فت خارج صحن الوطنية

16-08-2006

فت خارج صحن الوطنية

الجمل ـ أُبيّ حسن : مع أن الظرف العام, لايسمح, لأكثرنا ربما, بالكتابة التي نرتأيها احتراماً لسيل الدماء الجاري في لبنان الشقيق وماخلّفه العدوان البربري من دمار وخراب فيه؛ فضلاً عن ذلك أن المزاج العام ليس لديه قابلية للمزاح والتنفيس, إلا أنني أجد نفسي أحياناً بحاجة للخروج من هذه الأجواء التي تشعرني بالكآبة والاختناق والقهر والألم, لذا لم أجد وسيلة "أفش" من خلالها ماينتابني من حالات أقلها القهر وارتفاع الضغط وماشابه سوى ممارسة هوايتي المفضلة في التعريض بالحكومة العتيدة وجل المسؤولين, وربما هذا مايجعلني أتذكر جارتي المرحومة "هدى" التي كانت تحترف الرقص, إلى أن ألهمها الله سبيل الحج إلى بيته الحرام, وبالتالي اعتزلت مهنتها السابقة. وإن صارت – في مابعد - ملتزمة (حسب المعنى الدارج), إلا أنها بقيت مقبلة على أشياء أخرى (نقيض الالتزام), سنأتي على ذكر بعضها في سياق المقال.
الشيء الذي يجعل ذاكرتي تستحضّر جارتي تلك (تغمدها الله بواسع رحمته)هو الحديث الغث والممل عن الوطنية في سورية هذه الأيام, وتعريف الناس لها, من الموالاة والمعارضة والحياد على حد سواء؛ ومن نافل القول إن كل طرف لديه من الحجج "الدامغة" مايمكنّه من إثبات وطنيته(ووطنية من يشاء من صحبه) بالقدر الذي يملكه من الحجج التي بموجبها تسقط الوطنية "شرعاً" عن سواه!  طبعاً, ولن يجد أي محاجج حرجاً من أن يهب رداءها (الوطنية أعني) لعمرو من السوريين, حاجباً إياه عن زيد منهم.
حمى الوطنية في سورية لاتقتصر على حديث المثقفين والسياسيين والعوام سواء كانوا من رواد  الأروقة المخملية أو المقاهي الشعبية؛ إذ باستطاعة أي مشاهد متابعة مظاهر الوطنية في بلادي من خلال مفردات من قبيل: الأغاني الوطنية, والنشيد الوطني, والعلم الوطني, والمسؤول الوطني, والمستشفي الوطني, والمعارض الوطني(للأمانة,هذه أتت منحة ومكرمة من النظام لمعارضة الداخل!), والمدارس الوطنية, ومراكز التأهيل الوطني, والصناعة الوطنية, والهمّ الوطني, والتراب الوطني, والمقدس الوطني, ومعاهد التدريب الوطني, وهل ننسى كتاب التربية الوطنية؟ الخ... وقد تكون مفارقة جميلة أن الشيئين اللذين حُرما من نعمة صفة الوطنية في بلادي هما الأمن والسجن, علماً أنهما الجهتان الأكثر حضوراً في وعيي السوريين وذاكرتهم!!
و من المفارقات (الشخصية)الجدير الوقوف عندها كذلك هي:  بالرغم من كثافة المفردات والمسميات المُلحق بها كلمة "وطنيٌّ" غير أني لم اشعر بدفء ذلك الوطن الذي اشتقت من رحمه  مفردتا "وطنيٌّ" و "ووطنية", قدر ماشعرت ببرودته رغم كوننا في شهر آب اللهاب!
نعم الكل في بلادي مشغول بالهمّ الوطني والحديث الوطني, حتى أن أي عضو في إحدى القيادتين (ق) أو (ق) من أصحاب التاريخ الحافل في نهب ثروات الوطن يتحدث (دون أي شعور بالخجل)عن الوطنية وعن معانيها النبيلة إلى درجة يعتقد معها سامعه أننا نعيش في بازار "السخّابة" في قضاء مدينة جبلة السورية. ولعل الوطنية تكون في أبهى حللها عندما تخرج من فيه جلاد من جلادي أبناء بلادي كي لا أقول "وطني".. من منكم سمع ضابط مخابرات يتحدث عن الوطنية؟
 أحاديث المقهى أيضاً ليست بعيدة عن فضاء "الهمّ" الوطني والوطنية, وآخر حديث كنت شريكاً به في إحدى المقاهي هو ماذكرني بجارتي "هدى" أسكنها الله فسيح جنانه؛  فقد كنت أتجاذب أطراف الحديث مع صديق, صفته السياسية: معارض سابق (لاحقاً موال), وكأي سوريين وطنيين يجتمعان يكون الشيطان.. قصدي السياسة.. ثالثهما. قللنا الأدب, في معرض حديثنا, وبدأنا "نغتاب" بعض مسؤولينا مستعرضين تاريخ كل منهم, بما تنطوي عليه تواريخهم من فساد وإفساد (على الصعد الوطنية كافة)الخ... والطريف في الأمر أن محدثي هو من كان يسرد عليّ تاريخ كل مسؤول نتناوله, ذاكراً لي أدق تفاصيل فساده, وكم تبلغ ثروة كل منهم(التي جمعها من نهب مال الوطن), وفي أي بلاد الله يستثمرها(حتماً أن استثماراتهم ليست على التراب الوطني), وفي أي بنوك يودع أمواله(بالتأكيد ليس في البنوك الوطنية)؛ وقبل الختام أفادني في أي البلدان يقيم أبناء هؤلاء المسؤولين (طبعاً لايقيمون في أوطانهم) وماذا يملك كل من أولئك الأبناء "البررة" من مصانع وعقارات في أمكنة إقامتهم, ولم يفته أن يفيدني أين يصرف أولئك "الأحبة" أموالهم (حتى هذه لاينفقونها في الملاهي الوطنية أو حتى القومية؟!)... قاطعته مستغرباً: إذاً, ماالذي أعجبك في هؤلاء المسؤولين حتى انتقلت إلى صفوفهم متبنياً وجهة نظرهم؟ (أكتب إجابته باللهجة العامية):
- ياخيو, هم صحيح فاسدين, وكل شي حكيت لك إياه صحيح.. ووينك, وكيلك الله لسه في أكتر من هيك  كمان.. بس الواحد منا يعني يكون منصف.. ليش حتى مايكون منصف؟ هم مسؤولين وطنيين, مافيك تشك بوطنية حدا منهم.. فيك تشك بوطنية حدا منهم؟
بالتأكيد لم أجبه, إنما تذكرت "هدى" والحوار التالي الذي جرى على مسمعي بينها وبين جاري السمان؛ وإذ اذكره بحذافيره, وباللهجة المحلية كي أحافظ على نكهته, فإني أعتذر مسبقاً من "هدى", كما أني لن أعلق لا على حديثها ولا على حديث صديقي الموالي, تاركاً للقارئ أن يؤول الختام والمقال كما يشاء.
الحديث بين "هدى" و "السمان" :
السمان: هدى..
هدى: نعم, أبو شادي؟
السمان: عيلتي والولاد هم  اليوم بالضيعة..
هدى: (بشغف) إي؟
السمان: شو رايك نجيب لنا فروجين..
هدى: (مسرورة, تتلمظ بشفاهها) أي, وبعدين؟
السمان: ونعمل لنا سهرة..
هدى:  لوحدنا؟
السمان: أكيد لوحدنا!
هدى: (بلهفة وسعادة) إي, وشو كمان؟
السمان: ومنجيب لنا قنيتين بيرة..
هدى: (مقاطعة بحزم) لا .. أبو شادي, الله يرضى عليك, البيرة حرام.

ملاحظة: قد يكون هناك, من سيقول, ولو في نفسه, لماذا في هذا الوقت بالذات؟ والأمر بالنسبة لي سيان.

الجمل

إلى الندوة

التعليقات

السنة القادمة إنتخابات رئاسية و نتطلع الى السيد الرئيس أن يطرح في ورقة ترشيحه قائمة حكومته و أعضاء الدولة التي يرى فيهم مستقبل البلاد كما رأى فيها ماضيها و حاضرها حتى الآن. هذا سيجعل إختيارنا أكثر موضوعية . إذ لا يمكن للمرئ أبداً أن يراهن على حبه للرئيس بغض النظر عن كامل حكومته. لا أدري إن كانت هناك معجزة تزيح من المشهد السياسي السوري معظم متنفذيه. و هذا لا يتعارض مع أي موقف وطني تتخذه سوريا ضد أعداء الأمة أو لدعم أبطال الأمة. أعتقد أن خطاب الرئيس البارحة كان في مكانه لو كانت الوجوه الحاضرة وجوه يحبها المواطن السوري. و لكن مع هؤلاء! سيكون من السهل إيجاد ثغرات لقضم كتف الأسد ! إنهم جميعاً- بعكسه- أوراق محروقة في عالم السياسة و دخانهم قد يخنق نار حماسته و حماسة الشارع السوري.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...