سوق مدحت باشا .. عراقة تاريخية في الهندسة البنائية

19-08-2008

سوق مدحت باشا .. عراقة تاريخية في الهندسة البنائية

إذا كان سوق الحميدية يتربع على عرش الأسواق المسقوفة في دمشق، فإن لقب الوصيف يذهب دون تردد إلى سوق مدحت باشا الذي يعتبر من أهم الأسواق وأكثرها عراقة وجمالا في مدينة الأسواق المسقوفة.

في البداية كان اسمه السوق الطويل، وهو يعود إلى العصر الروماني، ثم أصبح اسمه السوق المستقيم، وفي العهد المملوكي سمي بسوق جقمق نسبة إلى خان جقمق الذي يتوسطه، ولكن حين ضاق السوق بمحاله واكتظت فيه البضائع في فترة الاحتلال العثماني أمر والي دمشق آنذاك مدحت باشا بتوسيع السوق فحمل السوق اسمه ولايزال يعرف حتى اليوم بسوق مدحت باشا.

إذا أردنا وصف السوق، فهو أشبه ما يكون بممر طويل تصطف المحلات على جانبيه بشكل منتظم يمنح الزائر إحساسا بالأناقة والأصالة اللتين يندر وجودهما معا بهذا الشكل، يبلغ طوله 1550مترا، وهو يخترق المدينة القديمة من باب الجابية غربا إلى الباب الشرقي لسور المدينة القديم بشكل متوازٍ مع سوق الحميدية، وكأنما ينافسه في جوانب الروعة والأناقة والأصالة، تمتد بين السوقين مجموعة من الأسواق الفرعية مثل سوق النسوان وسوق القطن وغيرها. سوق مدحت باشا مقسم إلى قسمين أحدهما مسقوف وهو القسم الأكبر والآخر مكشوف.. أما القسم المسقوف فهو يبدأ مع نهاية سوق البزورية لينتهي في حي مئذنة الشحم حيث يبدأ القسم المكشوف منه لينتهي في منطقة الباب الشرقي وفي المنطقة التي يتقاطع فيها القسمان، تقع البقعة التي بدأت منها دمشق منذ أقدم العصور، بحسب ما يقول المؤرخون.

القسم المسقوف من السوق هو القسم الأكثر جمالا حيث يمنحه سقف التوتياء مشهدا رائعا، إذ تدخل أشعة الشمس من فتحات السقف لتضفي على المكان حالة تقاطع بين الأشعة وبريق واجهات المحلات النحاسية والخشبية. وسقف التوتياء هذا كان سقفا خشبيا ولكنه تبدل إلى معدني مثل كافة الأسواق المسقوفة في دمشق بعد الحريق الذي شب في سوق الحميدية.

- يوجد في السوق ما يقارب الـ 711 محلا تجاريا تتخللها المخازن، وتشتهر هذه المحلات بالطابع التقليدي التراثي فهي تبيع شتى أنواع الأقمشة والنسيج والحرير الدمشقي والبروكار والمناشف وغيرها، كما تبيع العباءات والكوفيات، عدا عن محلات القسم المكشوف التي تختص ببيع النحاسيات والشرقيات وصناعة التحف والموزاييك، بالإضافة إلى انتشار المحلات الجديدة التي تبيع البزورات والبن والعطورات والزهور المجففة التي تستخدم كأعشاب طبية ومشروبات، ومن هنا يشهد السوق نشاطا دائما وحركة لا تتوقف.

يضم السوق عددا كبيرا من الأماكن الأثرية والبيوت الدمشقية العريقة مثل بيت نظام، وهو منزل الشاعر الراحل نزار قباني في مئذنة الشحم، ومكتب عنبر الذي يعتبر من أقدم البيوت الدمشقية وأهمها على الإطلاق. وهو المنزل الذي بناه الثري الدمشقي يوسف عنبر ليتحول في الفترة العثمانية إلى مدرسة بعد أن وضع العثمانيون يدهم عليه لدين لهم على صاحبه، وتحول الآن إلى قصر الثقافة وتقام فيه الفعاليات الثقافية باستمرار.. ويمتلك السوق أهمية دينية كبيرة لكونه مقرا لعدد من الجوامع والكنائس ،أهمها تلك الكنيسة التي لجأ إليها بولس الرسول هربا من الرومان الذين كانوا يطلبون رأسه. تقع هذه الكنيسة بالقرب من باب كيسان أحد أبواب دمشق التي يشرف عليها السوق، وهي تحمل اسم كنيسة بولس الرسول، كما يوجد فيه عدد من الخانات أهمها خان الزيت وخان جقمق.

تعرّض سوق مدحت باشا لحريق ضخم أتى على جزء كبير من معالمه في فترة قصف دمشق من قبل الفرنسيين

في العام 1925، وشهد بعدها جهودا جبارة من أصحاب المحلات لإعادة إعمار ما دمر، وفعلا تمكنوا من إعادة السوق إلى سابق عهده بعد عمل دام سنوات، ومنذ عدة سنوات كثرت شكاوى سكان المنطقة وأصحاب المحلات نتيجة تلوث الهواء الناجم عن سماح محافظة دمشق بمرور الباصات التي تنقل طلاب المدارس الأمر الذي دفع هؤلاء إلى رفع دعاوى ضد المحافظة والمدارس.

حول هذا الأمر يقول معين النوري، صاحب محل شرقيات، إن الجهود التي بذلت لحل هذه المشكلة تكاد تكون معدومة خلال السنوات الماضية، ولكن ما إن سمعت محافظة دمشق ومديرية الآثار والمتاحف بأن دمشق هي عاصمة الثقافة حتى سارعتا لإصدار القوانين التي تمنع مرور الباصات في السوق، كما جرى العمل على ترميم السوق والمرافق الموجودة فيه وتحسين مظهرها تمهيدا لاستقبال ضيوف وزوار عاصمة الثقافة.. ألا يستحق السوق اهتماماً مستقلاً عن عاصمة الثقافة؟!

ويتابع قائلا: هذا المكان له قيمة تاريخية تكمل القيمة التاريخية للمدينة بكاملها، فلماذا هذا الإهمال؟!

ويوافقه الرأي عبداللطيف الحلبي، صاحب محل، قائلا: لقد قاموا بتحسين مظهر السوق مؤخرا، خلال عملية التأهيل التي حصلت، ولكن نتمنى أن تكون هذه الجهود متواصلة لحماية هذا الجزء من المدينة القديمة، وألا تكون مجرد فورة أحدثتها احتفالية الثقافة وتنتهي بانتهاء المناسبة.

يذكر أن مديرية الآثار والمتاحف كانت قد أجرت تحسينات هامة على السوق من خلال إزالة التجاوزات الحاصلة فيه وترميم الأماكن المتصدعة، وخاصة بعد انهيار مجموعة من البيوت المطلة على السوق في حارة الزيتون نتيجة أعمال الحفر القائمة هناك، كما جرى تحسين واجهات المباني والخانات والقصور الموجودة فيه، وذلك قبل انطلاق فعاليات احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية.

يبقى قلق السكان من الإهمال مشروعاً.. فالمنطقة بالنسبة لهم هي الحاضر والماضي والمستقبل، وأي إهمال لها يعني كارثة حقيقية وخاصة بعد التهديد الكبير الذي حصل بانهيار منازل حارة الزيتون، لكن في المقابل فإن الجهود التي تبذلها مديرية الآثار والمتاحف منذ سنوات لحماية الأماكن القديمة تدفع إلى بعض التفاؤل مع تحفظات يملكها السكان تجاه آلية الحماية تلك.

عاصم جمول

المصدر: أوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...