غسان الرفاعي: مختبرات سياسية مستوردة

22-03-2010

غسان الرفاعي: مختبرات سياسية مستوردة

ـ 1 ـ قد يتعذر على الإنسان العربي (السوي) ان يستورد هموماً خارجية، مادام غارقاً حتى أذنيه في همومه الوطنية، إنه يتعاطف مع معاناة المجتمعات الأخرى ولكن يظل مستنقعاً في واقعه، يتعايش مع الأحداث التي تجري في العالم، ولكن لا يتحرك الآن (كسائح ثقافي).

الوطن إزميل يحفر في تضاريسه وخنجر يغوص في داخله، ولكن ارتشاق المثقف العربي في المنفى طواعية أو قسراً يولد عنده الرغبة في أن يعتبر الإشكالات التي تتلاطم في المجتمع المغاير كأنها صورة طبق الأصل عن إشكالات مجتمعه من جهة، كما يتمنى أن يستورد الحلول لهذه الإشكالات دون تعمق أو دراسة متمهلة من جهة أخرى، إنه مسكون بما يجري في الأرض المحتلة من انتهاكات وحصار وإذلال، وباجتماعات اللجنة الرباعية في موسكو وتنقلات الموفد الأميركي ميتشل واستفزازات العنصري الآثم ليبرمان والانتخابات العراقية ومؤتمر القمة في طرابلس ولكنه يتفاعل بالإسقاطات الجديدة التي تفجر المخزون التاريخي للمجتمع الذي اختاره كمنفى وتعصف بثوابته السياسية والاجتماعية وقد تولد اهتزازات ليس من السهل التنبؤ بتداعياتها. ‏

‏ ـ 2 ـ ‏

بدأ الحزب الاشتراكي الفرنسي يستعيد بعض (نقاهته) وشيئاً من وحدته التي مزقها صراع انتهازي حاقد بين سيدتين طموحتين سيغولين رويال المرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية والتي هزمها الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، ومارتين اوبري رئيسة بلدية ليل وابنة جاك دولور رئيس المفوضية الأوروبية سابقاً، لوراثة منصب الأمين العام للحزب بعد تخلي فرانسوا هولان الذي تربع على هذا المنصب طوال عشرة أعوام، إن الحزب الاشتراكي برئاسة مارتين اوبري حالياً الذي حقق انتصاراً باهراً في الدورة الأولى من الانتخابات المناطقية يوم الأحد الماضي ورفع رصيده في الدورة الثانية التي جرت أمس بعد ان بادر إلى تشكيل جبهة يسارية على مقاسه يكون هو عمودها الفقري. وتضم الشيوعيين وأنصار البيئة (الخضر)، على الرغم من تفشي الكراهية الشخصية بين قادته التاريخيين الذين يطلق عليهم اسم (الفيلة). لقد أظهرت المناقشات الحادة التي جرت بين مثقفيه فجوات أيديولوجية وسياسية من الصعب تجاوزها وتسويقها خصوصاً بعد ان تساقطت شعارات قديمة وتلاشت أحلام واعدة وأصبح لزاماً عليهم القيام بعملية ترميم للمنطلقات الأساسية كي تكون في مستوى التطورات والمستجدات والتحديات. إن الانتلجنسيا الفرنسية المصابة بالهم الاشتراكي لم تشأ أن تفوت هذه الفرصة وبادرت إلى طرح افكار جديدة ربما لا تكون سهلة الهضم العاجل ولكنها تبقى (بوصلة) قد تثير الإعجاب إن لم تكن الدهشة عند مثقفي العالم الثالث، على الأقل في المدى القريب. ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

شهدت كرنفالات الانتخابات الفرنسية المناطقية مشاجرات حادة حول تعريف الخيانة ومعرفة أسبابها وانعكاساتها على الحياة السياسية والاجتماعية خصوصاً بعد أن التحق بعض غلاة الاشتراكيين بساركوزي وأعلنوا (توبتهم) مثل ايريك بيسون الذي كان الناطق باسم سيغولين رويال المرشحة الاشتراكية لرئاسة الجمهورية ثم انقلب إلى داعية فاجر لساركوزي الذي عيّنه وزيراً للهجرة والهوية الوطنية، ومثل برنارد كوشنير الذي قبل أن يكون وزير خارجية في حكومة يمينية كونها ساركوزي بنفسه. ولم يفاجأ الرأي العام الفرنسي بصدور عدد خاص من أسبوعية (البوان) عن الخيانة تضع فيه على كامل غلافها صورة رجل غامض يحمل خنجراً ويستعد لطعن عملاق طويل القامة غير واضح المعالم من ظهره، تحت عنوان كبير (الخيانة من يهوذا إلى ايريك بيسون وبرنارد كوشنير) كما أبرز غلاف الأسبوعية الجملة المأثورة (إذا خان زعيم من معسكر اليمين وانتقل إلى اليسار سمي عمله هداية ويقظة ضمير، ولكن إذا انتقل زعيم من معسكر اليسار إلى اليمين سمي عمله دعارة وانتهازاً). ‏

تحت عباءة الخيانة تختبئ ذرائع متنوعة كقوس قزح مثل القول: إن الخيانة هي إخلاص للمبادئ وإن الانشقاق عن الجماعة كان بدافع الشفقة من ضلالهم، وإن المرتد ليس (إمعة) يتغير مع الظروف وإنما هي (الرياح التي تجري بما لا تشتهي السفن)، على أنه لا يمكن أن يخون الإنسان إلاّ إذا كان في البدء موالياً لشيء أو جماعة، ثم اكتشف أن موالاته لم يعد لها مبرر. وهناك بعض الخيانات التي تفاخر بنبالتها مثل خيانة (بروتس) الذي طعن القيصر في ظهره باسم الحرص على الديمقراطية وبعد أن اكتشف أنه مصرّ على أن يكون طاغية. ‏

ـ 4 ـ ‏

من أكثر الأفكار الجديدة خبثاً ومخاتلة التي طرحها مثقفو الحداثة الاشتراكية تأطير العلاقة المريبة الشائكة بين الأخلاق والمال، وفي قناعة (اندريه غوردون) المتحمس لهذه الفكرة أنه ينبغي إلغاء المسافات التي تفصل الاقتصاد القائم على مبدأ الربح وشرعيته، والخط السياسي الأخلاقي الذي يدين المالاذ يعتبره من أدوات إفساد الضمائر الثورية. لقد بقي الفكر الاشتراكي يتخوف من التعامل مع المال بجرأة وواقعية لأنه كان يحلم بعالم جديد يقوم على العمل المبدع لا على القيمة الشرائية للمال، ولكن فشل الشموليات الديكتاتورية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي سابقاً قد اثبت أن الفساد المالي الذي يعشش في الأنظمة البيروقراطية الشمولية القمعية أكثر من تغلغله في البلدان التي تعتمد على اقتصاد السوق. ‏

إذاً لا بد من وضع حد للنفاق السياسي الرائج والقائم على التظاهر بالزهد بالربح والمنفعة الشخصية في حين أن الاقتصاد لا يمكن أن يزدهر إلا بالربح والمنفعة الشخصية. ‏

وقد تكون بعض الأنظمة ومنها بعض أنظمتنا بحاجة إلى (جواز مرور) للتخلص من ازدواجية العفة المزيفة في الخط السياسي والفسق الفاضح في الممارسة الفعلية، ولعل الافتقار إلى جواز المرور هذا هو من الأسباب الرئيسية في (سوء التفاهم) بين هذه الأنظمة وجماهيرها العريضة. ‏

ـ 5 ـ ‏

ولم تكن الفكرة التي طرحها أحد المتحمسين لأنصار البيئة من الخضر أقل إثارة. لقد طالب بأن يناضل الجميع من أجل (تخضير السياسة) بعد أن تسيّس الخضر وأصبح لهم حزب سياسي يخوض المعارك الانتخابية. يقول أحد المتحمسين: (إن أكبر كارثة في القرن العشرين هي انتصار الإنسان على الأشجار في حين أن أكبر كارثة في القرن الحادي والعشرين هي انتصار الحاسوب أو الانترنت على الإنسان. وما لم نعد للأشجار حضورها وعبقها وللإنسان نضارته وحريته فقد نرغم على حفر قبورنا الجماعية) ومن هذا المنطلق فإن المطلوب هو انتصار الريف على المدينة أو تفوق الإنسان على الدقة الدموية للحاسوب. ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

وهناك انشطار في المجتمعات الحديثة بين أرستقراطيي العقل الذين ينتجون الأفكار وارستقراطيي المال الذين ينتجون السلع، وكل الأدلة تشير إلى أن هذا الانشطار قد يولد القطيعة لسببين: أولهما أن الهوة بين الشطرين تتسع وتتعمق بحيث أصبح من المتعذر طرح شعار الوحدة الوطنية بسبب وجود خندق يفصل بين الشطرين في كل شيء، في المسكن والمأكل وفي اللباس أو حتى في أسلوب المشي والضحك، وثانيهما أن الشطرين يجنحان نحو الابتذال والغثاثة والدبق والماكياج، وكلها عوامل تقوض الأسس التي تقوم عليها أية حضارة حتى أمكن القول: إن الكون مقبل لا على صراع الحضارات وإنما على تمزق داخل كل حضارة على حدة. يصرخ ممثل هزلي على خشبة المسرح: كيف تنتظرون مني أن أصافحه؟ وهو يرتدي سروالاً يختلف عن سروالي ويمضغ علكة تولد عندي الغثيان؟ تطلبون مني باسم الوحدة الوطنية ان أصافحه وان أجلس معه في مقهى واحد وأن أنتخب ذات المرشح لرئاسة الجمهورية، هذا مستحيل هذا مستحيل... ‏

‏ ـ 7 ـ ‏

هموم مستوردة قد تتصف بالبدانة وقد تكون من إفرازات التخمة ولكنها هموم قد تهاجر إلى أماكن أخرى ومنها شرقنا الأوسط الذي يعاني من كثرة الاستيراد لا عن حاجة وإنما لأن المستكبرين طامعون به. وقد يكون من الحكمة تفحص البضاعة المستوردة إذ قد ننجح في وقاية أنفسنا منها. ‏

(مختبرات سياسية) تابعة للتيارات الأيديولوجية أو لعلها تجارب ميدانية (طليعية) بعد أن ظهرت عورات النظام الليبرالي أو عجز الشموليات اليسارية، طروحات وإشكالات تناقش وتعدل ولكن مختبراتنا السياسية معطلة بل مغلقة والعاملون فيها في إجازة طويلة الأمد، ومن النادر أن نسمع عن تحرك بنّاء تقوم به الأحزاب والتيارات لمراجعة المواقف والتفكير في المستقبل تاركة لبارونات الأنظمة القائمة حرية التطرف في هواها. المفارقة أن الأزمة الاقتصادية هي التي فتحت أبواب المختبرات السياسية على مصاريعها، ألا تستدعي الأزمة الوجودية التي تتهددنا على الصعيدين الجغرافي والتاريخي أن نغض الطرف عن مختبراتنا السياسية المغلقة وأن نترك لها الحرية في مراجعة مواقفها والخروج برؤية جديدة؟. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...