نصير شمّا: أنا مخلوق للعود

07-10-2007

نصير شمّا: أنا مخلوق للعود

الجمل- خالد حاج بكري:  أنا مخلوق للعود "هكذا هجس"نصير شما" لزاهي وهبي في أمسية لا تنسى، عبارة لا يصحّ أن تخرج عرضا، وتفقد نصف معناها سلفا إن استطاع التجرؤ عليها أحد غير نصير، ولا تكتمل بعزف نصير الذي تنقله الأصابع ويصوغه جسده برمته، ولا تتميز بعنفوانها لمجرد نطقها، وتنقص عنه إذا تفوّه بها غيره عنه، وتسقط كبلورة ماسية على سطح صقيل عندما يقولها عراقيّ سومريّ الملامح عيناه تبرقان بهجة بما تستطيعه يداه.
للعود مع نصير ما يؤكد صدق ظنون هذا القادم من أرض الموسيقا إلى صحراواتنا المتعطشة، فأصابعه المتوفزة، تعبث بأوتار العود بانسياب لا يصدق، والأوتار المخادعة تستسلم، لتزدرد جلّ ما تملكه الأصابع، وفيما الأصوات تتبلور، وتحضر هياكل مكسوّة لحما ودما، تتقن الأوتار لعبة توسيع ميادينها، فتراوغ رضى وانصياعا، ليلهث نصير عزفا، ويداه تفرطان في صوغ ما تمكنت من استخراجه من ممكناتها، وتستولي لعبة الأوتار عليه، فيستسلم بدوره لغوايتها، ويستمنحها جسدها ولا تبخل، وتنتشي ولا ترضى، ترتعش ولا تنام، تنظر إليه بعينين شبقتين، تغويه بمساحاتها وبكاراتها التي لم تمس بعد، ويلهث نصير من جديد، مبحرا في عبابها الفسيح، مصمما على تحويل مائها المجهول إلى غابات نضيرة يستطيع البشر ارتيادها، وتنسّم جمالها، والتقوّت على زروعها وثمراتها، ينصب بزهو فوق عشبها الأخضر خياما، ويدقّ بفخر سارية، ويرفع على قمتها الشماء علما، ويدوّن على قماشه الفخم اسمه بعناية، والغانية ترمقه نصف راضية، تغمزه، تعاود فتح ذراعيها، وتدعوه إلى لجّ مائها، لتمثل أمام أنامله براريها الممكنة، وغاباتها المحتملة، وتتدفق أمام ناظريه ينابيع يخيّل لأصابعه أنها الأقدر على تفجيرها، ويحلم المبدع براياته المرفوعة فوق السارية،  ويغوص من جديد، باحثا عن فوز لا يحققه أحد سوانا، وأمجاد تستبقيها الأوتار لنفسها، ويكتفي المبدعون الذين يستسلمون هكذا لغواية الأوتار، بفرح تقديم ما اقتنصته أصابعهم قبل أن تطويهم الأرض!
هو مخلوق لهذه الأوتار إذن، خادما وعبدا، يملك كلّه ليفنيه، والسيدة قبلت استخدامه، ومنحته بركة تدوين اسمه في سجلّ خدمها، الذين هدروا و يهدرون السنين في محاولات خلق جزر صغيرة ضمن ماء الامبراطورة الفسيح، ليفوزوا بتدوين أسمائهم على بواباتها، فآلهة البحر، هذه، الغانية التي تمنح بركة الاستعباد، قد تغضّ الطرف عن نصب حفنة منهم الرايات على استحياء، بعد إنفاق أعمارهم، ونحيب أنهم تنقصهم أعمار أخرى، وإثر توسّلات لا مثيل لها في ذلّها...
  أما عينا نصير شما، المتوهجتان فنا وفرحا وألقا، ففي جوفهما ما يصل هذا المخلوق للأوتار بتلك الشخوص التي برع أدباء التعبير الأكثر سموا في رسمها والتفنن في عرض ملامحها، ففيهما بريق عينيّ  " زوربا "، ووثوب جسد " زارا " نيتشة، وصدق " غريب " كامو وبراءته المعقدة، التي تبدو لنا كذلك صعبة ومباغتة، كوننا نستطيع محاورة السيد" كيسنجر" ولكننا نخفق في مواجهة بريء واحد.
 وفي جلسة نصير الواثق، وإجاباته الخالية من الارتباك، وردوده التي لا تقيم وزنا لوقعها أو ردود الأفعال المحتملة إزاءها، وتبدو أحيانا لمن افتقر إلى تماسك المبدعين وأصالتهم وثقة الخوض في فضاءات الفنّ، وكأنها استخفاف بالصغار والعاجزين والفقراء، فيها فخامة الأستاذ " جوزف كنشت " عبقريّ" هيسه "، الذي خرج من  "كاستاليا"  ليهب الطالب المحتمل جبال وعيه ومحيطات خبرته، وفوقها يهديه روحه..
في نصير شما العازف روح سومرية قديمة، تصر على الحضور إلى عالمنا، لتصلنا - نحن الجدد - بأولئك الذين فتنتهم أرض المعابد والكهنة وأحواض الماء المذّهبة، فوهبوا خيلاءها الفذّ شبقهم وفنّهم وأرواحهم، وكأن الأوتار آلة تبحر بنا في الزمن، لتأخذنا نحو أولئك الذين أفرطوا في استرضاء آلهة الفيضانات، وهيّئوا الأرض فقدّموا أزهى خيراتها قرابين عظمى لآلهة البذار الممسكة بالثمر والقحط..
وفي نصير شما وجسده الذي تمخّض ذات ليلة فأنجب أصابع أثيرية بمقدورها نقل سومر إلى هنا، وحملنا نحو قبابها وهياكل معابدها التي تفوح منها فينا روائح الشعر ودندنات العود وصدى جوقات التراتيل الكهنوتية، فيه سحر يجمع في طياته أسرار هؤلاء الخارجين من رحم الأدب شخوصا مؤثرة باقية، إلى آهات الفلاحين الذين عزفوا في المعابد القديمة ضارعين أن تفيض غلالهم ولا تأخذ الطبيعة منها شيئا، وفي نصير ألق تقرأ فيه - أنت الذي يبارك لنفسه أنه يسمع عوده - ثقة أنه يستطيع أن يعبث بروحك ويفجّر مكنوناتها الأوغل عمقا، لأجلك يستطيع، ويريد، فيواظب على العبث، لتسلمه نفسك، ومن الأفضل أن تفعل، كما تفعل ذلك عن طيب خاطر أو عجز مع الحافلة والطائرة، ومع الزمن...
فنّ يقودك، يغيّر فيك، ويسومك من العذاب ألوانه إن تخاذلت أنفاسك عن احتمال الرحلة، يشوقك، ويشجيك، ويعطيك بعضه إن تنازلت عن كلّك، لم يكن الشعراء الضاربون في أرض الفن إلا كذلك، ولم يكن الرسامون الأمضى تأثيرا، والنحاتون الأبلغ، والروائيون الذين تفوّقت شخوصهم على الأزمنة، والموسيقيون الأرهف حسا إلا كذلك، يسكنون الجبال ويستنشقون الرياح الرصينة، يشعلون لنا نيرانهم العظمى، وتتوهج أكفهم وعيونهم كي ننجذب إليها برضى، بعد أن نمانع، فنتعثر، ونخسر، ونبكي، ونضيع، ونغصّ، ونتقلب بغباء رافضين ممانعين ومتمنعين، إلا أنّ نيرانهم  بعد لأي تجذبنا، بعد عقوق.... تجذبنا!!
أنا مخلوق للعود، هكذا قال نصير شما لنفسه أولا، وباح لنا بعد أن عبّ العبارة واستيقنها، ولعلنا نملك بعض فصاحة لنقول: ما أسعدنا إذ استطاعت الموسيقا أن تخلق لنفسها من جديد خادما، فخدّام الموسيقا الذين قبلوا مهمتهم ولم يقاوموا وظيفتهم، أفاضوا علينا بكرمهم، فما بالنا بأولئك الذين قفزوا فرحا عندما أدركت أرواحهم حقيقة كونهم خدّاما، ماذا يستطيع هؤلاء بامتنانهم الجمّ أن يهبونا إذن؟!
" أنا مخلوق للعود  تقلّبت في الأصلاب منذ السومريين الأوائل " قال نصير شمّا لزاهي وهبي ولنا، يريد ضبط هويته بلغة تتفلّت من الانضباط، وإعلان الولاء بكلمات يشي ظاهرها بالأنا المتعالية، ولا يعمر باطنها إلا بالامتثال، والإمعان في شكر الطبيعة بحروف تتمرّد على قانونها الأزليّ الذي يقضي بمقاومة أولئك الذين يتجرّأون على هتك أسرارها.
 ومن هو نصير شما في عرف الطبيعة حتى يتحدث عن التقلب في الأصلاب؟! ولمن يعود هذا الفجور في مماحكة الآلهة؟! وكيف استطاعت أصابعه النحيلة الطويلة أن توحي للسانه أن يربط كيانه الصغير بالسومريين الأوائل الذين عزفوا في المعابد، وأسرفوا في القتل خارجها؟؟!
من أجل العود وحده، يرفض نصير العودة إلى العراق، فهذا الكيان الملتهب ليس فيه اليوم مكان للعازفين، ولا يقيم في دمويته أدنى وزن للموسيقا، وليس فيه كما يقول شما مكان إلا لقاتل أو ضحية، وفي عرفه أن للعراقيين ربا يحميهم، وهو يرفض أن يكون قاتلا، ويحتاج إلى كلّه الحيّ  ليخدم الموسيقا، بل إنّ عمرا واحدا ينفقه في الاستسلام المتواصل لغوايتها لا يكفي!
ولكنّ العراق يشتعل، وسومر تنقضّ على ذاتها يا نصير، والأصلاب أفصحت عن عازفين وقتلة...فما الذي يستطيعه عودك في هذا الليل المدلهمّ الذي طال، ولم تعد الأرواح تطيق عتمته، وجنونه، ورعبه؟!.ويتواضع نصير مرددا إيقاعات السؤال الحزينة: ما الذي تستطيعه الموسيقا لحماية الأبرياء؟! لا تستطيع شيئا...
لا تستطيع شيئا، هكذا تتبخر الموسيقا أمام شموس الدمّ! فكيف لم تتبخر إذن عندما عزفها الفنانون في معبد قديم، تحت هياكل سامقة، و مقابل مذبح سومريّ تمدّد فوقه رضيع ذبيح كرمى لآلهة تفتك ولا تشبع؟؟! لماذا انتظم اللحن، وتعالى شغف النغم صادحا في ردهات المعبد، ولم يخجل أمام كفّيّ الطفل البريء؟ لماذا لم تقفز الموسيقا هاربة بعجزها أمام كهنة يشربون الخمر الممزوج بالدماء؟ لماذا أفرطت في غيّها أمامهم؟ ألم يرع نصيرا تفنن أجداده الذين حملوه في أصلابهم زمنا، وتناقلته ّذرياتهم، في إبهاج الكهنة الذين دغدغت الموسيقا حواسهم، وخالطت أرواحهم، بينما كانوا يمسحون أشداقهم من دماء الأضحية؟؟
أتتآمر الموسيقا أيضا؟؟ أتتلوّن بألواننا؟؟ أترضانا باصفرارنا وجشعنا وشبق الدم فينا؟؟ أم أنها لم تكن سيّدة ذات يوم؟ أهي جارية نعبث بجسدها، فتموء كما نريد، وتنبح، وتزأر، وتنوح كما نرغب؟؟
لم تكن مسيرة البشر يوما إلا تعايشا مع الدمّ، و عراكا أسطوريا في ضراوته واستمراريته بين بلاهة الإنسان ودمويته وغابيّته و الأشياء والحقائق من جهة، وجمال المنافي التي رسم مدنها وقراها ومساكنها وربوعها وشطآنها وقصورها بين الحور والصفصاف عازف أو شاعر أو رسّام من جهة أخرى! وقدرنا أن نتعايش في شقّة لعينة بين غرفتين فحسب، في الغرفة الأولى نكفّن شهيدا، و في الثانية نتمرّن على عزف كرنفالي بهيج!
و ستر سوأة الحقائق المرعبة بفنون عظمى نصيبنا وقدرنا وخيارنا المضني، وإلا، فإنّ بكاءنا ساعة الولادة سيكتمل نحيبا ممضا ويتواصل شلالات قهر، ولعلّه سيشطب – دون ريب - إنساننا الذي يمعن إخوتنا في إقصائه فينا.
 وإذا كانت البشرية أخفقت حقّا حتى يومنا هذا في إحكام إخفاء عورتها، فإنّ الفنّ شكّل على الدوام الفرصة الأكثر يقينية للنجاة بالبشر، فعزف المبدعون، ورسموا، ولوّنوا المدائن بقصائدهم، وأنطقوا الحجارة، وراحوا يخطّون  بياض الصفحات ويفتتحون أبوابا موصدة، وفرصا للأمل، ما أبهى الأمل، وما أضيق العيش لولا فسحته، وما أبشع تلويث الصور الجميلة ببقع الحقيقة كما قال ذات مرة " هيرمان هيسه ".
كان في شفتيّ نصير شما تردد، يريد الضحك، ولا يستطيعه، يتوسّل الابتسام، ولا يصدره إلا متكسّرا ومنكسرا، كان ثمّة حزن عراقيّ قديم، تجدده عضلات أشاوس الدم في العراق، لم تستطع روح الرجل الفخمة أن تقفز فوق أوتاره المشدودة.
ما أصعب أن يكون المرء عراقيا!
وما أقسى أن يكون العراقيّ موسيقيا!
وما أشقى أن يكون العراقيّ الموسيقار نصير شمّا!

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...