غدنا الذي لا يأتي وفوارسنا التي لا تترجّل!

19-11-2007

غدنا الذي لا يأتي وفوارسنا التي لا تترجّل!

الجمل- خالد حاج بكري:  لا أعرف أحدا سلخ جلد العصر الفروسي الأوروبي، كما فعل " سرفانتس " في روايته الفذّة  "دونكيشوت "، ولقد طرح الرجل بطله أرضا أكثر من مرة، وأثخن جراحه، وأفقده وعيه تحت سنابك أعدائه من الغنم والطواحين، وجعله مصدرا للتندر والضحك حتى تحول على يديه إلى كاريكاتور أثار من السخرية أضعاف أضعاف ما استحقّه من الشفقة، ولا تزال حكايا طست الحلاقة الذي اعتمره الفارس المغوار خوذة، و" دولسينة" التي أفرط " دونكيشوت" في البوح بعشقها، وخاض معركة مضحكة لإثبات تربعها على عرش الجمال الكونيّ، رغم أنّه لم يلتق بها إلا مرة واحدة! تحتلّ أماكنها من ذاكرة الأوروبيين وغيرهم، على هيئة شواهد لانهيار عصر النبالة والفروسية؛ الذي تحطم تحت أقدام الصناعة، وبزوغ عالم جديد.
ولا أعرف احتياجا بشريا يضاهي اليوم الاحتياج العوزي المؤلم، إلى إكمال مسيرة"سيرفانتس" بإسقاط شعرية الفروسية، وتحطيم مدى ثقافيّ أسفر في الأيام الغابرة عن فواجع ما زالت الإنسانية تدفع فواتيرها الباهظة حتى يومنا هذا، فالكاتب الإسباني الذي تذوّق خسارات مذهلة وإخفاقات ندر أن تجتمع لمبدع، استطاع أن يرسم بدونكيشوته الفذّ ملامح أفول عصر، ولكن مبالغته في تعريض بطله إلى قهقهات المتابعين وسخريتهم، أخفقت في اجتثاث الشعرية الحزينة التي طبعت عمله الروائيّ، ولم تستطع القراءات الكثيرة للكتاب أن تتحيز ضد هذا البعد الحزين لسقوط الفارس عن صهوة جواده، رغم أن الرجل نفض يديه من المسؤولية وظهر أنه قد بذل ما في وسعه، عندما جعل الجواد حمارا، والطست خوذة! ولقد أخفق "سيرفانتس " بوضوح شديد في الإشارة إلى إمكانيات العصر الجديد؛ وانفتاحها على مقبل مدني تعددي يتبلور في أعطافه الفرد، وقد تحرر من القيم الدكتاتورية الإقصائية؛ التي واظب الفرسان على ضخّها في العالم.
بقي اليوم خصما، واستمرّ الأمس شعريا ومعشوقا، ولم يخفف انطراح " دونكيشوت " أرضا من ظاهرة الحنين إلى الفارس الذي يريد أن يعيد للعالم ألقه، وإلى العدالة حضورها، وإلى اللغة معانيها، وما زال يلذّ هنا وهناك، لمن اختارتهم الطبيعة للعيش في عصر مختلف أن يتباكوا على زمن الأبطال الذين انشغلت نفوسهم وسيوفهم بتقديم نموذج أوحد للعدالة، واعتمروا خوذات، وامتطوا خيولا، وتفننوا في دقّ أعناق مخالفي نظرتهم إلى الكون والأرض والبشر والعلاقات الإنسانية والنظام السياسي والاقتصادي والأخلاقي، أو مهروا في إخضاعهم وإذلالهم، ودفعهم إلى التكوّر ذلاّ، والخرس شطبا..
     ولقد مزج الرجل سخريته بدموعه، ولم يكن ساديا في توصيفه الهزائم الدونكشوتية أمام حديد العصر، إلا بالقدر الذي طواه في أعطافه من مازوخية فتاكة، مازوخية التلذذ باستعراض الخيبات بتتبع شغوف وتفصيل غنيّ، عجز عذّبه فاستعذبه، ومرارة ازدردها بنهم، وهي مازوخية تتجذر في روح الرجل المهزوم، فلا يواظب على صفع اعتدادها وقوامها المتماسك ليستفزّ مهزوميتها طمع إيقاظها لأنه أكثر البشر إدراكا لغوغائية وفظاظة إيقاظها، ولكنه يجلدها لتستغيث، بعد أن تحولت في قميص جسده إلى آخر خليق بالجلد، سادية "سرفانتس" الكاتب توجّهت بشهوة ضدّ روحه؛ التي ما فتئت تذوق طعوم الهزائم تلو الهزائم حتى انقلب فيها الإخفاق إدمانا، وصار السقوط تحت السنابك لديها شبقا مازوخيا، فأخذت تمنح هذا الساديّ بسرور وبرضى وباشتهاء خلاياها، وتمكنه من خديها ليصفعها، ومن جلدها ليسلخه.
بين سادية تابعها المشاهد، ومازوخية تملأ فراغات القراءة، تجلبب بهما هذا الفصامي "سرفانتس"، كان العصر الفروسي الأوروبي يلفظ أنفاسه، والنوّاحون شرقا وغربا يوزعون دموعهم على الجهات جميعا، حتى أخذ اليوم يستحي بردائه، ويتفحص يديه؛ يسألهما عن آثار الدماء التي أهرقتاها، وكأن ولوج هذا الغريب الفتيّ العالم كان خطأ استراتيجيا، بل إنّ هؤلاء النوّاحين استطاعوا أن يتبوأوا مقاعد مزعجة كمنت متربّصة للعصر الجديد، في صواميله ومحركاته، وشعره ونثره، وطبه وماله وقوانينه، فتحرك بطيئا، ولم تشرق صباحات قيمه الممكنة إلا بإرغام وتحدّ، ولأي وخجل.
أشرقت صباحات عصر مختلف في أوروبا، رغم دموع " سيرفانتس " التي روى بها تراب سخريته، واستطاعت المحايدة الدينية أن تهيئ مدى للقادم ولج على بساطه، واستطاعت لغات أوروبا أن تجد لها أماكن متعادلة في حناجر جوقة الاتحاد الأوروبي، رغم أنها حوربت مستقلة لصالح اللاتينية في بدايات عصر النهضة، وقبله إبان عهود هيمنة الأشراف الإقطاعيين، ونجحت انقسامات الأوروبيين المذهلة، أن تنتبذ مكانا قصيا لصالح جديد مختلف جابه ماضيا بجيوب عامرة بالإمكانات، ومتخمة بالقدرات؛ استثمرها الأوروبيون فمكنتهم من تقارب لم يجدوا له سبيلا فيما مضى، قوامه براغماتية عيش، قامت على أنقاض التقديس، والانصياع للفارس الأمير ذي المقدرة الأسطورية والمقام النبيل، و تسامقت على خرائب الذوبان في فلك رؤى مفروضة لم تخدم سوى مبلوريها، ولم ترمق بعين الاحترام كينونة الفرد الأوروبي، فتباينت للعيان " أوربيان " الأولى : أخذت بالأفول ولم تزد عن مقاطعات أرهقها التفتت والتباغض، وأسقمها صراع الملكية مع مالكي المزارع من الأشراف والنبلاء، وابتلي الفرد العادي فيها بأوجاع زجه في الأعمال الشاقة والحروب، والثانية بزغت رغم ميراث العداوات الضخم، والانحطاط الأخلاقي الفريد لانتهاكات مقاتليها وفرسانها، واتجهت بمنطقية وحتمية صوب مصير واحد، وعملة واحدة، وبرلمان واحد، واتجاهات براغماتية واحدة.
 صحيح جذريا أن النسق الرأسمالي الحر، وما تفتق عنه من كولونيالية ذات ذهنية استعلائية ونزعة عنصرية بيولوجية وطبقية، طبعت الحاضر الأوروبي بطابعها، ولعبت دورا لا يستهان به في اقتياد القارّة إلى وحدتها، إلا أنّ التدثر المتواصل ب" مسكنة " الشرق و" جشع " الغرب لم يمكنه، ولن يمكنه أن يساعد المسكين على تجاوز بؤسه، ويخفق دوما في استبصار العوائق والممكنات، الأمر الذي يراكم العوائق، لتتجاوز كونها مجرد فواصل زمانية بين ما يتجمد ويتحرك، لأنها لا تستمد صلابتها من احتجاجها، بل تتشربها من جذور الفكر الواحد، للعقل الواحد، والأدلوجة الواحدة، فتؤول إلى توقف، فتراجع، فانقراض، أليس ما نحن عليه اليوم دورانا حول قبر جماعي للهوية والأحلام والمصائر؟!
خلاصة خطابنا أننا ماضون في مقاومة يومنا، والتحالف مع ماضينا، و لنا مع العصور التي نبارز الحميع في تحدي اندحارها أو بزوغها ونبزّهم حكاية أخرى لا تشبه بكائيات سيرفانتس المازوخية ذات المعطف الساخر، فنحن الذين يقدر أغلب مؤرخينا وسياسيينا واقتصاديينا وحقوقيينا ومربّينا على فرملة اليوم والغد، ويستطيعون بتحالفهم الشاذ مع جموعنا الهائمة على وجوهها وب " عبقرية " أن يجعلوا هذه الجموع المستهلكة الجامدة التي تدور في المكان، ولا تنظر عيونها الذاهلة إلا إلى سراب مضى، ولا ترقب إلاّ سخف خيالات ظهوره مجددا لتخليص " الأمة " من أوجاعها، تعيش الماضي بشحمه ولحمه وكأنه قبض اليدين! بالإيهام أن شيئا جديدا لم يكن، و التنظير لفداحة تفاهة الفكر حال انزياحه عن النموذج، وعبثية التغيير إلا إذا طابق المثال الأول، والعقل الأول، والنظام الأول.
وإذا كان إطفاء شعرية الفروسية الأوروبية يعد مطلبا لا غنى عنه للعصر كي يتخلص من أدران شعوره المضني بالذنب، فإنّ الحاجة المشرقية إلى إجهاض خيالات الفرسان أشدّ إلحاحا دون شك، فما يحدث بكل بساطة أن الذائقة العالمية أخذت بعد أربعمائة سنة من سيرفانتس، تنفر من أحزان ودراما سقوط عصر لم يكلله بالغار إلا إقطاعيون ذوو نسب نبيل مهروا بشحذ سيوفهم على إيقاعات القصائد وألحان الأمجاد والبطولات، وبدأت هذه الذائقة تستسيغ زمنا تتقدّم فيه الحرية الفردية على عبودية المجموع، و تستمرئ عهدا يراهن على الانخراط الأوسع في البناء والحكم والاختيار المسؤول، بعد حقب التمترس بذهنية الخلاص بواسطة ذلك الفارس الذهبي القادم من تخوم الشموس قبل مغيبها!

بيد أنّ إعادة تلك الشعرية إلى قفصها الحقيقي، وتوفير فرص للإنسان للإفلات بجلده من قوافيها المخادعة ومخالبها المتربصة في جيوبها السرية، ليست مهمة بسيطة على كل وجه، لأنّ الفكر الرث الذي يغتذي على تقديس الماضي فحسب، والاندماج في رومانتيكية صوره، ما يزال يشاغب رغم نفاذ فاعليته، ولا يصدر في شغبه عن حاجة طارئة لزرع بذور التشكيك في المتغير الزماني الفاعل فحسب، ولا يجاوز إلى التفنن في تسريب اليأس من جدوى ما حدث ويحدث في بنية الاجتماع الإنسانيّ عربيا وإسلاميا بقوة التيئيس المذهلة التي تتلطى في الدين وخلفه، وأوربيا بخطى أخذ التقدم العلمي والرفاه الاقتصادي يمسكان بخناقها ويبطئان سعيها، فقط، وإنما يبدو أنّ هذا المدى الشعري المشبع بالحنين إلى ذهنية عصور الفرسان الأوربيين، والذي يقفز في أرجائه اليوم النازيون الجدد، ومستلهمو سير محاربي الفايكنغ، وأولئك الذين تلبستهم الشياطين فدثّروا بلاهتهم أمام متغيرات العالم وتسارعها بعبادتها، ومن يوازيهم - على استحياء وفوارق لا مجال الآن لسردها- عربيا من المتطلعين إلى أزمنة قبضايات الشام الميامين، وجدعان الحي وفتواته المصريين، وغيرهم هنا وهناك، وكأنه يشكل حاجة نفسية لاصطياد فرادة ما، واستثنائية تحفظ لبعض الأفراد " الاستثنائيين " التوازن في مجتمعات أخذت تنحو إلى براغماتية العيش، وهي حاجة لا يساوي الاستخفاف بشأنها، إلا تعريض اليوم والغد للمزيد من الجروح التي تختفي أحيانا تدمّلا لا برئا، وتنفجر إرهابا ودماء وعاهات ومجانين وبؤساء عندما تتورّم، والأخطر أنها تعرّض منجزات إسقاط عصر الفروسية لمغبّة التراخي العلمي، والتراجع القيمي، وخاصة ما يتصل بكشوفات الحقول الطبية المحاصرة اليوم بالقوانين وفخّ  "الأخلاق " من جهة، وكل ما له علاقة بحقوق الإنسان التي تتربع على عرش هذه المنجزات من جهة أخرى.
  يكاد يجزم تاريخ عصر النهضة الذي قام على أنقاض عصر الفروسية، أنّ الهراطقة الذين شككوا بتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، ومهّدوا لظهور حركة الإصلاح الديني البروتستنتي في العصر الحديث، هم الذين سددوا أقسى الضربات لعصر الفروسية الأوروبي، وأنّ الإصلاح الديني ساند شعار: " لا يجوز الاعتقاد في شيء قبل فهمه "، في وراثته شعار "أعتقد لأفهم "، وعلى الرغم من أنّ ظهور الهراطقة يعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، و من مضيّ خمسة قرون على ذبول عصر الفروسية الأوروبي، فإنّ خيالات وخبالات الفارس النبيل الأرومة، المنصف والوهّاب، ما زالت تداعب بعض الرؤوس من الشعراء والفلاسفة والسياسيين في الغرب الأوروبيّ، وما زال هؤلاء يجتذبون خدّام الموت بكل سبيل ممكن، ومن كل حدب وصوب، و ليس صدفة أبدا أنّ هؤلاء يحظون بشعبية كاسحة لدى  أغلب شعراء وفلاسفة وبلغاء ومفكري الشرق، فقد آلى هؤلاء على أنفسهم - ادعوا الحداثة، أو قدّسوا ماضينا " المشرق " لا فرق – أن يقاوموا اليوم، والغد، والممكن، والمتيسّر، وأشواق الإنسان الطبيعية للعيش ومفرداته، بمنظومة قيمية يتسيدها الموت تضحية، واستعانة بما يسمونه عمقا، وما يجزمون أنّه شاقوليّ، وما يؤكدون سبقه وجذريته وأصالته، وأقسموا  أن يستبسلوا في حربهم الشرسة حتى آخر قطرة من حبرهم، وآخر نقطة من دمائنا!
فإذا كان سيرفانتس قد بكى بطله على امتداد صفحات روايته إلا أنّه أسقطه وأسقط عصره، أما نحن، فإن أبطالنا لا يسقطون، وعصورهم تستعصي على الفناء، لأنّنا نهبهم اليوم والغد، ونتلقفهم بالأجساد والأرواح، وبالمآقي والأشواق!      

 الجمل

مقالات أخرى للكاتب:

نصير شمّا: أنا مخلوق للعود

أدونيس بين المهاتما "غاندي" والدكتور "غيفارا"

خالد حاج بكري يدافع عن جنبلاط ويحمل على العروبيين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...