حسن حنفي من دمشق: تراث «سي السيد» هو السائد عندنا

08-01-2007

حسن حنفي من دمشق: تراث «سي السيد» هو السائد عندنا

من يحكم الشارع هو الموروث الثقافي والثقافة الشعبية التي هي الوجهة السياسية اللاواعية في الذهن؛ ذلك باختصار لأننا كائنات تراثية..

هذا مايؤكده المفكر المصري حسن حنفي في هذا الحوار، الذي ننشره على حلقتين.. حنفي الذي يميز بين تراثين في العالم الإسلامي، تراث الحاكم وتراث المحكوم، وعلى مدى ألف سنة فقد ساد الأول على حساب الثاني تحديداً منذ أن ناصر الغزالي الأول. ولو قيض للعرب أن يستفيدوا من مشروع ابن رشد المخالف كما استفاد منه الغرب لما تقدموا، هم، وتخلفنا نحن ..!! ‏

في تفاصيل هذا الحوار مع د. حنفي أيضاً يقول إننا الى اليوم لانزال نفكر بمنطق «الفرقة الناجية» ومن ثم لاحل لنا سوى بالخطاب الثالث الذي غاب طويلاً والذي يعتبره مشروعه منذ سنوات ويقصد بـ «اليسار الإسلامي» الذي لأجله يصدر دورية بالاسم ذاته يطرح فيها تفاصيل هذا المشروع، ذلك لأننا أمة في بداية التاريخ بعكس الغرب الذي أصبح في نهايته... 
 - عندما يذكر المفكر حسن حنفي تخطر في البال مسألتان ينادي بهما: الثقافة الشعبية واسلام اليسار.. أولاً: كيف يصف د. حنفي هذه الثقافة الشعبية وهل هي بديل عن مسألة راهنة فقدت فعاليتها؟ ‏

هناك الثقافة العالمة التي تحملها النخبة، هذه الثقافة لاتؤثر في الشارع، مجالها محصور في الرؤية للمثقفين.. والنخبة يتحكمون في الحراك السياسي. هذا صحيح لكن من يتحكم في الشارع فهو الموروث الثقافي الذي تحول بعد عدة أجيال وقرون الى موروثات شعبية، الى أمثال شعبية.. فآيات القضاء والقدر تتحول الى أمثال عامية من النوع نفسه هذا الموروث هو مايحدد اليوم تطورات الناس ويعطيها موجهات السلوك.. أي أصبحت الثقافة الشعبية للشعوب تقوم بدور الوجهة السياسية اللاواعية في الذهن.. وأصبحت من القوة بمكان..!! ‏

وبالتالي الموروث الثقافي الآن يقوم بدور الأيديولوجيا السياسية، وهو الذي تستثمره الحركات الدينية في تجنيد الناس..!! ‏

ہإذاً.. قد يستخدم ليس لصالح الشعوب وليس ضدها؟ ‏

ہہ التحدي الكبير برأي غرامشي: هو كيف يمكن أن تحول الثقافة الشعبية الى ايديولوجيا سياسية لصالح الشعوب وليس ضدها بعملية تحليل عقلانية وحرة وهذه مسألة تحتاج لجهود كبيرة فالسياسي يعتمد على الثقافة الشعبية من أجل الترويج والإعداد لبرنامج سياسي أكثر مما يتكلم عن قوانين الجدل إن كان ماركسياً، أو عن الحريات العامة إن كان ليبرالياً، أو عن القواسم المشتركة بين الشعوب العربية إن كان قومياً.. فثقافة النخبة ربما لاتنجح في تجنيد الناس لكن المهم كيف يعاد بناؤها وصياغتها..! ‏

من هنا يستطيع المثقف الثوري، أو العفوي كما سماه غرامشي، أن يأخذ الثقافة الشعبية ويعيد بناءها حيث تخدم قضايا الناس أكثر ما تخدم قضايا الحكام أو فئات معينة... ‏

- ہحديثك عن الموروث يقودنا للحديث عن التراث.. وكما تعلم فإننا نملك كعرب تراثاً ضخماً وغنياً.. لكن لاأخفيك أنه رغم هذا الغنى والضخامة فأنا أشعر بعبء هذا التراث الذي بدل أن يدفعنا الى الأمام أجده يشدنا باتجاه الخلف..؟ ‏

ہہنعم التراث موجود في الأذهان والعقول وفي القلوب كواقعة تاريخية حتى عند العلمانيين مع أنهم يهربون منه والكثير من الماركسيين تحولوا تراثيين وفي ذهني اسماء كثيرة نحن كعرب كائنات تراثية.. لكن أيضاً التراث ليس واحداً بل هو تراثان تراث الحاكم وتراث المحكوم، تراث السلطة وتراث المعارضة تراث (سي السيد) المركزي وتراث الأولاد والأحفاد المعارضين، وقد صور نجيب محفوظ في الثلاثية هذا الأمرجيداً و«سي السيد» في تراثنا يشكل تصوراً هرمياً للعالم يؤكد أن القمة لها قيمة أكثر من القاعدة، وأن القمة تأمر والقاعدة تطيع، ذلك لون من ألوان التراث الذي استقر منذ الغزالي في القرن الخامس... ‏

ہكيف ؟ ‏

ہہعندما وجد الغزالي أن العالم الإسلامي في ورطة، وأن الدولة العباسية ضعيفة والصليبيين على الأبواب، آثر أن يقوي سلطة بغداد، وارسى لها النظام بالملك، بالمدرسة النظامية، فأفرد فيها ثقافة السلطة وليس ثقافة المعارضة وعمم ذلك على الناس فقد اعطى السلطان كما الله، لكن الله بعلمه والسلطان بأجهزته الأمنية، وركز على الناس في إحياء علوم الدين والصبر والتوكل والورع والخشية.. الى آخر هذه الأشياء وبرر السلطة بالشوكة وليس بالبيعة، بمعنى أي حاكم يأتي بالانقلاب هو حاكم شرعي، وكفر المعارضة: الاعتزالية، الباطنية، الخارجية.. وجعل المذاهب كلها مذهباً واحداً.. وحتى الآن نحن في ضربة الغزالي الأحادية الطرف، بل انه أضاف جزءاً في العقائد فيما يجب تكفيره من الفرق وأوجد حديثاً مشكوكاً فيه «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة جميعها في النار إلا واحدة» يعني: «اثنان وسبعون اجتهاداً هالكاً إلا اجتهاد الحكومة الناجية..!! ‏

ہوقبل الغزالي كيف كان الأمر؟ ‏

ہہقبل الغزالي كنا متعددين وكان لدينا تراث متعدد والكل يتحاور والقرن الرابع كان عصراً ذهبياً، عصر البيروني والتوحيدي.. الغزالي قضى على ذلك التعدد لأجل أحادية النظرة وأحادية الاختيار الذي اعطى فيه الأولوية للحاكم.. ومن ثم التراث الذي استقر منذ ألف عام هو تراث الغزالي، تراث السلطة، الذي تقدره النظم السياسية اليوم، فتروج له في وسائلها الإعلامية من خلال أحاديث الروح وأحاديث الفكر الديني والموالد والأعياد، ذلك لأنها كلها تعطي السلطة لسي السيد..!! ‏

ہ واليوم كيف يمكن رد الاعتبار للتعدد ماقبل الغزالي؟ ‏

ہہهذا هو التحدي أمام المثقف كيف يستطيع رد الاعتبار للثقافة المعارضة لثقافة المعتزلة التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن ثم التوحيد يكون بالعدل، الذي هو أساس التوحيد: الرأي بالرأي، والحب بالحب، والبرهان بالبرهان، وليس بالضرورة التنظيمات السرية، أو ثقافة الخوارج التي تعترض على الحاكم بالسلاح.. ‏

إذاً ثمة جانب آخر في التراث أكثر تقدماً من الذي استقر وأكثر خدمة؛ لكن لا السلطان يريده، لأنه معارض ولا الشعب يريده لأنه يكفره، ومن ثم ماأحاوله اليوم واسميه «اليسار الإسلامي» والإسلام الثوري، أو الاسلام التقدمي، أراه ناجعاً لكنه محاصر أيضاً بين الحكومات وبين تحركات دينية وأخرى علمانية..!! ‏

وهذا ماتسميه بالخطاب الثالث؟ ‏

ہہ نعم.. خطاب ثالث يستطيع أن يحقق المشروع العربي الجديد ابتداءً من الموروث، ولكن ليس الموروث المحافظ، ولكنه الموروث الذي نحي جانباً من أيام الغزالي أي العودة من جديد الى المعارضة ـ الثقافية هنا ـ من داخل التراث وليس من خارجه..!! ‏

ہتؤكد أن الخطاب الثالث لايزال في الموروث، لكن البعض يراه في الفلسفة التي تراجعت من بعد ابن رشد، ومن ثم غلبة الشريعة الشكلانية؟ ‏

ہہهذا صحيح تماماً، بعد الغزالي وهجومه على الفلاسفة: المعتزلة وعلى كل الفرق المعارضة الأخرى استتب الأمر لتراث الحاكم السلطة ـ كما أسلفت ـ وقد حاول ابن رشد في الأندلس رد الاعتبار للفلاسفة ولكل الفرق الأخرى وقال بالنظر الذي اعتبره واجباً شرعياً على المسلم، التأمل، التفكير.. ورد على الغزالي في «تهافت التهافت». ‏

كما ردّ الاعتبار للفقه المالكي، وإعطاء الأولوية للمصالح العامة.. لكنه ـ ابن رشد ـ كان بعيداً في الأندلس، ولم يستطع أن يزحزح أثر الغزالي في ذلك، حتى بدت القرون، السابع، الثامن، التاسع،والعاشر وكأنها لا وجود له فيها، في حين برزت التيارات المحافظة الرئيسية التي استقرت الى اليوم: الغزالي، الشافعي، والأشعري.. ‏

ہ مع أن الغرب استفاد من ابن رشد؟ ‏

ہہ ذلك عندما ترجم ابن رشد الى اللاتينية، حيث وجد فيه المسيحيون في القرون الوسطى المتأخرة دعوة للعقلانية، وإلى النظر، والى العلم و..الى تحديث قوانين الطبيعة، حتى كان أحد الأسباب في النهضة الأوروبية. أما عندنا فكانت ضربة الغزالي قاتلة، ولم يستطع ابن رشد إنقاذ العالم الإسلامي من سيطرة المحافظة الدينية، والغرب يعلم ذلك جيداً..!! ‏

ہ كيف يعرف الغرب ذلك: ‏

ہہ في كل مرة يشعر فيها الغرب أنه في ورطة، يستغل هذه «المحافظة الدينية» أشد استغلال، مثال على ذلك: في عام 1987 قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكان العالم كله معجباً بأطفال الحجارة، وللخروج من هذا المأزق طلع عليها «بآيات» سلمان رشدي المعروفة، وبدأ يصورنا على أننا لا نتحمل حرية الفكر، ولا نتحمّل كاتباً يؤلف رواية.. الأمر نفسه يتكرر اليوم بالرسوم الدانماركية، بعد مأزق أميركا في العراق، وبدل التكاتف حول المسجد الأقصى والقدس والدماء الفلسطينية والعراقية، توجه الأنظار باتجاه بعيد جداً.. هنا الغرب هو من كسب، جعل من نفسه بطل حرية التعبير، وغطّى كل معاركنا الكبرى.. وأسأل: لماذا لا نقاطع البضائع الأميركية والبريطانية والإسرائيلية، ونسحب سفراءنا من عواصمهم احتجاجاً على ما يجري في فلسطين والعراق؟ أقول: الغرب يعرف هذه «المحافظة» عند المسلمين، لأنه في كل مرّة يسجّل فيها المسلمون مقاومة يجعلونها خارج الشباك بإثارة هذه «المحافظة»..!! ‏

ہ أفهم من كلامك ليس اليوم ثمة مشاريع فلسفية في العالم العربي والإسلامي؟ ‏

ہہ بعد نكبة 1948 تساءل شكيب أرسلان: لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم غيرهم؟ وبعد نكسة 1967 بدأ العرب يتساءلون: لماذا انتصرت «إسرائيل» هذا الانتصار الساحق، وهُزم العرب؟.. بعدها خرجت مشاريع عربية معاصرة في المغرب ومصر والشام تسأل هذا السؤال: كيف ندرأ الهزيمة؟ هل هناك عيب في العقل العربي؟ هل العيب أننا ندخل معاركنا بأسلحة قديمة؟ والبعض نادى بإعادة تجديد التراث، وإعادة هيكلة المنظومة الثقافية من جديد. إذاً: هناك مشاريع عربية نشأت كلها بعد 1967: نقد العقل العربي، التراث والتجديد، من التراث الى الثورة، نقد الفكر الديني.. لكن أتساءل: هل هذه الأمور تستطيع أن تحوّل الأمة من هزيمة الى نصر؟.. أقول: هي ما مازالت رؤى ثقافية، وخيارات فردية، مازالت اتجاهات نخبوية..!! ‏

ہ ومشروعك إسلام اليسار، أو اليسار الإسلامي كيف تصنّفه؟ ‏

ہہ اليسار الإسلامي، أريد فيه أن أحوّل التراث والتجديد من مشروع علمي الى منبر شعبي، حتى يستطيع أن يجدد الناس، لأن المقاومة تبدأ من الداخل، أدعو لإعادة تأويل التراث، ولكن كحامل لتحديات العصر في تحرير الأرض، وتأمين حرية المواطن، وفي تحقيق العدالة الاجتماعية، وتحقيق وحدة الأمة، والدفاع عن الهوية، وحشد الناس وتجنيد الجماهير..!! ‏

ہ لكن أليس هذا فكراً أو ثورة طوباوية؟ ‏

ہہ ذلك لأن الإسلام السلفي لا يريد أن يتعاون مع الأفكار الجديدة، والحكومات تعتبرها معارضة، فتم حصار «اليسار الإسلامي» فهو متهم من الإسلاميين على أنه ماركسية، ومتهم من الماركسيين على أنه أصولية مقنعة ومتهم من الدولة أيضاً. بصراحة، نحن بحاجة الى هذا الخطاب الثالث حتى نتجاوز الاستقطاب المعروف بين الخطابين: العلماني الذي يتقهقر، والسلفي الذي يتقدّم..!! ‏

علي الراعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...