون غيابه، أو بلغتهم اختفائه “يعني اختفاء الإزعاج المشاغب اليومي لمشاريعهم، زوال عقبة ذكيّة كاشفة أمام ألغاز أطباعهم وخفايا نيّاتهم، اختفاءَ نَفَس طويل معتَّّق دؤوبٍ على شرحهم وتشريحهم”.
إن من شأن التأمل في الغياب الخاطف المرير لجوزف أن يوقظ قنديلاً من تفكّر فيما آلت إليه أحوالنا نحن المثقفين والكتّاب والمسيّسين اللبنانيين والعرب، حيث طحنتنا ماكينة الوقائع اليومية في أقصى التباسها وتناقضها، وأعمتنا عن رؤية السري فينا وإدراك القاسم المشترك بين البشر عندما يقفون ذاهلين عاجزين حتى عن الحقد في حضرة الموت، فما بالك إذا كان الموت يسرق من بيننا الأبهى والأعز والأجمل والأرقّ؟
الغياب الذي تركه جوزف يتعين أن نملأه بالحب، لا بقهر الحزن واستبداله بلغة ثأرية تتناسى الألم وتتشبث بالمكائد ونبش ما في النفوس من قوى شر تتنازع الجمال في الروح والوجدان.
إن لغة زياد الرحباني تذهب إلى الفرز، وتراها مسكونة بتقسيم الناس إلى فئات وأطراف وأجنحة من دون إدراك لذلك الثاوي بين الضلوع الذي يحفز المخيلة على الانتصار على الظلام ومقاومة عتمة الغياب الذي يهزأ بالكائنات المستلبة.
ما العمل؟ يتساءل زياد الرحباني، ويريد لمقولة لينين أن تتحول إلى برنامج لتعويض الفراغ والكفّ عن الرثاء، لأن الرثاء، بحسبه، يتوجه إلى ميت، وجوزف لم يمت.
وهل مات جوزف حقاً؟
لا لم يمت. الأفكار الكبيرة لا تموت. الأشجار السامقة تنحني قليلاً لتداعب الريح لكنها لا تسقط. والشمعة تتوارى لكنها لا تنطفئ. وهكذا يتعين علينا نحن رفاق جوزف أن نعاين غيابه وأن ندرب أرواحنا على احتمال أن نفتح الصحيفة فلا نعثر على قلمه وهو يوجه البوصلة ويثقب جدران الصمت.
لم يكن جوزف شكّاءً ولا هجّاءً ولا سبّاباً، فلنسر نحن رفاقه على ضوء روحه المشع أبداً. ولنشمخ به كي يكون شامخاً بنا في رقدته الأبدية.

في وداع الرفاق الأربعة: كريم مروة

ودعت، وودع لبنان، في أسبوع واحد على التوالي، أربعة مواطنين غير عاديين، من رفاقي القدماء والأقل قدماً. أربعة رموز ديموقراطيين مضيئين من أهل اليسار. ينتمون إلى جيلين مختلفين في العمر، متباعدين في الزمن في أبعاده المتعددة. اختار كل منهم، على طريقته الخاصة به، انتماءه إلى اليسار في زمانه. واختار كل منهم طريقه الخاص به إلى هذا الانتماء. وحدد كل منهم، وفق ما كان يقتنع به، موقعه الخاص به، وموقعه العام، في الفكر وفي السياسة وفي الحياة، داخل تحولات العصر الكبرى. إنهم، في التسلسل الزمني اليومي للغياب: إدمون عون، مي غصوب، عبده مرتضى الحسيني، جوزف سماحة.
لن أدخل في التصنيف وفي التوصيف لتحديد مدى حبي وتقديري لهم، بالمفرد وبالجمع، ولا لتحديد علاقتي الشخصية والسياسية بكل منهم. فذلك أمر صعب في هذه اللحظة بالذات. وهذا أمر طبيعي، بلا جدال. سأتجاوز هذا الأمر لأقول، ببساطة ومن دون بلاغة، إني افتقدت بغيابهم جزءاً مني، جزءاً من سيرتي الفكرية والسياسية، جزءاً من وطني، ومن علاقتي العميقة المشتركة معهم، بالوطن اللبناني، وطن اللبنانيين جميعاً، من كل الأطياف، ومن كل الأفكار، ومن كل الأهواء، ومن كل الحالات التي يتميز فيها كل الناس الأحرار.
أذكرهم فرداً فرداً، رمزاً رمزاً، فكراً فكراً. أذكرهم في أنماط للعيش متعددة، متمايزة، متفارقة، متجانسة في عشق الحرية، وفي شوق الإنسان لديهم، في توقه، من دون شروط، للمستقبل، في وطن حر سيد، وطن لا تحكمه، أو تحكم فيه، أحكام ضد إرادته، من داخله أو من خارجه، قسراً، وبإكراه لا يقبله الحق، ولا يقبله العقل، ولا يقبله العدل، ولا تقبله الإنسانية. أذكر فيهم وجعي. أذكر فيهم أملي. أذكر فيهم وطني النازف حتى أعماق الروح.
يا وطني اللبناني
أقسم، باسم رفاقي، ممن ودعنا بالأمس، وممن ودعنا من قبل أمس، أقسم باسم رموز الزمن الماضي، ورموز الزمن الحالي، ورموز الزمن الآتي، أقسم، باسم رفاقي في الموت وفي القتل وفي الخطف وفي الظلم وباسم الشعب الحر السيد، شعبي، باسم شعوب الأرض المظلومة، وغير المظلومة، لكن غير الظالمة، أقسم إني اخترت لأهلي من كل الأجيال، اخترت لهم بالوعي الصادق، ولكل اللبنانيين، اخترت الوطن اللبناني، وطناً من دون شروط في الضد وفي الحقد، وفي التقديس وفي التكفير وفي التخوين، وطناً من دون وسائط من كل الأنواع، وطناً من دون خرائط، فيما يبدو كالأوطان المزروعة عسفاً، قسراً، كرهاً، في الوطن الواحد، ضد طبائع بنيان لا أوطان، كل الأوطان، إلا وطني لبنان.
أقسم إني اخترت لكل اللبنانيين وطناً من بين الأوطان جميعاً، وطناً لشباب بلادي، ولأولادي ولأحفادي ولآبائي ولأجدادي، وطناً لشيوخ بلادي، من كل الأعمار، ومن كل الآفاق، ومن كل الأطياف، وطناً لا يعرف زمناً لبدايته، أو زمناً لنهايته، أو زمناً لشفاء جراحات ما زالت تنزف فيه من دون توقف.
اسمح لي يا وطني، باسم رفاق قد ودعناهم بالأمس، خصوصاً، اسمح لي أن أعلن للعالم في أعلى صوتي المجروح المبحوح، أني قد أرهقني التعب، وأرقني التفكير بمستقبل أولادي، وبمستقبل أولاد بلادي.
ولأني ما زلت أتابع سفري الدائم خلف نعوش رفاق قد ذهبوا منذ بدايات التاريخ، ورفاق قد ذهبوا قبل نهايات التاريخ، اسمح لي يا وطني أن أعلن أني أرقني الأمل، وأرهقني ما أنتظر، وما ينتظر بلادي، في ما تنعم به جميع الأوطان.
ولأني أقترب سريعاً مما يعتبر لدى الإنسان نهايات العمر، ولا يأتي ما أنتظر، ومن أنتظر، لشباب بلادي، ولهذا الوطن الآتي من قلب التاريخ، والذاهب في عمق القادم من تاريخ العالم، اسمح لي يا وطني بأن أرثي باسمك من ودعنا في هذي الأيام الصعبة، أيام الخُلف وأيام الفتن النائمة، وأيام الموت، وأيام القتل، ولا فرق.
اسمح لي بأن أعلن باسمي، باسم الأحلام المتكسرة، وباسم الأحلام المستنفرة، برغم مرارات الأعوام الماضية، وبرغم تجاربنا فيها، الخسارة بدور منا وبأدوار أخرى خارجة عنا، باسم الآمال الآتية إلينا من قلب المستقبل، اسمح لي بأن أعلن أني لن أترك أهلي في وطني إلا وأنا معهم في الدرب إلى مستقبل زمن، في وطن تزدهر الحرية فيه، وتنتعش الآمال الحائرة، وينهار جدار الظلم، وينتصر الوطن على جلاديه.
لكني، وأنا في لحظة توديع رفاقي في الحق وفي الحرية، رفاقي في الوطنية، رفاقي في الأمل الآتي حتماً بالحرية، أرجو أن يفهم إخواني في كل البلدان العربية، أن اللبناني عريق في حب الحرية منذ بدايات التاريخ، وأن له الحق في أن يلقى منهم غير التصنيف المستغرب في باب التخوين وتكفير المختلف، من حق اللبناني أن تحترم خياراته، ونضالاته، وأن يُعطى فرصة عيش، وهو الساهر أبداً منذ بدايات الحرب العربية لحرية شعب فلسطين، الساهر من دون شروط أو منة، الباذل أقصى ما في طاقته من حب لفلسطين، وللبنان، ولكل بلاد العرب، وللحرية.

ملاك عند الله: بلال تقيّ الدين

صاحب القلم النجم... بريقك لم يخب. بل يزداد وسيزداد إشعاعاً ونوراً يسطع عند كل شروق شمس تماماً كما كنا نقرأ مقالك الافتتاحي بشفافيته وصدقيّته وبالكلمة الحرة صائبة الرأي، روحها الوطن وركنها الإعلام في زمنٍ الوطن بحاجة إلى «جوزف سماحة» أحد أركان القلم الذين تعملقوا بمستوى كتاباتهم في السياسة.
أقول لك شامخاً في دنياك.. وفي العلى..
بغيابك عنا وعن رفقاء دربك الصحافيين.. أصبحنا في دائرة مفرغة ودوامة ترمينا في مستنقع الأقلام المستوردة كسلعة للبيع في سوق للنخاسة.
لقد أعطيت الكثير لوطنك.. وللعرب.. ودافعت عن الحق ولم تطلب شيئاً لنفسك. لقد دافعت عن المظلومين ومسلوبي الحقوق ووقفت إلى جانبهم بصلابة في جميع المآسي التي عانوها.
على الرغم من غيابك.. تركت لنا «نفحات زاهرة» ممن اقتدوا بقلمك وكلمتك.
كم من حي ميت.. وكم من ميت حي..
جوزف سماحة.. أنت حيّ فينا بكل كلمة سطّرها دم يراعك ووصلت إلى قلب كل لبناني، وإن عاجلاً أو آجلاً سيقدّر قرّاؤك قيمة ما كتبت وسيشعرون بافتقادهم لك.. فيد القدر القاسية أخذتك من محبيك وليس في استطاعتنا الاعتراض عليه. فمشيئة الله الخالق عزّ وجلّ هي أقدر من كل شيء.
جوزف سماحة.. عمود من أعمدة الكلمة هوى.. ولكن كلمته الحرة والصادقة والجريئة باقية في القلوب في زمن سقطت فيه القيم.
جوزف سماحة صاحب كلمة فاعلة عميقة أشبه بالجندي المجهول الذي رفض الظهور العابر في وقت كثر فيه الاّدعاء.. في السياسة والشأن العام والإعلام.. في زمن هاجس وسائل الإعلام (المرئية خصوصاً) هو تعبئة الهواء لدسّ الفتنة والنعرات.. وتجارة الصورة والكلام.
كريم أنت.. ولا يزايدنّ أحد عليك في عروبتك ولبنانيتك. ولعائلتك الكريمة تعازينا الحارة والصبر والسلوان، ولنقابتَي الصحافة والمحررين عائلتك الثانية.

مواسم لم تنضج: حسام كنفاني

عرفته طويلاً... اسماً على ورق، أتابعه يومياً بنهم، وأتساءل عن مكنونات هذا الشخص القادر على تبسيط أعقد الأفكار، وتعقيد أبسط الأحداث.
أي عقل يحمل هذا الرجل القادر على قراءة ما بين الأحرف، ورؤية خطط جهنمية من لقاء تقليدي عابر بين مسؤولين.
كنت أحسد كل من حظي بفرصة لقائه والحديث معه. كنت أتساءل كيف يمكن التقرّب منه. لمحته مرة في أحد المؤتمرات السياسية في دبي حيث كنت أعمل، حدثتني نفسي أن أقترب منه لألقي السلام، لكنني جبنت.
خشيت أن أصدم بغرور رجل عايش مراحل التاريخ اللبناني والعربي وصادق رجاله وعمل معهم. تخيّلت أن مكتبات العالم، التي يختزنها هذا الرجل بعقله، لن تسمح له بوقت قصير مع مستجد نسبياً في العمل الصحافي.
... اكتشفت أني كنت حقاً لا أعرفه. وحتى اليوم، وبعدما حققت جزءاً بسيطاً مما كنت أحلم به، ما زلت لا أعرفه.
ثمانية أشهر من معرفته شخصياً غير كافية... لم يكن هذا حلمي. لم يكن هذا أملي حين التقيت به في المرة الأولى للاتفاق على الانتقال إلى لبنان. لم تخبرني بأنك على هذه العجلة، أمّلتني بـ «مواسم كتابة» عندما أخبرتك عن افتقاد قرائك لافتتاحيتك.
كنت محقاً، لكن المواسم لم تنضج بعد، لا يزال أمامنا الكثير من العمل، لا نعلم إن كنا قادرين على مواصلته من دونك للوصل إلى موسم القطاف الذي أردته.

صلاة فوداع: إبراهيم وزنه

قرأت له وتعلّمت منه، قبل أن أعرفه ويعرفني، وهو الغني عن التعريف، ولا أبالغ إذا ما شبهته بأل التعريف التي اذا ما ارتبطت بأي صحيفة اصبحت معروفة جداً.
انه جوزف سماحة الذي أعادني من جديد الى مقاعد الدراسة، والسماحة ليست في اسمه فقط، بل في فعله وعقله وتصرفاته مع الآخرين، تعرفت اليه عن قرب عندما التحقت بركب المحررين لصفحات «الأخبار»، حلم جوزف سماحة والمحطة التي انتظرها طويلاً لمخاطبة العقول المتعطشة للحقيقة والمعرفة، فأنارها بعلمه وبصيرته، وهو القادر على تبديل القناعات بسلاسة جمله وحلاوة عباراته وصلابة مواقفه وميزان منطقه واتزان آرائه... وكل ذلك بـ «خطه الأحمر».
ذات مرة قصدت قاعة الاجتماعات لأصلّي داخلها، فوجدته منكبّاً على كتابة مقاله اليومي، فالتفت نحوي قائلاً «تريد ان تصلي»، وبسرعة وضع قلمه على الطاولة وهمّ بالخروج، فاستوقفته مخاطباً اياه «يمكنك ان تواصل الكتابة وأنا أصلي في زاوية القاعة، وهكذا أنت تعبد الله كتابة وأنا مصلياً». ولما انتهيت من اداء صلاة الظهر توجهت نحوه قاطعاً حبل افكاره وسردت له «خبرية» بغية إدخال السرور الى قلبه، ثم عدت الى زاويتي لأصلي صلاة العصر، ثم غادرت القاعة شاكراً تعاونه وسعة صدره.
وفي اليوم التالي تكرر المشهد عينه، دخول فسلام فصلاة فخبرية فصلاة فوداع... وبعد أيام التقاني في رواق الجريدة، فبادرني «لم أرك تصلي في القاعة منذ يومين؟» فقلت له «ما عندي خبرية حلوة تا خبّرك ياها» فأضحكته إجابتي من كل قلبه. قلبه الذي توقف فجأة، معلناً سباق أحزاننا، ومحركاً أقلامنا الى ميادين الرثاء.

كلّ هذا الغياب: حيفا ـــ فراس خطيب

لم أكن صديقاً شخصياً لجوزف، لكنَّ الحظ حالفني وعملت في صحيفة «الأخبار» مراسلاً من حيفا. تحدثت إليه هاتفيّاً مرّات عدّة مع بدايات صدور الصحيفة «وليدة الحرب» كما قال لي ذات مكالمة. كانت المكالمات قصيرة، لكنَّها أتت بعد سنوات من قراءته شبه اليومية. أذكر يومذاك أنني ارتجفت بحكم «الحديث إلى المثل الأعلى»، لكني هدأت حين ضحك ملء هيبته في المكالمة نفسها وكسر ذلك السد. لم يكن جوزف بالنسبة إلي سؤالاً قدر ما صار إجابة عن «ماذا ستكون مستقبلاً؟».
عند موته شردت لساعتين، أردت أن أخطَّ شيئاً ما عن «محارب يترجّل نحو النوم»، قرَّرت ألّا أشغل نفسي بسؤال الرثاء، لن أسمي ما سأكتبه رثاءً، سأسميه «شيئاً عن جوزف»، لكنني لم أكتب، لا أستطيع الكتابة عن شيء لا أصدقه خوفاً من ابتعاد القلم عن الحقيقة، خوفاً من الوقوع في جبّ الابتذال، لكنّني استوعبت بعد ذلك أنَّ الغياب صار كل الحقيقة، فكتبت... كتبت لأنني ببساطة، أحب جوزف شخصاً وقلماً وموقفاً...حتى لو كان بعيداً.
عند اللوعة، يشعر الإنسان بالجدران. يموت في الحياة ويعيش في قساوتها. يدرك أنَّ الحلم مطوّق، تماماً مثل القلم والرأي والأفق، كل شيء مطوّق. حتى حيفا، توأم بيروت، المكشوفة على بحار العالم، مطوّقة، ونحن في هذه الرقعة المفرغة نشعر بالجدران ونتمنى لو للحظة أن نكون هناك، أن نشم نسيم حلم الماضي الصامد أبداً... بيروت.
كنا نتمنى أن نشعل شمعة إلى جانب صورته ونقول له، حتى لو لم يسمعنا: شكراً، شكراً لذلك القلم الذي لم يترك فلسطين وقضيتها يوماً واحداً في زمن «الاعتدال».

عذراً للاقتباس!: رلى راشد

الرحيل حرفة وغواية وفتنة لا يُدركها سوى قليلين، لكنك كنت في عدادهم بلا شك. عرفت كيف تلتقط نبض الموت فاستبدّ بنبض قلبك. في طرف رواق تآلف مع وقع خطواتك، تطلّ صورك العملاقة وأنت باسم، كأنك تُمازح موتك لأنه باغتك من دون استئذان، ليحول دون رواية مغامرتك اليتيمة معه. ومن طرف رواق مملكة خاصمت الضوء، وصلتَها للتو، ستعرف كيف تُبرق لنا افتتاحياتك، وكيف تلقّننا أبجديّة قراءتها وجفوننا مُسدلة.
معرفتنا تختصرها شذرات تحيّات صباحية وأخرى مسائيّة تهيم في ضوضاء الخبر، وما وراءه، أما غيابها فصمت صاخب. هل طالبت روحك بساعة موتك؟ هل حملتها كالغنيمة في راحتها المُتعرّقة؟ أم هو قلمك يسفك حبراً فأدار ظهره لمن أضناه بآلام المخاض اللامتناهية؟ سترافق الدموع رحيلك، لكنها لن تفلح في إضافة غشاوة على آخر سطورك وهي تترقرق رقصاً في عيون أصدقائك.
يتآكلني الندم. لقد تأخرت في معرفة الخبر، فاعذرني إن لم يكن توقيتي صائباً (واعذرني مرة أخرى للاقتباس).

أرغفة القرّاء: فيرا يمّين

جوزف سماحة، سماحة الأستاذ الذي لطالما اعتصم في صمته وأطلق الصوت المدّوي عبر حبره، تُفلفش صفحات الجريدة بسرعة أو بعض تأنٍّ، لتعود فتركن الى مقالته التي يصوغها من حسٍّ تحليلي وقدرة لغوية وبُعدٍ وطني. وتعيد قراءة ما يكتب أحياناً أكثر من مرة لتعرف أكثر ولتتعلم أكثر، فالرجل اختبر الحياة السياسية وعجنها وقدّم مقالاته أرغفة إلى القراء التوّاقين إلى إدراك السياسة في لبنان وفقه غرابتها وتبدّل أشخاصها بتبدّل الموازين والقوى.
جوزف سماحة الطويل القامة والبال، المتواضع تواضع قمح سهول عكار، غابَ في ضباب لندن التي قصدها زائراً ليرجع منها الى تراب الأرض الخائف على ترابها والباحث عن صيغة تحميه لأهله من أهله قبل غيرهم.
عجباً، كيف للإنسان أن يعرف وهو الهارب دوماً من الرحيل والمختبئ من العمر، كيف له أن يعرف أنه راحل فيكتب وصيته من غير أن يعرف أنها وصية، مقالان للأستاذ، أول للمعارضة وآخر للموالاة، فيهما وصية وتوصية عسى المعارضة والموالاة تعودان اليهما فيتحوّل المقالان الى مبادرة، مبادرة من داخل تمثّل مدخلاً إلى توافق وتوفيق بين الطرفين فيزهو حبر جوزف سماحة ويسنبل قمح سلام من غير استسلام للقلق والخوف.

أقنعني برحيلك: راجانا حميّة

أهرب منك إليك يا «جو»، أترك وجهك المعلّق في الجريدة وأذهب إلى البيت علّي أنسى تفاصيلك الجميلة، لكنّي لا أجرؤ على النسيان، فأعود في اليوم التالي وبي نهم لتلك الشامة على خدّك الأيسر. لكن أهكذا علّمتني أيّها الرفيق، أن أهرب من الإدمان إليه؟ ليس هذا عهدي بك. صحيح أنّك علّمتني أن أتماسك في لحظات الضعف، إلاّ أنّك نسيت أن تعلّمني كيف أقف أمام رحيلك الأنيق.
أما آن الأوان أيّها الرفيق للعودة إلى مدينتك التي احببت، إلى المدينة التي غدرت بها لحظة توقّف قلبك النابض بمقاومتها خارج أسوارها، أما آن الأوان لتعرف مدى اشتياقي لابتسامتك الخجولة، لجولاتك المسائيّة على الأقسام تتفقّد مشروعك، لنظاراتك... أنا لا أريد يا جو أن تتركها، لا أريدك نائماً بدونها، أخاف على عينيك من التعب.
...صدّق يا جو، واسمح لي أن أناديك بهذا الاسم، أنّني أكرهك اليوم بقدر ما أحببتك في حياتك، أكرهك لأنّك اخترت أن تنام من دون أن تطمئنّ إلينا، أكرهك لأنّك اخترت الرحيل من دون أن تحدّد موعد العودة. أكرهك لغدرك، هل استطاع يا جو الموت أن ينال من عزيمتك؟ هذه ليست طبائعك! لا يحقّ لك الاستقالة؟ عليك أن تعود، لكن من دون «الصندوق الخشبي. عدني بأمّك سيسيليا بأن تتركه هناك، في بلدهم.
...جو، إن كنت قد فضّلت الموت على العودة إلينا، فعُد على الأقلِّ مرّة واحدة، استأذن ملائكتك، أريدك أن تكتب للمرّة الأخيرة مقالاً تقنعني فيه بحكمة رحيلك، أقنعني أيّها «الحبيب» بمراسم النسيان.
وداعاً يا معلّمي، اخترت الرحيل قبل أن آذن لك، لكن أما كان عليك أن تدعني أرى الشامة قبل انسحابك؟

يعرفك الصامدون جنوباً: داني الأمين

كلهم يعرفونك يا «جوزف»، أبناء عيتا الشعب وبنت جبيل ومارون الرّاس... كيف عرفوك، وهم تحت الاحتلال، ومن ثم العدوان؟
من داخل منزله المشوّه بالقذائف، قال عبد الله ناصر، ابن عيتا الشعب، «كلّنا فقدنا جوزف سماحة. نريد أقلاماً تدافع كالصواريخ». أما أحد أطباء بنت جبيل فيقول: «أشعر بأنني فقدت جزءاً من أفكاري»؛ وآخر يقول «أشعر بيتمٍ سياسيّ كنت أملأه بقراءة افتتاحيات جوزف سماحة»، فيما تقول طالبة صغيرة من بلدة الطيبة: «قال لي والدي إنّ هذا الرجل كان مقاوماً من نوع آخر».
ليس المثقّفون وحدهم يعرفونك يا جوزف، ولا حتى القرّاء، بل الصامدون هناك أيضاً، على الحدود وقبالة فوّهات المدافع، أو تحت الركام.

 الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...