حوار مع المفكر ناصيف حتي

12-02-2007

حوار مع المفكر ناصيف حتي

منذ العام 2000 يشغل المفكر اللبناني الدكتور ناصيف حتي منصب رئيس بعثة جامعة الدول العربية في باريس، إضافة الى كونه، بهذه الصفة نفسها، مراقباً دائماً لدى اليونيسكو. وكان طوال عشر سنوات قبل شغله المنصب العربي في العاصمة الفرنسية، قد عمل مستشاراً سياسياً وديبلوماسياً خاصاً لأمين عام جامعة الدول العربية. ومن الواضح أن أكثر من عقد ونصف العقد من عمل ديبلوماسي عربي شامل، زمن يمكن صاحبه من ان يكون مطلعاً على أمور كثيرة تهم العالم العربي وتخصه، ولا سيما لقاءات الكواليس وخلفيات الأحداث والاتفاقات والخلافات، وقبل هذا وذاك حقائق العلاقات العربية – الأوروبية. غير أن ديبلوماسية ناصيف حتي تقف، طبعاً، حائلاً دون كشفه أموراً عدة لا ريب ان كشفها من شأنه ان يغير من صورة الأوضاع، وعلى الأقل من صورة ما يصل الينا منها. ومن هنا فإن أي حوار نجريه مع د. حتي، لا يكون منطلقه منصبه الرسمي، بل كونه في الوقت نفسه مفكراً عربياً، وضع مؤلفات عدة حول العمل الديبلوماسي وحول العلاقات الدولية، راوحت بين كتابين: أولهما «النظرية في العلاقات الدولية» (1985)، وثانيهما «العالم العربي والقوى الخمس الكبرى: دراسة مستقبلية» (1987)، وبين كتابات منتظمة ينشرها في بعض الصحف والدوريات العربية. وإذا أضفنا الى هذا كون د. حتي أستاذاً زائراً في «الأكاديمية المتوسطية للدراسات الديبلوماسية» في مالطا، وأستاذاً محاضراً في جامعات أميركية عدة، ويشارك في ندوات ومؤتمرات تتناول الشؤون الدولية والعربية، تكتمل الصورة لتقدم لنا مفكراً عربياً يحمل هم القضايا العربية، انطلاقاً من وضعه الأكاديمي، ويدرك عمق هذه القضية وزوايا تواريخها وصعوبات حلها، انطلاقاً من وضعه الرسمي.

هذه التجارب نجد صداها في هذا الحوار، الذي يشكل حلقة في سلسلة حوارات تجريها «الحياة» منذ زمن مع عدد من أبرز المفكرين والمثقفين العرب (ومنهم جورج طرابيشي وعبدالله الغذامي ومحمد جابر الانصاري وعلي أومليل ونوال السعداوي وسعد الدين ابراهيم... وغيرهم) غايتها رسم صورة متعددة الأبعاد والرؤى للخارطة الراهنة للفكر العربي، وكيف ينظر هذا الفكر، في زمننا هذا، الى بعض أبرز القضايا والمسائل التي تجابه إنسان منطقتنا، مثل العلاقة مع الآخر، وقضية الإرهاب، ومسألة الدولة، ودور المثقف والعلاقة بين النخبة والجمهور، وكيفية التعاطي مع الوسائل الحديثة لإيصال الأفكار، ناهيك بمسائل تطاول حياة المجتمع والتساؤل حول أين صارت التساؤلات الكبرى التي عاش العالم العربي على إيقاعها طوال قرن تقريباً، مثل قضية فلسطين والزمن الليبرالي والوحدة العربية وقضايا التطور والتنمية...

> من موقعك العربي الشامل التمثيل في فرنسا، وأوروبا في شكل عام، كيف ترى الوضع العربي، ولا سيما وضع منطقة المشرق العربي، انطلاقاً من عقلية المفكر وليس من عقلية الديبلوماسي أو كاتب التعليقات الصحافية؟

- دعني أقول بداية انه عندما تجتمع لديك المسؤولية السياسية والديبلوماسية، وتبقى لديك الاهتمامات الفكرية والهموم القومية بالمعنى العام للهم القومي ولو بفهم جديد، لا يمكنك إلا أن تعيش في هذه الأيام قلقاً كبيراً. وسبب ذلك أن عليك أن تكون صادقاً مع نفسك كي تكون صادقاً مع الآخرين، وان تقوم بالنقد الذاتي من دون السقوط في جلد الذات. أنا، من موقعي في باريس، وهو موقع متواصل منذ سبع سنوات، ويمتد الى صفتي مندوباً دائماً، للجامعة العربية، في الاونيسكو، لا أتعاطى فقط مع ما يسمى الديبلوماسية الرسمية، بل كذلك مع «الديبلوماسية العامة» أي مع سياسة التفاعل مع هذا المجتمع. ومن هنا أشعر انه حظ كبير للمرء ان يوجد في فرنسا، حيث ثمة اهتمام بالقضايا العربية على المستوى الثقافي العام كما على مستوى المجتمع. وفي فرنسا هناك خصوصاً قوة فكرية ضاربة. وهذا يسمح بحال حوارية مستمرة. انطلاقاً من هنا أقول لك انني لا اكشف سراً أو أقسو إن قلت اننا كعرب حالياً في مرحلة الخروج الكلي من صناعة المستقبل، معيدين دخولنا في الماضي، من دون أن يكون لنا حاضر. البعض يقول اننا نعيش نظاماً إقليمياً عربياً. لكن في الأمر مفارقة كبيرة: بقدر ما نحن منقطعون عن الاندماج في الأوجه الإيجابية للعولمة – وأنت تقر معي طبعاً بأن كل أوجه العولمة ليست سلبية -، بقدر ما يبدو أمننا وسياساتنا معولمة ومصنوعة في الخارج. بكلمات أخرى أنا لا أرى ان العرب، حالياً، يشاركون في صنع حاضرهم أو مستقبلهم. وحين أتحدث عن العرب هنا أعني العرب كقوة جامعة، وليس كل دولة عربية على حدة. ولا أتحدث طبعاً على مستوى السياسات اليومية أو العلاقات السياسية، بل على مستوى المفهوم الاستراتيجي لصنع السياسات. ولعل هذا الأمر يتضح اكثر ان نحن قارنا اليوم بالأمس غير البعيد، لنجد ان ليس لدينا اليوم عطاء سياسي حقيقي. فقط نكتفي بواحدة من طريقتين في التعامل: أما الانقطاع والانطواء على الذات بحثاً عن المستقبل في الماضي المجيد نتغنى به خوفاً على عذريتنا الفكرية او السياسية، وإما الانبطاح والتكيف الكامل مع الخارج غير آبهين بأن نكون في وضعية نشهد فيها فقط جزءاً منا يدخل الحركة التاريخية العالمية الجارية من دون أن يفعل فيها. وهذا مؤسف خصوصاً اننا نعلم ان لدينا إمكانات كبيرة كاملة، غير موظفة، مع ما يتبع ذلك من التباس بين القوة الكامنة والقوة الموظفة (...) انطلاقاً من هذا كله أرى أن ما أسميه السياسي غائب. واننا حين نتحاور نتحاور في الأيديولوجي، وحسبك ان تشاهد – مثلاً – برامج الحوارات التلفزيونية «السياسية» لتتيقن من هذا، حيث الحوار دائماً حول الـ «اليجب» و «اللابد»، ولا يكون أبداً حول كيف وأين ومتى.

> ترى لو طرحت عليك هذا السؤال نفسه قبل 50 سنة هل كان يمكن لجوابك ان يكون هو نفسه؟ أريد ان اصل الى جواب حول سؤال أساسي: كيف وصلنا الى هذه الحال؟ ما الذي أوصلنا الى هذا الواقع؟

- من دون شك هناك كثير من الأمور، ولا سيما مجمل العقائد والأفكار التي لا أريد الدخول هنا في تفاصيلها...

> هل تريد أن تتحدث هنا عن أسطورة «المستورد»؟

- لا... لا.. أنا أرفض أي حديث من هذا النوع. في العالم دائماً أفكار علمية وعقلانية يتم تبادلها بين الشعوب، ما يؤدي الى تلاقح فكري خلاق. ليس هناك في الفكر مستورد ومحلي، هناك درجات في المستورد وفي المحلي. المشكلة عندنا هي أن معظم الأفكار والعقائد جرى تطويعها، في مراحل معينة ضمن سياسات معينة، فأفقدها جوهرها وصدقيتها ما أدى بالتالي الى رفضها. وهذا ما أدخلنا، في رأيي، داخل صحراء فكرية، فكان لا بد – مرة أخرى – من ان نعود الى الماضي الجميل كما نراه في مخيلتنا نترجمه في شكل رومانسي، غير آبهين بأن هذه العودة لا يمكن ان تكون عملية على الإطلاق.

> هذا هو التشخيص مرة أخرى... لذا أود لو تقول لي من أين تنبع هذه المشكلة؟

- أعتقد بأن المشكلة الأساسية عندنا ذات شقين، أولهما فقدان الدينامية الاجتماعية، حيث من الواضح ان مجتمعاتنا صودرت باسم الدولة، ثم صودرت الدولة باسم الحزب أو الشخص. ما يعني انه تمت دولنة المجتمع ثم شخصنة الدولة. وهو على عكس ما كان يجب ان يحصل من ان يكون كل شيء متجه نحو المجتمع. لأن ما ينبت من دينامية المجتمع، هو الذي يجب أن يحدد الخيارات والخطوط العامة لاتجاهات الدولة وليس العكس. والحقيقة ان هذه المصادرة هي التي أدت الى إغلاق المجتمعات وإسقاط السياسة لنعيش بدلاً من ذلك نوعاً من الخيال الرومانسي أو العقائدي ما جعلنا قليلي التأثير في الواقع الحقيقي وضئيلي القدرة على اللحاق يركب العالمية. عد مئة سنة الى الوراء وأقرأ ما كان يكتبه النهضويون العرب، كانوا يكتبون نصوصاً حية نابضة بالحياة تحاول ان تأخذ من أمهات الفكر العالمي لتربطه بالمجتمعات العربية آخذة في الحسبان الخصوصيات العربية للبحث عن أجوبة مستقبلية تتعلق بالتنمية والتطور. في المقابل، ها نحن منذ نصف قرن وأكثر نركض تارة باسم فلسطين، وتارة باسم الوحدة، من دون أي إطلالة حقيقية على المجتمع وتطوره. وكل هذا وسط منع وقمع متواصلين لا يمارسان فقط من فوق بل من أيضاً تحت. وهذا انتج قمعاً ذاتياً حجب التفكير وأكثر المحرمات الاجتماعية وخلق عقماً مرعباً...

> كأنك تقول هنا أن زمن الانقلابات العسكرية وما نتج منها من انظمة «تقدمية» أو «قومية» أو ما شابه نسفت العصر الليبرالي بما أدت اليه من إهمال لحياة الناس والمجتمع لمصلحة قضايا كبرى، قد تكون كلها محقة لكنها بدت عاجزة عن التحقق...

- في شكل أساسي قد أفهم في اطار تاريخي معين مسألة قيام الانقلابات العسكرية من دون ان أؤيدها، خصوصاً حين كانت تقوم تحت شعارات قومية، أو خلال المراحل الاستقلالية الأولى، لكن المشكلة هي ما حصل بعد ذلك باسم القضايا الكبرى، حيث باسم الهوية اضعنا الهوية، وباسم فلسطين همشنا فلسطين، وباسم القومية أضعفنا الحس القومي. لقد وجدنا أنفسنا أمام حال من الثنائيات القاتلة والمتقاتلة حيث نتحدث عن التحرير ثم نصادر المجتمعات. ونتحدث عن الحرية ونصادر الحرية ثم نتفرج عاجزين على احداث مصالحة بين القومي والدولي، وبين منطق الأمة ومنطق الدولة. ونتغنى بالماضي الخلاق، ثم نقتل حرية الإبداع والتفكير... وكل هذا أنتج جالاً من البؤس الفكري على صعيد المجتمع، ولكن ليس دائماً على صعيد الفرد لحسن الحظ. خذ مثلاً واحدة من المفارقات الكبرى في هذا المجال: حين يذهب مواطن عربي الى الخارج، ينجح حتى في بيئة غريبة عنه ينجح لأنه يتخلص أول ما يتخلص من ارثين سياسي واجتماعي يقمعانه في دياره ويمنعانه من التفكير. في أميركا مثلاً، يمكن لمواطن عربي أن يبدع ويعيش الديموقراطية كما يشاء. أما حين تتحدث أميركا، مثلاً، عن قيام الديموقراطية في بلادنا، يصبح هذا الكلام عن الديموقراطية أشبه بطعنة في ظهر المرحلة القومية! بات – بالتالي – كل من يتحدث عندنا عن الديموقراطية يعتبر «عميلاً أميركياً» في الداخل، أما إذا طالب هو نفسه بالديموقراطية في أميركا فيصبح بطلاً قومياً.
> ترى الا تعتقد بأن هذا يتلازم مع فكرة باتت واضحة الآن، وهي ان المواطن العربي صار داخل بلاده مواطناً موقتاً، طالما أن بلده نفسه صار موقتاً، ولا سيما منذ ذاعت أفكار القوميات العامة والدوائر التي ما فتئنا نوضع فيها خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ونعتبرها هدفاً يجب ان يلغي الخصوصيات المسماة «قطرية»: مرة دائرة عربية وأخرى أفريقية وثالثة إسلامية وهلمجرا...؟

- دعني أقول هنا ان عكس هذا الكلام يبدو لي صحيحاً ايضاً. وهناك تكمن مفارقة أساسية من مفارقات الفكر القومي الأيديولوجي العربي. إن الفكر القومي هذا كان في مرحلته الرومانسية يعتبر قيام جامعة الدول العربية سايكس – بيكو عربية، ما أدى الى استخدام كلمة «قطر» بدلاً من كلمة «وطن» للدلالة على ان الدولة القائمة ستظل منقوصة الشرعية، حتى تستقر على شكل دولة - أمة شاملة. الحقيقة ان من مآسي الفكر العربي انه تصور الأمة قوة فاعلة، مع ان الدولة هي القوة الحقيقية الفاعلة في الواقع. من هنا أوافقك وأقول لك ان احوالنا لن تستقيم تماماً إلا إذا كففنا عن القول إننا نعيش في دول مصطنعة «ركّبها» الغرب لنا. حسناً... ان معظم دول العالم الثالث، إن لم أتحدث عن دول أخرى، نشأت مصطنعة، لكنها عادت واستقرت وطنياً ضمن إطار دورة اقتصادية ودورة اجتماعية. فلماذا نحن نصر على أن نطرح الدولة القائمة كنقيض للأمة؟ لماذا نقول: «كل شيء أو لا شيء؟ أنا في اعتقادي انه حين يصبح مفهوم الوحدة العربية – ولا أتحدث هنا أبداً عن مفهوم القومية العربية – مفهوماً تدريجياً وتكاملياً في إطار الاقتصاد والمصالح العملية المتبادلة، سيكون في إمكاننا ان نتقدم خطوات. أنا أقول وأكرر دائماً، ان توسيع طريق بين عاصمتين عربيتين هو أهم ألف مرة من ألف بيان قومي. وتسهيل إجراءات التنقل بين بلدين عربيين أهم ألف مرة من ألف بيان قومي أو مؤتمر قومي. اليوم صارت الدول الوطنية حقائق قائمة فلنهدأ قليلاً ولنركز أفكارنا نفسياً ولنفهم أن الهوية نفسها صارت اليوم هوية مركبة على صعيد العالم، بدءاً من الانتماء الى القرية أو الحي وصولاً الى الانتماء الى العالم. ومن هنا أقول لك بكل صراحة انني أنا، ابن قرية لبنانية اعتز بلبنانيتي، وأعيش عروبتي فكرياً وحضارياً من دون فصلها عن ثقافتها الإسلامية التي تتجاوز العصبيات الضيقة.

> ومع هذا كله، خيل إلينا في معمعان هزيمة العام 1967 ان الفكر العربي أفاق بعد أن كان استقال طويلاً، واكتفى خلال عقدين قبل ذلك بتأليف المدائح والأغاني للزعماء. خلال عقدين على الأقل لم نقرأ في ذلك الحين أي نقد ذاتي ولو لتجربة العلاقة مع هتلر مثلاً أو للتجارب الانقلابية. مع وقوع الهزيمة اكتشف فكر عربي معين ان الهزيمة بمقدار ما كانت هزيمة جيوش وأنظمة كانت هزيمة فكرية أيضاً، فكانت نهضة فكرية ثانية كان النقد، النقد الذاتي محركها، فأين أصبحت هذه النهضة الآن؟

- الحقيقة اننا يجب ان نعود الى أبعد من 67 زمنياً، الى مرحلة انهيار الحلم الرومانسي مع صدمة قيام إسرائيل وتبيّن خواء الحركات التحررية والاستقلالية من أي مضمون طالما اننا فهمنا من حركات التحرر جانبها الرفضي أو السلبي فقط، أي ما لا نريده أي بقاء الاستعمار، عاجزة عن التحوّل بعد ذلك إلى تحقيق ما كان يجب أن تريده أي بناء الأوطان والمجتمعات وتنميتها. وإذ أقول هذا أعود إلى العام 1967 لأذكر حكاية بسيطة: في ذلك الحين كنت تلميذاً في المدرسة وكنت في الخامسة عشرة من العمر. رحت أقف وأعدّد وأجمع عدد الطائرات التي كان يُقال لنا اننا أسقطناها. بعد ذلك بانت الحقيقة وقتلت أمانينا... ولا شك في أن كثراً من أمثالي انتهى بهم الأمر إلى الاستقالة من السياسة.

> لكن كثراً من المفكرين العرب أفاقوا ودخلوا السياسة من خلال أفكارهم وكتبهم الراديكالية والنقدية...

- بالضبط... لم يكن ممكناً لهزيمة 1967 أن تمرّ على المجمعات العربية من دون أن تحدث ما يمكنني أن أسمّيه جنوحاً إلى الراديكالية، فيما حدث لدى البعض الآخر انبزاغ فكر نقدي... وهذه طاهرة طبيعية وصحّية. غير أن الواقع يقول لنا إن معظم النتاجات العميقة والصائبة لتلك المرحلة، قد تمّت مصادرته – ولا أقول، رقابياً، بل أقول اجتماعياً أيضاً – ولم يسمح له أن ينخرط في عملية التأثير في المجتمع وتحويله. من هنا ظل هذا الفكر نخبوياً. في المقابل حدث العكس بعد ذلك بعقود، مع ظهور الفضائيّات التي أدّت، مبدئياً، إلى دمقرطة أكثر قوة للمجتمعات العربية، لكنها في الوقت نفسه سمحت ببروز شتّى أنواع الديماغوجيات والشعبويات، من دون أن يعني هذا كله أن المناخ الذي خلق في المحصلة الأخيرة سمح بوجود تفاعل خلاّق بين شتّى المناطق العربيّة، كما بين المغترب والوطن. هناك إيجابيات كثيرة في هذا المجال، ولكن هناك سلبيات أهمها أن الشعبويات هي الأقدر على الوصول إلى الناس لأنها تحمل أجوبة تبسيطية وقدرة على فرض الشعار، لا يملكها أصحاب الفكر الجديد، الذي يحتاج شرحاً عقلانياً ليصل إلى مَن يجب أن يصل إليهم. وهذا، في اعتقادي، واقع يجب أن تبذل محاولات جادّة ودؤوبة لتغييره...

> ولكن مَن الذي يجب أو يمكن أن يغيّره؟ وفي أي اتجاه؟

- مرة أخرى لا بد من أن نعود هنا إلى مسؤوليّة المثقف. هذا المثقف الذي عليه، أول الأمر، أن يحمل التزاماً واضحاً له علاقة مباشرة بمستقبل وطنه ورقيّ مجتمعه. من هنا لا بد من أن يندرج تحرّكه في إطار المجتمع. هنا أودّ أن أفتح هلالين لأقول مرّة أخرى أننا، في الثقافة السياسية العربية، حين لا نؤله الشخص، نؤله الدولة. وفي الحالين ننسى الأساس: ننسى المجتمع، كما لو أن الدولة منقطعة عن المجتمع. وهذا، في رأيي، من أسوأ ممارسات الفكر. وحتى اليوم حين نتحدث عن «المجتمع المدني» – وهو مفهوم راقٍ وبات شديد الضرورة في عالمنا – نجد أن البعض يستخدمه كمهرب والبعض الآخر كفزّاعة. بل ثمّة مَن يحارب المصطلح معتبراً إياه «أميركياً»... في نهاية الأمر علينا أن نعود إلى المجتمع. فكل شيء يبدأ من هنا، من هذه القاعدة الواسعة التي هي حقيقة قائمة، ومنبت للفكر والتفاعل، هي التي يمكن ويجب أن تجدد الأولويات والأطر التي ترسم حركة التاريخ. علينا أن نعود إلى الاستثمار في البشر، في الإنسان، في المجتمع...

> ولكن كيف؟ في الماضي كانت هناك أحزاب ونقابات وحركات طلابية. كان يوجد نوع من التنافس على الوعي والنوعيّة، بين قوى كانت صاحبة مشاريع مستقبلية.

- صحيح. لكن مشكلة معظم تلك القوى كانت تكمن في أنها لم تكن تسعى في نهاية الأمر إلا إلى الوصول إلى سلطة ما. اليوم ثمّة أمور كثيرة قد تبدّلت. لم يعد الإمساك بالسلطة مباشرة هو الأساس. صار هناك شيء واضح اسمه ثقافة المواطنة، حيث تبرز مسؤولية كل مواطن، سواء تطلع إلى استلام السلطة السياسية ولم يفعل. في هذا المعنى نشهد في مجتمعات كثيرة ظهور قوى ضغط مدنية اجتماعية تزداد قوّة في دفاعها عن حقوق الناس وعن رفاهيّة المجتمعات جاعلة من نفسها قوّة مراقبة على السلطات. هذه القوى التي تحمل اسم الهيئات أو المنظمات غير الحكومية باتت من القوّة والانتشار والتفاعل بحيث صارت مؤشراً أساسياً على حيوية المجتمع وتقدّمه. غياب مثل هذه القوى يعني، في عرفي، أنّ المجتمع يصبح أشبه بمستنقع راكد...

> ومع هذا، إذا عدنا إلى العمل العربي المشترك يرى كثر أن الثقافة هي اليوم المكان الوحيد الذي قد يمكن فيه للتلاقي العربي، الوحدوي إذا شئت، أن يكون واقعاً وفاعلاً ومفيداً...

- أوافقك على الفور وأزيد أن الوعاء الثقافي الذي يجمع بين العرب يرسم أرضيّة خصبة جداً وأكاد أقول سهلة جداً من أجل عملية توحيد سياسي. أنا، على أي حال، حين أتحدث عن هذا التوحيد لا أعني أي نوع من اندماجية باتت خيالية الآن، بل أعني أقصى درجات التعاون والتنسيق سواء تعلق الأمر بالسياسة في مفهومها العام، أو بالاقتصاد..

> د. ناصيف حتّي، نعرف من خلال متابعة نشاطاتك ضمن اطار مكتب الجامعة العربية في باريس، وضمن إطار الاونيسكو، أنك تمارس نوعاً من الوحدة الثقافية العربية من خلال اتصالات دائمة مع مثقفين ومفكرين عرب يعيشون هنا في العاصمة الفرنسية أو يمرّون بها. ونعرف أن هذا الدور، الذي كان غائباً دائماً، بات لافتاً وينال ثناء من كل المثقفين العرب الذين التقيناهم... لكني هنا أود أن نبتعد عن الحديث المؤسساتي، على أهميته، لأسألك عن كيف ترى أنت، كمفكر عربي لبناني، وأستاذ جامعي، دور المثقف في الواقع العربي الراهن. ما هو دور المثقف في رأيك، إن كان له حقاً دور، وما هي معوقات هذا الدور وما هي آفاقه؟

- أنا أعتقد بأن للمثقف العربي اليوم دوراً أساسياً يشكل تحدياً كبيراً له، عليه أن يجيب عليه. فمثقف اليوم لم يعد – أمام انتشار وسائل إيصال الأفكار ولاسيما الشعبية والجماهيرية منها – يستطيع أن يهرب من مسؤولياته تجاه قضايا مجتمعه، إياً كان انتماؤه العقائدي. وفي يقيني أن ليس ثمّة إنسان لا يملك انتماءً فكرياً ما، لكن لا أحد يمكنه أن يأتي بقوالب جاهزة، لأن مَن يفعل هذا لن يكون له أي تأثير في مجتمعه. فمثقفنا اليوم، كي يكون فاعلاً وهادفاً مع نفسه, لا يمكنه إلا أن يكون منفتح العقل أمام العصر، واعياً وعياً نقدياً أمام التاريخ والماضي. عليه أن يكون صاحب رأي نيّر وصادق وواضح تجاه كل القضايا التي يعاني منها مجتمعه..

> إلى مّن سيوجّه خطابه في رأيك ومن طريق أي قنوات اتصال؟

- بالكتابة، بالراديو، بالتلفزيون عن طريق الحوار... وفي ذهنه دائماً أنه إنما يوجّه الخطاب إلى المجتمع ككل. إلى كل أبناء المجتمع أصحاب المصلحة في الإطلال حقاً على المستقبل، من دون نكران أصالة الماضي.

> أراك تتحدث كثيراً عن إمكانية استخدام التلفزيون...؟

- أجل... تحديداً لأني أرى أن التلفزيون هو الجهاز الأكثر ديموقراطية في منظومة الاتصالات لأنه يصل إلى الجميع ولا يكلف شيئاً لمن يريد أن يوصل رسالته عبره، شرط أن يكون قادراً على أن يوصل أفكاره في لغة بسيطة مقنعة إلى مختلف زوايا العالم العربي والمهاجر. أن أظن مسؤولية أساسيّة على المثقف تكمن هنا، ضمن إطار معلوماته واختصاصه وسلطته، خصوصاً ان في إمكان كل مثقف وكل صاحب رأي أن يلعب على تناقضات المحطات المتنافسة، وعلى متناقضات المصالح المتضاربة، مستفيداً من عجز الرقابات عن ممارسة دورها العقيم القديم. إن لم يستفد المثقف إيجابياً من هذا كله سيكون مستقيلاً فعلياً من دوره ومسؤولياته.

> هل استشف، أخيراً، من كلامك ضرورة التحالف الخلاّق والواعي بين المثقف العربي والمجتمع المدني؟

- لن أستعمل كلمة تحالف. أنا أفضّل أن أتحدث عن تماهٍ. وفي رأيي أنه لم يعد جائزاً للمثقف أن يدّعي دائماً بأنه يسبق مجتمعه أشواطاً كبيرة. لو فعل لاختفى. المثقف يجب أن يدرك أنه دائماً جزء من مجتمعه وأنه حين يوجّه الخطاب إلى هذا المجتمع محمّلاً إياه خلاصة فكره، فما هذا إلا لأن وظيفته تمكّنه من توليف الافكار، ومخيّلته تساعده على التفاعل مع المجتمع في تخيل أفضل طرق لولوج المستقبل.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...