غازي أبو عقل: هل تُحبّين التَّقْريق؟

05-11-2009

غازي أبو عقل: هل تُحبّين التَّقْريق؟

الجمل- غازي أبو عقل: لستُ أدري لماذا يهتم روائيونا بما لا يقيمون له وزناً، أعني بما يُكتَب عن رواياتهم، لاعنهم شخصياً، في وسائل الإعلام. ولا لماذا يُضَحُّون بوقتهم الثمين بصفتهم "مبدعين" لينصرفوا إلى مناوشة "النقادين" ممن لا يُحسنون هذه الصنعة ولا سواها ربما... وفي السطور القادمة دليل بقلم روائي مرموق أظنه يلخص آراء الروائيين جميعاً "بالنَّقَدَة" الذين يتطفلون على المبدعين دون وجه حق:
(... إن ما نقرأه في هذه الصفحات – الثقافية – عبارة عن نقد يتطوع فيه الكاتب بتقييم جُغرافي للعمل، فهو لا يمتلك الكفاءة النقدية، ولا ندري ولا هو يدري ما هو المعيار الذي استند إليه، والأسوأ ألاّ يكون هناك معيار أصلاً... وتبلغ الجرأة بالبعض إلى إلقاء أحكام قطعية بهدف القضاء على الكاتب والكتاب معاً، أو إعلاء شأنهما بأساليب لا يخفى نِفاقها ولا رياؤها، عدا تعالمها المفرط والمقيت... بالاستعانة ببعض الخزعبلات والتلفيقات الدارجة... وهي اتهامات مُختَلقة تدل على جهل صاحبها أو خبثه... والأسوأ أن بعضهم استباحوا الأدب والأدباء فأصبحوا يسخرون ويتظارفون ويُقَرِّقون على الأعمال الأدبية أو أصحابها، بما يُزعَم أنه نقد بينما هو تَطاول...).
شغل بالي فعل يُقَرْقون فالتجأت على جاري عادتي إلى ابن منظور الذي قال لي: القَرِق والقَرَق: هو القاع الطيب لا حجارة فيه أو المكان المستوي. والقِرْق: الجماعة وجمعه أقراق. والقَرْق: صوت الدجاجة إذا حضنت. وقَرَّقَ: إذا هذى، لقد وجدت ضالتي إذن، وهأنذا أهذي كالمبدعين...
أعجبني هذا المقطع من مقالة أستاذنا الروائي، لأن السخرية والتظارف والتقريق كانت من بين المواد التي طلب إليَّ مؤسسُ "الكلب"، صحيفة أستاذنا صدقي اسماعيل، الاهتمام بدراستها قبل أن يقبل بي محرراً تحت التمرين في "الكلب"، وهي الرتبة التي قضيتُ فيها، ومازلتُ، نحواً من أربعة عقود بسبب غياب السلطة صاحبة الحق بترفيعي. "لن أجرؤ على الزعم أنني رُفّعت في مجال عملٍ آخر للأسباب نفسها". دُهشت لعنف أستاذنا الروائي الموجه ضد نَقَدَة الزمان الأخير وساخريه ومُقَرّقيه... ذلك أن ما سَمِعته في جلسات أصدقائنا النقّاد ممّن يمارسون الأدب، أو الأدباء الذين يمارسون النقد – رغم كونه قلة أدب – جعلني أظن أن أصحاب المدارس النقدية في الغرب الذين يُصَدّرون إلى كُتّابنا آخر مبتكراتهم في هذا "الفن"، لم يقرروا إلى اليوم أن النقد "علم" له قوانينه الصارمة التي لا تهتم لا بذوق "الناقود" – كما يقول صحافي خفيف الظل – ولا "بثقافته" ولا بمعتقداته وآرائه، فكيف أفسّر هذا العنف الشديد نحو أشخاص يُعبّرون عن كيفية تذوقهم "للإبداع" لا أكثر ولا أقل بصورة عامة؟ أعترف أنني كنت أهم بقراءة رواية "المترجم الخائن" لما رأيت مقالة "الصحافة والنقد" فقرأتها ثم عدت لأتصفح "محتويات" الرواية  ولا أعرف لماذا انتقيتُ الصفحات المعَنْوَنة: الخيانة: هل تحبين برامز؟ قافزاً فوق عدة مئات من الصفحات، قلت لنفسي ربما جذبتني رائحة السيدة كواريز الشهيرة باسم فرانسواز ساغان بعد رحيلها منذ نحو أربع سنوات... كان ينبغي لي الانجذاب إلى رائحة ليلى شكران بطلة المشهد الذي اخترتُ قراءته، لكنها انشغلَت بمحاولة ارتكاب "الخيانة" بالمعنى الجسدي دون أن تنتبه إلى ما كتبته غادة السمان ذات يوم من أن "خيانة أحد الحبيبين للآخر تُعبّر عن وفائه لنفسه" أي لطباعه وتكوينه على ما أذكر. ما لنا ولهذا ولنوجه اهتمامنا إلى ما سيدور في بهو "شاعر النسوة المحبوب" الذي اختارته ليلى شكران عن سابق تَصوّر وتصميم أداةَ خيانتها، فحاءت إليه راغبة بإنهاء الموضوع بسرعة فإذا بها في خضَمّ محاضرة عن الموسيقى، فشاعر النسوة المحبوب "غرامه الوحيد الموسيقى السنفونية"... هنا تحركت مواهبي التي نَمَّيْتُّها في صحيفة الكلب ومنها الاهتمام بالتفاصيل، ورحت أقرأ – هل تحبين برامز – من هذا المنطلق، فلم تَضنّ علَيَّ الصفحات بما كنت أتمنى وجوده فيها.
بعد اطمئناني إلى حدوث الخلوة غير الشرعية بين المندفعة إلى الخيانة وبين مَن غرامه الوحيد الموسيقى السنفونية، تابعتُ القراءة قائلاً لنفسي اصبر تَنَل: (فاستقبَلَها وشَبَك أصابع يده اليمتى بأصابع يدها اليسرى وقادها إلى الصالون الواسع حيث استقر بهما المقام... وضَعَ اسطوانة الفصول الأربعة لفيفالدي وجلس على مقربة منها. جَرَّ نحوهما طاولة بعجلات فوقها عدة أنواع من المشروبات ويسكي جن كونياك وعصير... اختارت الويسكي، لماذا إضاعة الوقت... وسألها عن مقدار الثلج... كانت ابتسامته رقيقة وتهذيبه ملحوظاً وحديثه موسيقياً، ومن غير مصادفة كان عن كلاسيكيات القرن التاسع عشر، حديثه الأثير... وبلُغةٍ راقية، صَوَّر الطاقة التعبيرية الكامنة في روائع السنفونيات العظيمة والمتعة الجمالية التي تبثها في النفس، ثم وبلغةٍ دقيقة شرح تآلفاتها المجردة وشكلانيتها الصرفة، نغَمٌ يُعبّر عما هو إلهي ويستولي على الروح والوجدان).
وَددتُ لو أُقلد أوبرا وينفري وأصرخ "واو" بلكنة أمريكية، لكنني تداركتُ نفسي وصرخت "يا للهول" على طريقة يوسف وهبي حرصاً على شخصيتي القومية من تأثيرات العولمة... قبل أن أبدأ رحلة مطاردة التفاصيل التي في غير محلها وهي كثيرة جداً، أما كان ينبغي لمغرم بالموسيقى السنفونية حصراً – سحب طاولة المشروبات وسكب الكأسين أولاً ثم استحضار روح فيفالدي أي موسيقاه لتعلب دور "الكومبارس" بينما يقوم الشاعر الموسيقار بتصوير الطاقة التعبيرية، وشرح التآلفات المجردة... ما هذا الاحتقار لفيفالدي؟ ألا يفصح عن الاستهانة بأبسط آداب الاستماع إلى الموسيقى...  الإصغاء أولاً وثانياً وثالثاً... ماذا كان سيقول الشاعر الموسيقار لو أنه راح يتلو على مسامع ليلى شعره بينما هي تحدث جارَتها بالجوّال مثلاً؟ أليس سلوكه مع فيفالدي كذلك؟ حكى الشاعر الموسيقار ومن غير مصادفة عن كلاسيكيات القرن التاسع عشر، حديثه الأثير... رغم كون الرومانسية بدأت تذر قرنها منذ بدايته وعلى يد بتهوفن كما يُشاع. لماذا لم بتحدث عن كلاسيكيات الثامن عشر؟ الأنكى من هذا وذاك أن صاحبنا وغرامه الوحيد الموسيقى السنفونية، اختار المؤلف الذي لم يضع ولا سنفونية، وغاب عن ذهنه أن الفصول الأربعة هي من قالب الكونشيرتو لا السنفونية مع ما بين القالبين من فروق. بل هي أربع "كونشرتات" قصيرة واحدة لكل فصل، لا تتجاوز مدة كل واحدة الدقائق العشر، وآخرها كونشرتو الشتاء مدتها أقل من ثمان دقائق. كان بوسع المعلّم رشّوم الكلاسيكي لفت نظر جليسته إلى أنه لا يحب إلا الموسيقى السنفونية ولكنه رأفةً بجهلها الكلاسيكي سيسمعها كونشرتو.
هل يُعقَل إنجاز مهمة جليلة متمثلة في "تصوير الطاقة التعبيرية الكامنة في روائع السنفونيات العظيمة" – وهي بالعشرات – "وتجسيد متعتها الجمالية وشرح تآلفاتها المجردة"، والانتقال من اللغة الراقية!... إلى اللغة الدقيقة!... وتفسير شكلانيتها الصرفة [هذه لم أفهمها فعلاً] كل ذلك في أقل من أربعين دقيقة من إهانة فيفالدي بعدم الإصغاء إلى موسيقاه، رغم بساطة الفصول الأربعة كي لا نقول سطحيتها؟
أطرف ما في فَهم الشاعر الوسيم للموسيقى السنفونية، ما جاء في "هل تحبين برامز" أيضاً: "لم تكن مُطَّلعة على الموسيقى الكنسية، وإلا لتابع حديثه عن باخ [ذكّرني بوليمة لأعشاب البحر وباخ حيدر حيدر، دون أن أفهم أسباب هذاالميل لدى بعض روائيينا إلى بني باخ الكُثُر الذين كانوا عائلة من الموسيقين، حتى ليخيل إليك أن روائيِّينا ترعرعا مع بني باخ في كنائس ألمانيا منذ أواخر القرن الثامن عشر] نعود إلى الشاعر الوسيم الذي كان يفكّر "أنه من الأسلم الابتعاد عن كل ما هو ديني في هذا الجو المهيأ للدنيوي"، دون أن يفطن إلى أن أنطونيو فيفالدي كان كاهناً فعلاً ويُعرف بالكاهن الأحمر، وبعد سيامته كاهناً عينوه معلماً لآلة الكمنجة في ملجأ أو ميتم – تابع للكنيسة ربما – في مدينة البندقية وكان يكتب موسيقى دينية تُؤهّله  للحلول في محل "باخ" في صالون الشاعر الوسيم الذي يُفضّل استظهار معلوماته الموسيقية لا الإصغاء فعلاً إلى الموسيقى.
هنالك "تفصيل" في "هل تحبين برامز" تُلفت صياغَتُه النظر عندما يتضح أمام ليلى تكاسل الشاعر الوسيم عن مبادرتها بحركةٍ ما غير حركات الكونشيرتو المُهمَل وحركات "أصابعه الطويلة التي تنساب وتنعقف، تنبسط وتتصَلّب... بالإضافة إلى حديث بات فائق الروحانية متخماً بمصطَلحات موسيقية النوعية، وإن كان متحذلقاً". هذه المصطّلحات ما هي؟ أما كان بوسع الشاعر الوسيم الإتيان بمصطَلح واحدٍ على الأقل يقلع به عيون نَقَدَه الزمان الأخير؟ لو أنه فعل لوَفَّر علي عناء كتابة ما سيأتي من سطور.
أود أن أقول إن معالجة الشأن الموسيقي روائياً مازالت ساذجة، وللأمر أسبابه الموضوعية التي لا مكان لها هنا. كما أن الحديث عن الموسيقى الكلاسيكية، غريبة كانت أم شرقية، له شروط ومفردات تتغير بدءاً من االحديث عنها إجمالاً، أو عند الحديث عن سيرة حياة كل مؤلف موسيقي، أو عند تناول المولَّفات إفرادياً، ولا ينبغي خلط الأنواع والأجناس أو الأجزاء بالكليات – أحاول هنا تقليد أساليب بعض روائيينا في معالجة المسألة الموسيقية – ولئن ضاقوا ذرعاً بالسخرية والتظارف والتقريق" فهذا شأنهم، وأؤكد لهم أن هيجاناتهم الإنفعالية ونعت كل من يكتبون عن رواياتهم بالجهل والخبث والرياء لن يعود عليهم بفائدة، وأدعوهم إلى نعت المقرّقين بمفردة أتى بها أخيراً شاعر فحل في سياق هجومه على شاعر فحل آخر، مفردة نَخَّاس لعلها تردع نقدة هذه الأيام عن قراءة الروايات لا عن الكتابة عنها.
مع ذلك أود دعوة كل من يعرف القراءة، وأفاد من معرفته هذه وأَقْدَم على قراءة رواية ما، أن يبادر فوراً إلى كتابة انطباعه عنها تبعاً "لمعيار" ذوقه الشخصي، وأن يحاول نشر ما كتب بكل وسيلة متاحة، بإرسالها إلى وسائل الإعلام، أو نشرها على الشبكة العنكبوتية، وإرسالها إلى دور نشر الروايات، وإلى عناوين الروائيين... هذا أكثر حقوقنا – كقرّاء – بساطة، طالما بقينا نشتري الروايات بمالنا. هذا حقنا طالما حقهم الاستمرار بكتابتها. إن كثيرين من روائيينا يقيمون على مسافة سنة... ضوئية من فحوى ما يُكتَب من روايات في بلدان أخرى غربية أو شرقية. ولن يحبط عزائمنا تقليدهم الأشكال التي تظهر عند غيرهم، لأن الشكل غير الجوهر، كما أن التجريب الخالي من الأصالة والإتقان لا يسوغ التهجّم على كل من كتب ما لا يعجبهم عن رواياتهم التي لا تعجبنا. وهم يعرفون جيداً ولكنهم يتجاهلون الشرط الأكثر أهمية لتُسَمّى الكتابة "إبداعاً"... أما طحن الهواء وعَجْن الماء وتزييف الأنباء، فهو داء ليس له من دواء.
قرأتُ على ورقة التقويم الهاشمي ليوم الأربعاء الأول من ربيع الأول 1430 للهجرة الواقع فيه الخامس والعشرون من شباط 2009 للميلاد يوم كتبت التقريق هذه الأقوال الموضوعية:
1- مبدأ ضرورة استمرار النقد أن الإنسان خَطّاء، وأنه لا يستطيع القبض على الحقيقة دفعة واحدة...
2- النقد الذاتي لدى كثير من الجماعات معدوم، والنقد الخارجي مرفوض.
بالمناسبة أنا لا أحب برامز ولا السيدة فرانسواز كواريز...
* * *

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...